منتديات اهل البيت عليهم السلام _ البوابة للعلم والمعرفة
الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره) 0313_1f3cd11726cf1


السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة اخي اختي العزيز/ه حياكم الله وبياكم وجعل الجنة مثوانا ومثواكم المنتدى حديث وبحاجه الى المزيد من المبدعين عزيزناعليك التسجيل اولا قبل الدخول
ملاحظة نرحب بالاخوه المخالفين للمناقشه بشكل حضاري وثقافي

منتديات اهل البيت عليهم السلام _ البوابة للعلم والمعرفة
الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره) 0313_1f3cd11726cf1


السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة اخي اختي العزيز/ه حياكم الله وبياكم وجعل الجنة مثوانا ومثواكم المنتدى حديث وبحاجه الى المزيد من المبدعين عزيزناعليك التسجيل اولا قبل الدخول
ملاحظة نرحب بالاخوه المخالفين للمناقشه بشكل حضاري وثقافي

منتديات اهل البيت عليهم السلام _ البوابة للعلم والمعرفة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات اهل البيت عليهم السلام _ البوابة للعلم والمعرفة

منتدى ( ديني )( اجتماعي ) ( حضاري )( ثقافي )( علمي )( برامج العاب كمبيوتر )( فتاوي عامة )( مرئيات صوتيات )( تفسير احلام ) ( تقارير مصورة)
 
الرئيسيةبوابهأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
علي احمد الوائلي
مدير عام المنتدى
مدير عام المنتدى
علي احمد الوائلي


رقم العضوية : 52
الجنــس : ذكر
المواليد : 01/03/1972
التسجيل : 06/02/2013
العمـــــــــــــــــر : 52
البـــــــــــــــــرج : السمك
الأبـراج الصينية : الفأر
عدد المساهمات : 979
نقـــــــــاط التقيم : 2363
السٌّمعَــــــــــــــة : 0
علم بلدك : العراق
100%
15000
الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره) Jb12915568671

الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره) Empty
مُساهمةموضوع: الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره)   الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره) Emptyالأحد يونيو 02, 2013 12:17 am

الآيات 15-19

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا
مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ
جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴿15﴾ يَهْدِي بِهِ اللّهُ
مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ
الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ ﴿16﴾ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ
أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي
الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿17﴾
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ
مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
﴿18﴾ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ
وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿19﴾



بيان:

لما ذكر تعالى أخذه الميثاق من أهل الكتاب على نصرة رسله وتعزيرهم وعلى حفظ
ما آتاهم من الكتاب ثم نقضهم ميثاقه تعالى الذي واثقهم به دعاهم إلى
الإيمان برسوله الذي أرسله وكتابه الذي أنزله، بلسان تعريفهما لهم وإقامة
البينة على صدق الرسالة وحقية الكتاب، وإتمام الحجة عليهم في ذلك: أما
التعريف فهو الذي يشتمل عليه قوله: ﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين
لكم كثيرا﴾ إلخ، وقوله: ﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة﴾
إلخ.



وأما إقامة البينة فما في قوله: ﴿يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون﴾ إلخ فإن
ذلك نعم الشاهد على صدق الرسالة من أمي يخبر بما لا سبيل إليه إلا للأخصاء
من علمائهم، وكذا قوله: ﴿يهدي به الله من اتبع رضوانه﴾ إلخ فإن المطالب
الحقة التي لا غبار على حقيتها هي نعم الشاهد على صدق الرسالة وحقية
الكتاب.



وأما إتمام الحجة فما يتضمنه قوله: ﴿أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير﴾.



وقد رد الله تعالى عليهم في ضمن الآيات قول البعض: ﴿إن الله هو المسيح بن مريم﴾ وقول اليهود والنصارى.



﴿نحن أبناء الله وأحباؤه﴾. قوله تعالى: ﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا
يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير﴾ أما بيانه كثيرا
كانوا يخفون من الكتاب فكبيانه آيات النبوة وبشاراتها كما يشير إليه قوله
تعالى: ﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في
التوراة والإنجيل﴾: الآية الأعراف: 175 وقوله تعالى: ﴿يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم﴾ الآية: البقرة: 164 وقوله: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على
الكفار رحماء بينهم - إلى قوله - ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل﴾
الآية: الفتح: 29 وكبيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) حكم الرجل الذي كتموه
وكابروا فيه الحق على ما يشير إليه قوله تعالى فيما سيأتي: ﴿لا يحزنك الذين
يسارعون في الكفر﴾ الآيات: المائدة: 41 وهذا الحكم أعني حكم الرجم موجود
الآن في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التثنية من التوراة الدائرة بينهم.



وأما عفوه عن كثير فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب، ويشهد بذلك
الاختلاف الموجود في الكتابين، كاشتمال التوراة على أمور في التوحيد
والنبوة لا يصح استنادها إليه تعالى كالتجسم والحلول في المكان ونحو ذلك،
وما لا يجوز العقل نسبته إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور
والزلات، وكفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس ولا يقوم دين على ساق إلا
بمعاد، وكاشتمال ما عندهم من الأناجيل ولا سيما إنجيل يوحنا على عقائد
الوثنية.



قوله تعالى: ﴿قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين﴾ ظاهر قوله: ﴿قد جاءكم من
الله﴾ كون هذا الجائي قائما به تعالى نحو قيام كقيام البيان أو الكلام
بالمبين والمتكلم وهذا يؤيد كون المراد بالنور هو القرآن، وعلى هذا فيكون
قوله: ﴿وكتاب مبين﴾ معطوفا عليه عطف تفسير، والمراد بالنور والكتاب المبين
جميعا القرآن، وقد سمى الله تعالى القرآن
نورا في موارد من كلامه كقوله تعالى: ﴿واتبعوا النور الذي أنزل معه﴾:
الأعراف: 175 وقوله: ﴿فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا﴾: التغابن: 8
وقوله: ﴿وأنزلنا إليكم نورا مبينا﴾: النساء: 147.



ومن المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما
ربما أفاده صدر الكلام في الآية، وقد عده الله تعالى نورا في قوله:
﴿وسراجا منيرا﴾: الأحزاب: 46.



قوله تعالى: ﴿يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام﴾ الباء في قوله: ﴿به﴾
للآلة والضمير عائد إلى الكتاب أو إلى النور سواء أريد به النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) أو القرآن فمآل الجميع واحد فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد الأسباب الظاهرية في مرحلة الهداية، وكذا القرآن
وحقيقة الهداية قائمة به قال تعالى: ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله
يهدي من يشاء﴾: القصص: 56، وقال: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت
تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض
ألا إلى الله تصير الأمور﴾: الشورى: 53 والآيات كما ترى تنسب الهداية إلى القرآن
وإلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في عين أنها ترجعها إلى الله
سبحانه فهو الهادي حقيقة وغيره سبب ظاهري مسخر لإحياء أمر الهداية.



وقد قيد تعالى قوله: ﴿يهدي به الله﴾ بقوله: ﴿من اتبع رضوانه﴾ ويئول إلى
اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه، فالمراد بالهداية هو الإيصال
إلى المطلوب، وهو أن يورده الله تعالى سبيلا من سبل السلام أو جميع السبل
أو أكثرها واحدا بعد آخر.



وقد أطلق تعالى السلام فهو السلامة والتخلص من كل شقاء يختل به أمر سعادة الحياة في دنيا أو آخرة، فيوافق ما وصف القرآن
الإسلام لله والإيمان والتقوى بالفلاح والفوز والأمن ونحو ذلك، وقد تقدم
في الكلام على قوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾: الحمد: 6 في الجزء
الأول من الكتاب أن لله سبحانه بحسب اختلاف حال السائرين من عباده سبلا
كثيرة تتحد الجميع في طريق واحد منسوب إليه تعالى يسميه في كلامه بالصراط
المستقيم قال تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع
المحسنين﴾: العنكبوت: 69، وقال تعالى: ﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا
تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾: الأنعام: . 135 فدل على أن له سبلا
كثيرة لكن الجميع تتحد في الإيصال إلى كرامته تعالى من غير أن تفرق سالكيها
ويبين كل سبيل سالكيه عن سالكي غيره من السبل كما هو شأن غير صراطه تعالى
من السبل.



فمعنى الآية - والله العالم -: يهدي الله سبحانه ويورد بسبب كتابه أو بسبب
نبيه من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة
الدنيا والآخرة، وكل ما تتكدر به العيشة السعيدة.



فأمر الهداية إلى السلام والسعادة يدور مدار اتباع رضوان الله، وقد قال
تعالى: ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾: الزمر: 7، وقال: ﴿فإن الله لا يرضى عن
القوم الفاسقين﴾: التوبة: 96 ويتوقف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم
والانخراط في سلك الظالمين، وقد نفى الله سبحانه عنهم هدايته وآيسهم من نيل
هذه الكرامة الإلهية بقوله: ﴿والله لا يهدي القوم الظالمين﴾: الجمعة: 5
فالآية أعني قوله: ﴿يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام﴾ تجري بوجه
مجرى قوله: ﴿والذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم
مهتدون﴾: الأنعام: 82.



قوله تعالى: ﴿ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه﴾ في جمع الظلمات وإفراد
النور إشارة إلى أن طريق الحق لا اختلاف فيه ولا تفرق وإن تعددت بحسب
المقامات والمواقف بخلاف طريق الباطل.



والإخراج من الظلمات إلى النور إذا نسب إلى غيره تعالى كنبي أو كتاب فمعنى
إذنه تعالى فيه إجازته ورضاه كما قال تعالى: ﴿كتاب أنزلناه إليك لتخرج
الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم﴾: إبراهيم: 1 فقيد إخراجه إياهم من
الظلمات إلى النور بإذن ربهم ليخرج بذلك عن الاستقلال في السببية فإن السبب
الحقيقي لذلك هو الله سبحانه وقال: ﴿ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج
قومك من الظلمات إلى النور﴾: إبراهيم: 5 فلم يقيده بالإذن لاشتمال الأمر
على معناه.



وإذا نسب ذلك إلى الله تعالى فمعنى إخراجهم بإذنه إخراجهم بعلمه وقد جاء
الإذن بمعنى العلم يقال: أذن به أي علم به، ومن هذا الباب قوله تعالى:
﴿وأذان من الله ورسوله﴾: التوبة: 3: ﴿فقل ءاذنتكم على سواء﴾: الأنبياء:
190، وقوله: ﴿وأذن في الناس بالحج﴾: الحج: 27 إلى غيرها من الآيات.



وأما قوله تعالى: ﴿ويهديهم إلى صراط مستقيم﴾، فقد أعيد فيه لفظ الهداية
لحيلولة قوله: ﴿ويخرجهم﴾، بين قوله ﴿يهدي به الله﴾، وبين هذه الجملة، ولأن
الصراط المستقيم كما تقدم بيانه في سورة الفاتحة طريق مهيمن على الطرق كلها
فالهداية إليه أيضا هداية مهيمنة على سائر أقسام الهداية التي تتعلق
بالسبل الجزئية.



ولا ينافي تنكير قوله: ﴿صراط مستقيم﴾ كون المراد به هو الصراط المستقيم
الوحيد الذي نسبه الله تعالى في كلامه إلى نفسه - إلا في سورة الفاتحة -
لأن قرينة المقام تدل على ذلك، وإنما التنكير لتعظيم شأنه وتفخيم أمره.



قوله تعالى: ﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم﴾ هؤلاء إحدى
الطوائف الثلاثة التي تقدم نقل أقوالهم في سورة آل عمران، وهي القائلة
باتحاد الله سبحانه بالمسيح فهو إله وبشر بعينه، ويمكن تطبيق الجملة أعني
قولهم: ﴿إن الله هو المسيح بن مريم﴾ على القول بالبنوة وعلى القول بثالث
ثلاثة أيضا غير أن ظاهر الجملة هو حصول العينية بالإتحاد.



قوله تعالى: ﴿قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم﴾
وأمه ومن في الأرض جميعا﴾ الآية هذا برهان على إبطال قولهم: من جهة مناقضة
بعضه بعضا لأنهم لما وضعوا أن المسيح مع كونه إلها بشر كما وصفوه بأنه ابن
مريم جوزوا له ما يجوز على أي بشر مفروض من سكان هذه الأرض، وهم جميعا
كسائر أجزاء السماوات والأرض وما بينهما مملوكون لله تعالى مسخرون تحت ملكه
وسلطانه، فله تعالى أن يتصرف فيهم بما أراد، وأن يحكم لهم أو عليهم كيفما
شاء، فله أن يهلك المسيح كما له أن يهلك أمه ومن في الأرض على حد سواء من
غير مزية للمسيح على غيره، وكيف يجوز الهلاك على الله سبحانه؟! فوضعهم أن
المسيح بشر يبطل وضعهم أنه هو الله سبحانه للمناقضة



فقوله: ﴿فمن يملك من الله شيئا﴾ كناية عن نفي المانع مطلقا فملك شيء من
الله هو السلطنة عليه تعالى في بعض ما يرجع إليه، ولازمها انقطاع سلطنته عن
ذلك الشيء، وهو أن يكون سبب من الأسباب يستقل في التأثير في شيء بحيث
يمانع تأثيره تعالى أو يغلب عليه فيه، ولا ملك إلا لله وحده لا شريك له إلا
ما ملك غيره تمليكا لا يبطل ملكه وسلطانه.



وقوله: ﴿إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا﴾ إنما
قيد المسيح بقوله: ﴿ابن مريم﴾ للدلالة على كونه بشرا تاما واقعا تحت
التأثير الربوبي كسائر البشر، ولذلك بعينه عطف عليه ﴿أمه﴾ لكونها مسانخة له
من دون ريب، وعطف عليه ﴿من في الأرض جميعا﴾ لكون الحكم في الجميع على حد
سواء.



ومن هنا يظهر أن في هذا التقييد والعطف تلويحا إلى برهان الإمكان، ومحصله
أن المسيح يماثل غيره من أفراد البشر كأمه وسائر من في الأرض فيجوز عليه ما
يجوز عليهم لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، ويجوز على غيره
أن يقع تحت حكم الهلاك فيجوز عليه ذلك ولا مانع هناك يمنع، ولو كان هو
الله سبحانه لما جاز عليه ذلك.



وقوله: ﴿ولله ملك السموات والأرض وما بينهما﴾ في مقام التعليل للجملة السابقة، والتصريح بقوله: ﴿وما بينهما﴾ مع أن القرآن
كثيرا ما يعبر عن عالم الخلقة بالسماوات والأرض فقط إنما هو ليكون الكلام
أقرب من التصريح، وأسلم من ورود التوهمات والشبهات فليس لمتوهم أن يتوهم
أنه إنما ذكر السماوات والأرض ولم يذكر ما بينهما، ومورد الكلام مما
بينهما.



وتقديم الخبر أعني قوله: ﴿ولله﴾ للدلالة على الحصر، وبذلك يتم البيان،
والمعنى: كيف يمكن أن يمنع مانع من إرادته تعالى إهلاك المسيح وغيره ووقوع
ما أراده من ذلك، والملك والسلطنة المطلقة في السماوات والأرض وما بينهما
لله تعالى لا ملك لأحد سواه؟ فلا مانع من نفوذ حكمه ومضي أمره.



وقوله: ﴿يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير﴾ في مقام التعليل للجملة
السابقة عليه أعني قوله: ﴿ولله ملك السموات والأرض وما بينهما﴾ فإن الملك -
بضم الميم - وهو نوع سلطنة ومالكية على سلطنة الناس وما يملكونه إنما
يتقوم بشمول القدرة ونفوذ المشيئة، ولله سبحانه ذلك في جميع السماوات
والأرض وما بينهما، فله القدرة على كل شيء وهو يخلق ما يشاء من الأشياء فله
الملك المطلق في السماوات والأرض وما بينهما فخلقه ما يشاء وقدرته على كل
شيء هو البرهان على ملكه كما أن ملكه هو البرهان على أن له أن يريد إهلاك
الجميع ثم يمضي إرادته لو أراد، وهو البرهان على أنه لا يشاركه أحد منهم في
ألوهيته.



وأما البرهان على نفوذ مشيته وشمول قدرته فهو أنه الله عز اسمه، ولعله لذلك
كرر لفظ الجلالة في الآية مرات فقد آل فرض الألوهية في شيء إلى أنه لا
شريك له في ألوهيته.



قوله تعالى: ﴿وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه﴾ لا ريب أنهم
لم يكونوا يدعون النبوة الحقيقية كما يدعيه معظم النصارى للمسيح (عليه
السلام) فلا اليهود كانت تدعي ذلك حقيقة ولا النصارى، وإنما كانوا يطلقونها
على أنفسهم إطلاقا تشريفيا بنوع من التجوز، وقد ورد في كتبهم المقدسة هذا
الإطلاق كثيرا كما في حق آدم ويعقوب وداود وإقرام وعيسى وأطلق أيضا على
صلحاء المؤمنين.



وكيف كان فإنما أريد بالأبناء أنهم من الله سبحانه بمنزلة الأبناء من الأب،
فهم بمنزلة أبناء الملك بالنسبة إليه المنحازين عن الرعية المخصوصين
بخصيصة القرب المقتضية أن لا يعامل معهم معاملة الرعية كأنهم مستثنون عن
إجراء القوانين والأحكام المجراة بين الناس لأن تعلقهم بعرش الملك لا يلائم
مجازاتهم بما يجازي به غيرهم ولا إيقافهم موقفا توقف فيه سائر الرعية، فلا
يستهان بهم كما يستهان بغيرهم فكل ذلك لما تتعقبه علقة النسب من علقة الحب
والكرامة.



فالمراد بهذه النبوة الاختصاص والتقرب، ويكون عطف قوله: ﴿وأحباؤه﴾ على
قوله: ﴿أبناء الله﴾ كعطف التفسير وليس به حقيقة، وغرضهم من دعوى هذا
الاختصاص والمحبوبية إثبات لازمه وهو أنه لا سبيل إلى تعذيبهم وعقوبتهم فلن
يصيروا إلا إلى النعمة والكرامة لأن تعذيبه تعالى إياهم يناقض ما خصهم به
من المزية، وحباهم به من الكرامة.



والدليل عليه ما ورد في الرد عليهم من قوله تعالى: ﴿يغفر لمن يشاء ويعذب من
يشاء﴾، إذ لو لا أنهم كانوا يريدون بقولهم: ﴿نحن أبناء الله وأحباؤه﴾ أنه
لا سبيل إلى عذابهم وإن لم يستجيبوا الدعوة الحقة لم يكن وجه لذكر هذه
الجملة: ﴿يغفر﴾، ردا عليهم ولا لقوله: ﴿بل أنتم بشر ممن خلق﴾ موقع حسن
مناسب فمعنى قولهم: ﴿نحن أبناء الله وأحباؤه﴾ أنا خاصة الله ومحبوبوه لا
سبيل له تعالى إلى تعذيبنا وإن فعلنا، ما فعلنا وتركنا ما تركنا لأن انتفاء
السبيل ووقوع الأمن التام من كل مكروه ومحذور هو لازم معنى الاختصاص
والحب.



قوله تعالى: ﴿قل فلم يعذبكم بذنوبكم﴾ أمر نبيه بالاحتجاج عليهم ورد دعواهم
بالحجة، وتلك حجتان: إحداهما: النقض عليهم بالتعذيب الواقع عليهم،
وثانيتهما: معارضتهم بحجة تنتج نقيض دعواهم.



ومحصل الحجة الأولى التي يشتمل عليها قوله: ﴿فلم يعذبكم بذنوبكم﴾ أنه لو
صحت دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه مأمونون من التعذيب الإلهي لا سبيل
إليه فيكم لكنتم مأمونين من كل عذاب أخروي أو دنيوي فما هذا العذاب الواقع
عليكم المستمر فيكم بسبب ذنوبكم؟ فأما اليهود فلم تزل تذنب ذنوبا كقتلهم
أنبياءهم والصالحين من شعبهم وتفجر بنقض المواثيق الإلهية المأخوذة منهم،
وتحريف الكلم عن مواضعه وكتمان آيات الله والكفر بها وكل طغيان واعتداء،
وتذوق وبال أمرها نكالا عليها من مسخ بعضهم وضرب الذلة والمسكنة على آخرين،
وتسلط الظالمين عليهم يقتلون أنفسهم ويهتكون أعراضهم ويخربون بلادهم، وما
لهم من العيش إلا عيشة الحرض الذي لا هو حي فيرجى ولا ميت فينسى.



وأما النصارى فلا فساد المعاصي والذنوب الواقعة في أممهم يقل مما كان من
اليهود، ولا أنواع العذاب النازل عليهم قبل البعثة وفي زمانها وبعدها حتى
اليوم، فهو ذا التاريخ يحفظ عليهم جميع ذلك أو أكثرها، والقرآن يقص من ذلك
شيئا كثيرا كما في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف
وغيرها.



وليس لهؤلاء أن يقول: هذه المصائب والبلايا والفتن النازلة بنا إنما هي من
قبيل ﴿البلاء للولاء﴾ ولا دليل على كونها عن سخط إلهي يسحب نكالا ووبالا
وقد نزل أمثالها على صالحي عباد الله من الأنبياء والرسل كإبراهيم وإسماعيل
ويعقوب ويوسف وزكريا ويحيى وغيرهم، ونزل عليكم معاشر المسلمين نظائرها كما
في غزوة أحد ومؤته وغيرهما، فما بال هذه المكاره إذا حلت بنا عدت أعذبة
إلهية وإذا حلت بكم عادت نعما وكرامات؟ وذلك أنه لا ريب لأحد أن هذه
المكاره الجسمانية والمصائب والبلايا الدنيوية توجد عند المؤمنين كما توجد
عند الكافرين، وتأخذ الصالحين والطالحين معا، سنة الله التي قد خلت في
عباده إلا أنها تختلف عنوانا وأثرا باختلاف موقف الإنسان من الصلاح،
والطلاح مقام العبد من ربه.



فلا ريب أن من استقر الصلاح في نفسه وتمكنت الفضيلة الإنسانية من جوهره
كالأنبياء الكرام ومن يتلوهم لا تؤثر المصائب والمحن الدنيوية النازلة عليه
إلا فعلية الفضائل الكامنة في نفسه مما ينتفع به وبآثاره الحسنة هو وغيره
فهذا النوع من المحن المشتملة على ما يستكرهه الطبع ليس إلا تربية إلهية
وإن شئت فقل ترفيعا للدرجة.



ومن لم يثبت على سعادة أو شقاوة ولم يركب طريق السعادة اللازمة بعد إذا
نزلت به النوازل ودارت عليه الدوائر عقبت تعين طريقه وتميز موقفه من كفر أو
إيمان، وصلاح أو طلاح، ولا ينبغي أن يسمى هذا النوع من البلايا والمحن إلا
امتحانات وابتلاءات إلهية تخد للإنسان خده إلى الجنة أو إلى النار.



ومن لم يعتمد في حياته إلا على هوى النفس ولم يألف إلا الفساد والإفساد
والانغمار في لجج الشهوة والغضب، ولم يزل يختار الرذيلة على الفضيلة،
والاستعلاء على الله على الخضوع للحق كما يقصه القرآن من عاقبة أمر الأمم الظالمة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وأصحاب مدين وقوم لوط، إثر ما فرطوا في جنب الله.



فالنوائب المنصبة عليهم المبيدة لجمعهم لا يستقيم إلا أن تعد تعذيبات إلهية ونكالات ووبالات عليهم لا غير.



وقد جمع الله تعالى هذه المعاني في قوله عز من قائل: ﴿وتلك الأيام نداولها
بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين
وليمحص الذين ءامنوا ويمحق الكافرين﴾: آل عمران: 114.



وتاريخ اليهود من لدن بعثة موسى (عليه السلام) إلى أن بعث الله محمدا (صلى
الله عليه وآله وسلم) - فيما يزيد على ألفي سنة - وكذا تاريخ النصارى من
لدن رفع المسيح إلى ظهور الإسلام - فيما يقرب من ستة قرون على ما يقال -
مملوء من أنواع الذنوب التي أذنبوها، وجرائم ارتكبوها، ولم يبقوا منها
باقية ثم أصروا واستكبروا من غير ندم، فالنوائب الحالة بساحتهم لا تستحق
إلا اسم العذاب والنكال.



وأما أن المسلمين ابتلوا بأمثال ما ابتليت به هؤلاء الأمم فهذه الابتلاءات
بالنظر إلى طبيعتها الكونية ليست إلا حوادث ساقتها يد التدبير الإلهي سنة
الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا، وبالنظر إلى حال
المسلمين المبتلين بها فيما كانوا على طريق الحق لم تكن إلا امتحانات
إلهية، وفيما انحرفوا عنه من قبيل النكال والعذاب، وليس لأحد على الله
كرامة، ولا لمتحكم عليه حق ولم يثبت القرآن لهم على ربهم كرامة، ولا عدهم أبناء الله وأحباءه، ولا اعتنى بما تسموا به من أسماء أو ألقاب.



قال تعالى مخاطبا لهم: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين
جاهدوا منكم ويعلم الصابرين - إلى أن قال - وما محمد إلا رسول قد خلت من
قبله الرسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن
يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين﴾: آل عمران: 144، وقال تعالى: ﴿ليس
بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله
وليا ولا نصيرا﴾: النساء: 132.



وفي الآية أعني قوله: ﴿قل فلم يعذبكم بذنوبكم﴾ وجه آخر وهو أن يكون المراد
بالعذاب الأخروي، والمضارع يعذبكم بمعنى الاستقبال دون الاستمرار كما في
الوجه السابق فإن أهل الكتاب معترفون بالعذاب بحذاء ذنوبهم في الجملة: أما
اليهود فقد نقل القرآن
عنهم قولهم: ﴿لن تمسنا النار إلا أياما معدودة﴾: البقرة: 80 وأما النصارى
فإنهم وإن قالوا بالفداء لمغفرة الذنوب لكنه إثبات في نفسه للذنوب والعذاب
الذي أصاب المسيح بالصلب والأناجيل مع ذلك تثبت ذنوبا كالزنا ونحوه،
والكنيسة كانت تثبته عملا بما كانت تصدره من صكوك المغفرة هذا لكن الوجه هو
الأول.



قوله تعالى: ﴿بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك
السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير﴾ حجة ثانية مسوقة على نحو المعارضة
محصلها: أن النظر في حقيقتكم يؤدي إلى بطلان دعواكم أنكم أبناء الله
وأحباؤه، فإنكم بشر من جملة من خلقه الله من بشر أو غيره لا تمتازون عن
سائر من خلقه الله منهم، ولا يزيد أحد من الخليقة من السماوات والأرض وما
بينهما على أنه مخلوق لله الذي هو المليك الحاكم فيه وفي غيره بما شاء
وكيفما شاء وسيصير إلى ربه المليك الحاكم فيه وفي غيره، وإذا كان كذلك كان
لله سبحانه أن يغفر لمن شاء منهم، ويعذب من شاء منهم من غير أن تمانعه مزية
أو كرامة أو غير ذلك من أن يريد في شيء ما يريده من مغفرة أو عذاب أو يقطع
سبيله قاطع أو يضرب دونه حجاب يحجبه عن نفوذ المشيئة ومضي الحكم.



فقوله: ﴿بل أنتم بشر ممن خلق﴾ بمنزلة إحدى مقدمات الحجة، وقوله: ﴿ولله ملك
السموات والأرض وما بينهما﴾ مقدمة أخرى وقوله: ﴿وإليه المصير﴾ مقدمة ثالثة،
وقوله: ﴿يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء﴾ بمنزلة نتيجة البيان التي تناقض
دعواهم: أنه لا سبيل إلى تعذيبهم.



قوله تعالى: ﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل﴾
قال الراغب: الفتور سكون بعد حدة ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة قال تعالى:
﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل﴾ أي سكون خال
عن مجيء رسول الله.



والآية خطاب ثان لأهل الكتاب متمم للخطاب السابق فإن الآية الأولى بينت لهم
أن الله أرسل إليهم رسولا أيده بكتاب مبين يهدي بإذن الله إلى كل خير
وسعادة، وهذه الآية تبين أن ذلك البيان الإلهي أنما هو لإتمام الحجة عليهم
أن يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير.



وبهذا البيان يتأيد أن يكون متعلق الفعل يبين لكم في هذه الآية هو الذي في
الآية السابقة، والتقدير: يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي إن
هذا الدين الذي تدعون إليه هو بعينه دينكم الذي كنتم تدينون به مصدقا لما
معكم والذي يرى فيه من موارد الاختلاف فإنما هو بيان لما أخفيتموه من معارف
الدين التي بينته الكتب الإلهية، ولازم هذا الوجه أن يكون قوله: ﴿يا أهل
الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم﴾ من قبيل إعادة عين الخطاب السابق لضم بعض
الكلام المفصول عن الخطاب السابق المتعلق به وهو قوله: ﴿أن تقولوا ما
جاءنا﴾ إلخ إليه وإنما جوز ذلك وقوع الفصل الطويل بين المتعلق والمتعلق به
وهو شائع في اللسان، قال:

قربا مربط النعامة مني

لقحت حرب وائل عن حيال

قربا مربط النعامة مني

إن بيع الكريم بالشسع غال



ويمكن أن يكون خطابا مستأنفا والفعل يبين لكم إنما حذف متعلقه.



للدلالة على العموم أي يبين لكم جميع ما يحتاج إلى البيان، أو لتفخيم أمره
أي يبين لكم أمرا عظيما تحتاجون إلى بيانه، وقوله: ﴿على فترة من الرسل﴾ لا
يخلو عن إشعار أو دلالة على هذه الحاجة فإن المعنى: يبين لكم ما مست حاجتكم
إلى بيانه والزمان خال من الرسل حتى يبينوا لكم ذلك.



وقوله: ﴿أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير﴾، متعلق بقوله: ﴿قد جاءكم﴾ بتقدير: حذر أن تقولوا، أو لئلا تقولوا.



وقوله: ﴿والله على كل شيء قدير﴾ كأنه لدفع الدخل فإن اليهود كانت لا ترى
جواز تشريع شريعة بعد شريعة التوراة لذهابهم إلى امتناع النسخ والبداء فرد
الله سبحانه مزعمتهم بأنها تنافي عموم القدرة، وقد تقدم الكلام في النسخ في
تفسير قوله تعالى: ﴿ما ننسخ من آية﴾ الآية: البقرة: 160 في الجزء الأول من الكتاب.



كلام في طريق التفكر الذي يهدي إليه القرآن وهو بحث مختلط

مما لا نرتاب فيه أن الحياة الإنسانية حياة فكرية لا تتم له إلا بالإدراك
الذي نسميه فكرا، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر أن الفكر كلما كان
أصح وأتم كانت الحياة أقوم، فالحياة القيمة - بأية سنة من السنن أخذ
الإنسان، وفي أي طريق من الطرق المسلوكة وغير المسلوكة سلك الإنسان - ترتبط
بالفكر القيم وتبتني عليه، وبقدر حظها منه يكون حظها من الاستقامة.



وقد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوعة كقوله: ﴿أ
ومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في
الظلمات ليس بخارج منها﴾: الأنعام: 122، وقوله: ﴿هل يستوي الذين يعلمون
والذين لا يعلمون﴾: الزمر: 9، وقوله: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين
أوتوا العلم درجات﴾: المجادلة: 11 وقوله: ﴿فبشر عبادي الذين يستمعون القول
فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب﴾: الزمر: 18
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي لا تحتاج إلى الإيراد.



فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح وترويج طريق العلم مما لا ريب فيه.



والقرآن الكريم مع ذلك يذكر أن ما يهدي إليه طريق من الطرق الفكرية، قال تعالى: ﴿إن هذا القرآن
يهدي للتي هي أقوم﴾: إسراء: 9 أي الملة أو السنة أو الطريقة التي هي
أقوم، وعلى أي حال هي صراط حيوي كونه أقوم يتوقف على كون طريق الفكر فيه
أقوم، وقال تعالى: ﴿قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع
رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط
مستقيم﴾: المائدة: 16 والصراط المستقيم هو الطريق البين الذي لا اختلاف فيه
ولا تخلف أي لا يناقض الحق المطلوب، ولا يناقض بعض أجزائه بعضا.



ولم يعين في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيم الذي يندب إليه إلا أنه
أحال فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطرية، وإدراكهم المركوز في
نفوسهم، وأنك لو تتبعت الكتاب الإلهي ثم تدبرت في آياته وجدت ما لعله يزيد
على ثلاثمائة آية تتضمن دعوة الناس إلى التفكر أو التذكر أو التعقل، أو
تلقن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة لإثبات حق أو لإبطال باطل
كقوله: ﴿قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه﴾
الآية أو تحكي الحجة عن أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وسائر
الأنبياء العظام، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما ع كقوله: ﴿قالت رسلهم أ في
الله شك فاطر السموات والأرض﴾: إبراهيم: 10، وقوله: ﴿وإذ قال لقمان لابنه
وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم﴾: لقمان: 13، وقوله:
﴿وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أ تقتلون رجلا أن يقول ربي الله
وقد جاءكم بالبينات من ربكم﴾ الآية: غافر: 28، وقوله حكاية عن سحرة فرعون:
﴿قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما
تقضي هذه الحياة الدنيا﴾ إلى آخر ما احتجوا به: طه: 72.



ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء
مما هو من عنده أو يسلكوا سبيلا على العمياء وهم لا يشعرون، حتى أنه علل
الشرائع والأحكام التي جعلها لهم مما لا سبيل للعقل إلا تفاصيل ملاكاته
بأمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
ولذكر الله أكبر﴾: العنكبوت: 45 وقوله: ﴿كتب عليكم الصيام كما كتب على
الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾: البقرة: 138، وقوله في آية الوضوء: ﴿ما يريد
الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم
تشكرون﴾: المائدة: 6 إلى غير ذلك من الآيات.



وهذا الإدراك العقلي أعني طريق الفكر الصحيح الذي يحيل إليه القرآن
الكريم ويبني على تصديقه ما يدعو إليه من حق أو خير أو نفع، ويزجر عنه من
باطل أو شر أو ضر أنما هو الذي نعرفه بالخلقة والفطرة مما يتغير ولا يتبدل
ولا يتنازع فيه إنسان وإنسان، ولا يختلف فيه اثنان، وإن فرض فيه اختلاف أو
تنازع فإنما هو من قبيل المشاجرة في البديهيات ينتهي إلى عدم تصور أحد
المتشاجرين أو كليهما حق المعنى المتشاجر فيه لعدم التفاهم الصحيح.



وأما أن هذا الطريق الذي نعرفه بحسب فطرتنا الإنسانية ما هو؟ فلئن شككنا في
شيء لسنا نشك أن هناك حقائق خارجية واقعية مستقلة منفكة عن أعمالنا كمسائل
المبدأ والمعاد، ومسائل أخرى رياضية أو طبيعية ونحو ما إذا أردنا أن نحصل
عليها حصولا يقينيا استرحنا في ذلك إلى قضايا أولية بديهة غير قابلة للشك،
وأخرى تلزمها لزوما كذلك، ونرتبها ترتيبا فكريا خاصا نستنتج منها ما نطلبه
كقولنا: ا.



ب، وكل ب.



ج، ف أ.



ج، وكقولنا: لو كان ا.



ب ف ج.



د، ولو كان ج د ف ه.



ز ينتج: لو كان ا ب، ف ه.



ز وكقولنا: إن كان ا.



ب فج.



د ولو كان ج.



د، ف ه.



ز لكن ا.



ليس ب، ينتج: ه ليس ز.



وهذه الأشكال التي ذكرناها والمواد الأولية التي أشرنا إليها أمور بديهية
يمتنع أن يرتاب فيها إنسان ذو فطرة سليمة إلا عن آفة عقلية أو لاختلاط في
الفهم مقتض لعدم تعقل هذه الأمور الضرورية بأخذ مفهوم تصوري أو تصديقي آخر
مكان التصور أو التصديق البديهي، كما هو الغالب فيمن يتشكك في البديهيات.



ونحن إذا راجعنا التشكيكات والشبه التي أوردت على هذا الطريق المنطقي
المذكور وجدنا أنهم يعتمدون في استنتاج دعاويهم ومقاصدهم على مثل القوانين
المدونة في المنطق الراجعة إلى الهيئة والمادة بحيث لو حللنا كلامهم إلى
المقدمات الابتدائية المأخوذة فيه عاد إلى مواد وهيئات منطقية، ولو غيرنا
بعض تلك المقدمات أو الهيئات إلى ما يهتف المنطق بعدم إنتاجها عاد الكلام
غير منتج، ورأيتهم لا يرضون بذلك، وهذا بعينه أوضح شاهد على أن هؤلاء
معترفون بحسب فطرتهم الإنسانية بصحة هذه الأصول المنطقية مسلمون لها
مستعملون إياها، جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم.



1 - كقول بعض المتكلمين: ﴿لو كان المنطق طريقا موصلا لم يقع الاختلاف بين
أهل المنطق لكنا نجدهم مختلفين في آرائهم﴾ فقد استعمل القياس الاستثنائي من
حيث لا يشعر، وقد غفل هذا القائل عن أن معنى كون المنطق آلة الاعتصام أن
استعماله كما هو حقه يعصم الإنسان من الخطإ، وأما أن كل مستعمل له فإنما
يستعمله صحيحا فلا يدعيه أحد، وهذا كما أن السيف آلة القطع لكن لا يقطع إلا
عن استعمال صحيح.



2 - وقول بعضهم: إن هذه القوانين دونت ثم كملت تدريجا فكيف يبتنى عليها
ثبوت الحقائق الواقعية؟ وكيف يمكن إصابة الواقع لمن لم يعرفها أو لم
يتسعملها؟ وهذا كسابقه قياس استثنائي ومن أردإ المغالطة.



وقد غلط القائل في معنى التدوين، فإن معناه الكشف التفصيلي عن قواعد معلومة للإنسان بالفطرة إجمالا لا إن معنى التدوين هو الإيجاد.



3 - وقول بعضهم: ﴿إن هذه الأصول إنما روجت بين الناس لسد باب أهل البيت أو
لصرف الناس عن اتباع الكتاب والسنة فيجب على المسلمين اجتنابها﴾ وهذا كلام
منحل إلى أقيسة اقترانية واستثنائية.



ولم يتفطن المستدل به أن تسوية طريق لغرض فاسد أو سلوكه لغاية غير محمودة
لا ينافي استقامته في نفسه كالسيف يقتل به المظلوم، وكالدين يستعمل لغير
مرضاة الله سبحانه.



4 - وقول بعضهم: ﴿إن السلوك العقلي ربما انتهى بسالكه إلى ما يخالف صريح
الكتاب والسنة كما نرى من آراء كثير من المتفلسفين﴾ وهذا قياس اقتراني مؤلف
غولط فيه من جهة أن هذا المنهي ليس هو شكل القياس ولا مادة بديهية بل مادة
فاسدة غريبة داخلت المواد الصحيحة.



5 - وقول بعضهم: ﴿المنطق إنما يتكفل تمييز الشكل المنتج من الشكل الفاسد
وأما المواد فليس فيها قانون يعصم الإنسان من الخطإ فيها ولا يؤمن الوقوع
في الخطإ لو راجعنا غير أهل العصمة، فالمتعين هو الرجوع إليهم﴾ وفيه مغالطة
من جهة أنه سيق لبيان حجية أخبار الآحاد أو مجموع الآحاد والظواهر الظنية
من الكتاب، ومن المعلوم أن الاعتصام بعصمة أهل العصمة (عليهم السلام) إنما
يحصل فيما أيقنا من كلامهم بصدوره والمراد منه معا يقينا صادقا، وأنى يحصل
ذلك في أخبار الآحاد التي هي ظنية صدورا ودلالة؟ وكذا في كل ما دلالته
ظنية، وإذا كان المناط في الاعتصام هو المادة اليقينية فما الفرق بين
المادة اليقينية المأخوذة من كلامهم والمادة اليقينية المأخوذة من المقدمات
العقلية؟ واعتبار الهيئة مع ذلك على حاله.



وقولهم: ﴿لا يحصل لنا اليقين بالمواد العقلية بعد هذه الاشتباهات كلها﴾ فيه: أولا أنه مكابرة.



وثانيا: أن هذا الكلام بعينه مقدمة عقلية يراد استعمالها يقينية، والكلام مشتمل على الهيئة.



6 - وقول بعضهم: ﴿إن جميع ما يحتاج إليه النفوس الإنسانية مخزونة في الكتاب
العزيز، مودعة في أخبار أهل العصمة (عليهم السلام) فما الحاجة إلى أسآر
الكفار والملاحدة؟﴾.



والجواب عنه أن الحاجة إليها عين الحاجة التي تشاهد في هذا الكلام بعينه،
فقد ألف تأليفا اقترانيا منطقيا، واستعملت فيه المواد اليقينية لكن غولط
فيه أولا بأن تلك الأصول المنطقية بعض ما هو مخزون مودع في الكتاب والسنة،
ولا طريق إليها إلا البحث المستقل.



وثانيا: أن عدم حاجة الكتاب والسنة واستغناءهما عن ضميمة تنضم إليهما غير
عدم حاجة المتمسك بهما والمتعاطي لهما، وفيه المغالطة، وما مثل هؤلاء إلا
كمثل الطبيب الباحث عن بدن الإنسان لو ادعى الاستغناء عن تعلم العلوم
الطبيعية والاجتماعية والأدبية، لأن الجميع متعلق بالإنسان.



أو كمثل الإنسان الجاهل إذا استنكف عن تعلم العلوم معتذرا أن جميع العلوم مودعة في الفطرة الإنسانية.



وثالثا: أن الكتاب والسنة هما الداعيان إلى التوسع في استعمال الطرق
العقلية الصحيحة وليست إلا المقدمات البديهية أو المتكئة على البديهية قال
تعالى: ﴿فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم
الله وأولئك هم أولوا الألباب﴾: الزمر: 18 إلى غير ذلك من الآيات
والأخبار الكثيرة، نعم الكتاب والسنة ينهيان عن اتباع ما يخالفهما مخالفة
صريحة قطعية لأن الكتاب والسنة القطعية من مصاديق ما دل صريح العقل على
كونهما من الحق والصدق، ومن المحال أن يبرهن العقل ثانيا على بطلان ما برهن
على حقيته أولا، والحاجة إلى تمييز المقدمات العقلية الحقة من الباطلة ثم
التعلق بالمقدمات الحقة كالحاجة إلى تمييز الآيات
والأخبار المحكمة من المتشابهة ثم التعلق بالمحكمة منهما، وكالحاجة إلى
تمييز الأخبار الصادرة حقا من الأخبار الموضوعة والمدسوسة وهي أخبار جمة.



ورابعا: أن الحق حق أينما كان وكيفما أصيب وعن أي محل أخذ، ولا يؤثر فيه
إيمان حامله وكفره، ولا تقواه وفسقه، والإعراض عن الحق بغضا لحامله ليس إلا
تعلقا بعصبية الجاهلية التي ذمها الله سبحانه وذم أهلها في كتابه العزيز
وبلسان رسله (عليهم السلام).



7 - وقول بعضهم: ﴿إن طريق الاحتياط في الدين المندوب إليه في الكتاب والسنة
الاقتصار على ظواهر الكتاب والسنة والاجتناب عن تعاطي الأصول المنطقية
والعقلية فإن فيه التعرض للهلاك الدائم والشقوة التي لا سعادة بعدها أبدا﴾.



وفيه أن هذا البيان بعينه قد تعوطي فيه الأصول المنطقية والعقلية فإنه
مشتمل على قياس استثنائي أخذ فيه مقدمات عقلية متبينة عند العقل ولو لم يكن
كتاب ولا سنة.



على أن البيان إنما يتم فيمن لا يفي استعداده بفهم الأمور الدقيقة العقلية
وأما المستعد الذي يطيق ذلك فلا دليل من كتاب ولا سنة ولا عقل على حرمانه
من نيل حقائق المعارف التي لا كرامة للإنسان ولا شرافة إلا بها، وقد دل على
ذلك الكتاب والسنة والعقل جميعا.



8 - وقول بعضهم - فيما ذكره -: إن طريق السلف الصالح كان مالميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره) 4_26نا
لطريق الفلسفة والعرفان وكانوا يستغنون بالكتاب والسنة عن استعمال الأصول
المنطقية والعقلية كالفلاسفة، وعن استعمال طرق الرياضة كالعرفاء.



ثم لما نقلت فلسفة يونان في عصر الخلفاء إلى العربية رام المتكلمون من المسلمين وقد كانوا من تبعة القرآن
إلى تطبيق المطالب الفلسفية على المعارف القرآنية فتفرقوا بذلك إلى فرقتي
الأشاعرة والمعتزلة، ثم نبغ آخرون في زمان الخلفاء تسموا بالصوفية
والعرفاء كانوا يدعون كشف الأسرار والعلم بحقائق القرآن
وكانوا يزعمون أنهم في غنى عن الرجوع إلى أهل العصمة والطهارة، وبذلك
امتازت الفقهاء والشيعة - وهم المتمسكون بذيلهم (عليهم السلام) - عنهم، ولم
يزل الأمر على ذلك إلى ما يقرب من أواسط القرن الثالث عشر من الهجرة قبل
مائة سنة تقريبا وعند ذلك أخذ هؤلاء يعني الفلاسفة والعرفاء في التدليس
والتلبيس وتأويل مقاصد القرآن والحديث إلى ما يوافق المطالب الفلسفية والعرفانية حتى اشتبه الأمر على الأكثرين.



واستنتج من ذلك أن هذه الأصول مخالفة للطريقة الحقة التي يهدي إليها الكتاب والسنة.



ثم أورد بعض الإشكالات على المنطق - مما أوردناه - كوجود الاختلاف بين
المنطقيين أنفسهم، ووقوع الخطإ مع استعماله، وعدم وجود البديهيات
واليقينيات بمقدار كاف في المسائل الحقيقية، ثم ذكر مسائل كثيرة من الفلسفة
وعدها جميعا مناقضة لصريح ما يستفاد من الكتاب والسنة.



هذا محصل كلامه وقد لخصناه تلخيصا.



وليت شعري أي جهة من الجهات الموضوعة في هذا الكلام على كثرتها تقبل الإصلاح والترميم فقد استظهر الداء على الدواء.



أما ما ذكره من تاريخ المتكلمين وانحرافهم عن الأئمة (عليهم السلام) وقصدهم إلى تطبيق الفلسفة على القرآن
وانقسامهم بذلك إلى فرقتي الأشاعرة والمعتزلة وظهور الصوفية وزعمهم أنهم
ومتبعيهم في غنى عن الكتاب والسنة وبقاء الأمر على هذا الحال وظهور الفلسفة
العرفانية في القرن الثالث عشر كل ذلك مما يدفعه التاريخ القطعي، وسيجيء
إشارة إلى ذلك كله إجمالا.



على أن فيه خطأ فاحشا بين الكلام والفلسفة فإن الفلسفة تبحث بحثا حقيقيا
ويبرهن على مسائل مسلمة بمقدمات يقينية والكلام يبحث بحثا أعم من الحقيقي
والاعتباري، ويستدل على مسائل موضوعة مسلمة بمقدمات هي أعم من اليقينية
والمسلمة، فبين الفنين أبعد مما بين السماء والأرض، فكيف يتصور أن يروم أهل
الكلام في كلامهم تطبيق الفلسفة على القرآن؟ على أن المتكلمين لم يزالوا
منذ أول ناجم نجم منهم إلى يومنا هذا في شقاق مع الفلاسفة والعرفاء،
والموجود من كتبهم ورسائلهم والمنقول من المشاجرات الواقعة بينهم أبلغ شاهد
يشهد بذلك.



ولعل هذا الإسناد مأخوذ من كلام بعض المستشرقين القائل بأن نقل الفلسفة إلى الإسلام هو الذي أوجد علم الكلام بين المسلمين.



هذا، وقد جهل هذا القائل معنى الكلام والفلسفة وغرض الفنين والعلل الموجبة لظهور التكلم ورمي من غير مرمى.



وأعجب من ذلك كله أنه ذكر بعد ذلك: الفرق بين الكلام والفلسفة بأن البحث
الكلامي يروم إثبات مسائل المبدأ والمعاد مع مراعاة جانب الدين والبحث
الفلسفي يروم ذلك من غير أن يعتني بأمر الدين ثم جعل ذلك دليلا على كون
السلوك من طريق الأصول المنطقية والعقلية سلوكا مالميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره) 4_26نا لسلوك الدين مناقضا للطريق المشروع فيه هذا.



فزاد في الفساد، فكل ذي خبرة يعلم أن كل من ذكر هذا الفرق بين الفنين أراد
أن يشير إلى أن القياسات المأخوذة في الأبحاث الكلامية جدلية مركبة من
مقدمات مسلمة: المشهورات والمسلمات لكون الاستدلال بها على مسائل مسلمة،
وما أخذ في الأبحاث الفلسفية منها قياسات برهانية يراد بها إثبات ما هو
الحق لا إثبات ما سلم ثبوتها تسليما، وهذا غير أن يقال.



إن أحد الطريقين طريق الكلام طريق الدين والآخر طريق مالميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره) 4_26ن لطريق الدين لا يعتنى به وإن كان حقا.



وأما ما ذكره من الإشكال على المنطق والفلسفة والعرفان فما اعترض به على
المنطق قد تقدم الكلام فيه، وأما ما ذكره في موضوع الفلسفة والعرفان فإن
كان ما ذكره على ما ذكره وفهم منه ثم ناقض ما هو صريح الدين الحق فلا ريب
لمرتاب في أنه باطل ومن هفوات الباحثين في الفلسفة أو السالكين مسلك
العرفان وأغلاطهم، لكن الشأن في أن هفوات أهل فن وسقطاتهم وانحرافهم لا
تحمل على عاتق الفن، وإنما يحمل على قصور الباحثين في بحثهم.



وكان عليه أن يتأمل الاختلافات الناشئة بين المتكلمين: أشعريهم ومعتزليهم
وإماميهم فقد اقتسمت هذه الاختلافات الكلمة الواحدة الإسلامية فجعلتها
بادىء بدء ثلاثة وسبعين فرقة ثم فرقت كل فرقة إلى فرق، ولعل فروع كل أصل لا
ينقص عددا من أصولها.



فليت شعري هل أوجد الاختلافات شيء غير سلوك طريق الدين؟ وهل يسع لباحث أن
يستدل بذلك على بطلان الدين وفساد طريقه؟ أو يأتي هاهنا بعذر لا يجري هناك
أو يرمي أولئك برذيلة معنوية لا توجد عينها أو مثلها في هؤلاء؟! ونظير فن
الكلام في ذلك الفقه الإسلامي وانشعاب الشعب والطوائف فيه ثم الاختلافات
الناشئة بين كل طائفة أنفسهم، وكذلك سائر العلوم والصناعات على كثرتها
واختلافها.



وأما ما استنتج من جميع كلامه من بطلان جميع الطرق المعمولة وتعين طريق
الكتاب والسنة وهو مسلك الدين فلا يسعه إلا أن يرى طريق التذكر وهو الذي
نسب إلى أفلاطون اليوناني وهو أن الإنسان لو تجرد عن الهوسات النفسانية
وتحلى بحلية التقوى والفضائل الروحية ثم رجع إلى نفسه في أمر بان له الحق
فيه.



هذا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
علي احمد الوائلي
مدير عام المنتدى
مدير عام المنتدى
علي احمد الوائلي


رقم العضوية : 52
الجنــس : ذكر
المواليد : 01/03/1972
التسجيل : 06/02/2013
العمـــــــــــــــــر : 52
البـــــــــــــــــرج : السمك
الأبـراج الصينية : الفأر
عدد المساهمات : 979
نقـــــــــاط التقيم : 2363
السٌّمعَــــــــــــــة : 0
علم بلدك : العراق
100%
15000
الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره) Jb12915568671

الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره) Empty
مُساهمةموضوع: رد: الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره)   الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره) Emptyالأحد يونيو 02, 2013 1:35 am

ويرد عليه ثالثا: أن الوقوع في الخطإ واقع بل غالب في طريق التذكر الذي
ذكروه فإن التذكر كما زعموه هو الطريق الذي كان يسلكه السلف الصالح دون
طريق المنطق، وقد نقل الاختلاف والخطإ فيما بينهم بما ليس باليسير كعدة من
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ممن اتفق المسلمون على علمه واتباعه
الكتاب والسنة، أو اتفق الجمهور على فقهه وعدالته، وكعدة من أصحاب الأئمة
على هذه النعوت كأبي حمزة وزرارة وأبان وأبي خالد والهشامين ومؤمن الطاق
والصفوانين وغيرهم، فالاختلافات الأساسية بينهم مشهورة معروفة ومن البين أن
المختلفين لا ينال الحق إلا أحدهما، وكذلك الفقهاء والمحدثون من القدماء
كالكليني والصدوق وشيخ الطائفة والمفيد والمرتضى وغيرهم رضوان الله عليهم،
فما هو مزية التذكر على التفكر المنطقي؟ فكان من الواجب حينئذ التماس مميز
آخر غير التذكر يميز بين الحق والباطل، وليس إلا التفكر المنطقي فهو المرجع
والموئل.



ويرد عليه رابعا: أن محصل الاستدلال أن الإنسان إذا تمسك بذيل أهل العصمة
والطهارة لم يقع في خطإ، ولازمه ما تقدم أن الرأي المأخوذ من المعصوم فيما
سمعه منه سمعا يقينيا وعلم بمراده علما يقينيا لا يقع فيه خطأ، وهذا مما لا
كلام فيه لأحد.



وفي الحقيقة المسموع من المعصوم أو المأخوذ منه مادة ليس هو عين التذكر ولا
الفكر المنطقي ثم يعقبه هو أن: هذا ما يراه المعصوم، وكل ما يراه حق فهذا
حق وهذا برهان قطعي النتيجة، وأما غير هذه الصورة من مؤديات أخبار الآحاد
أو ما يماثلها مما لا يفيد إلا الظن فإن ذلك لا يفيد شيئا ولا يوجد دليل
على حجية الآحاد في غير الأحكام إلا مع موافقة الكتاب ولا الظن يحصل على
شيء مع فرض العلم على خلافه من دليل علمي.



9 - وقول بعضهم: ﴿إن الله سبحانه خاطبنا في كلامه بما نألفه من الكلام
الدائر بيننا، والنظم والتأليف الذي يعرفه أهل اللسان، وظاهر البيانات
المشتملة على الأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والحكمة والموعظة والجدال
بالتي هي أحسن، وهذه أمور لا حاجة في فهمها وتعقلها إلى تعلم المنطق
والفلسفة وسائر ما هو تراث الكفار والمشركين وسبيل الظالمين، وقد نهانا عن
ولايتهم والركون إليهم واتخاذ دئوبهم واتباع سبلهم، فليس على من يؤمن بالله
ورسوله إلا أن يأخذ بظواهر البيانات الدينية، ويقف على ما يتلقاه الفهم
العادي من تلك الظواهر من غير أن يأولها أو يتعداها إلى غيرها﴾ وهذا ما
يراه الحشوية والمشبهة وعدة من أصحاب الحديث.



وهو فاسد أما من حيث الهيئة فقد استعمل فيه الأصول المنطقية وقد أريد بذلك المنع عن استعمالها بعينها، ولم يقل القائل بأن القرآن
يهدي إلى استعمال أصول المنطق: أنه يجب على كل مسلم أن يتعلم المنطق، لكن
نفس الاستعمال مما لا محيص عنه، فما مثل هؤلاء في قولهم هذا إلا مثل من
يقول: إن القرآن
إنما يريد أن يهدينا إلى مقاصد الدين فلا حاجة لنا إلى تعلم اللسان الذي
هو تراث أهل الجاهلية، فكما أنه لا وقع لهذا الكلام بعد كون اللسان طريقا
يحتاج إليه الإنسان في مرحلة التخاطب بحسب الطبع وقد استعمله الله سبحانه
في كتابه والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سنته كذلك لا معنى لما اعترض
به على المنطق بعد كونه طريقا معنويا يحتاج إليه الإنسان في مرحلة التعقل
بحسب الطبع وقد استعمله الله سبحانه في كتابه والنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) في سنته.



وأما بحسب المادة فقد أخذت فيه مواد عقلية، غير أنه غولط فيه من حيث
التسوية بين المعنى الظاهر من الكلام والمصاديق التي تنطبق عليها المعاني
والمفاهيم، فالذي على المسلم المؤمن بكتاب الله أن يفهمه من مثل العلم
والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والمشيئة والإرادة مثلا أن يفهم
معاني تقابل الجهل والعجز والممات والصمم والعمى ونحوها، وأما أن يثبت لله
سبحانه علما كعلمنا وقدرة كقدرتنا وحياة كحياتنا وسمعا وبصرا وكلاما ومشيئة
وإرادة كذلك فليس له ذلك لا كتابا ولا سنة ولا عقلا، وقد تقدم شطر من
الكلام المتعلق بهذا الباب في بحث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من
الكتاب.



10 - وقول بعضهم: ﴿إن الدليل على حجية المقدمات التي قامت عليها الحجج
العقلية ليس إلا المقدمة العقلية القائلة بوجوب اتباع الحكم العقلي،
وبعبارة أخرى لا حجة على حكم العقل إلا نفس العقل وهذا دور مصرح فلا محيص
في المسائل الخلافية عن الرجوع إلى قول المعصوم من نبي أو إمام من غير
تقليد﴾.



هذا، وهو أسخف تشكيك أورد في هذا الباب وإنما أريد به تشييد بنيان فأنتج
هدمه، فإن القائل أبطل به حكم العقل بالدور المصرح على زعمه ثم لما عاد إلى
حكم الشرع لزمه إما أن يستدل عليه بحكم العقل وهو الدور، أو بحكم الشرع
وهو الدور فلم يزل حائرا يدور بين دورين.



إلا أن يرجع إلى التقليد وهو حيرة ثانية.



وقد اشتبه عليه الأمر في تحصيل معنى وجوب متابعة حكم العقل﴾ فإن أريد بوجوب
متابعة حكم العقل ما يقابل الحظر والإباحة ويستتبع مخالفته ذما أو عقابا
نظير وجوب متابعة الناصح المشفق، ووجوب العدل في الحكم ونحو ذلك فهو حكم
العقل العملي ولا كلام لنا فيه، وإن أريد بوجوب المتابعة أن الإنسان مضطر
على تصديق النتيجة إذا استدل عليه بمقدمات علمية وشكل صحيح علمي مع التصور
التام لأطراف القضايا فهذا أمر يشاهده الإنسان بالوجدان، ولا معنى عندئذ
لأن يسأل العقل عن الحجة، لحجية حجته لبداهة حجيته.



وهذا نظير سائر البديهيات، فإن الحجة على كل بديهي إنما هي نفسه، ومعناه أنه مستغن عن الحجة.



11 - وقول بعضهم: ﴿إن غاية ما يرومه المنطق هو الحصول على الماهيات الثابتة
للأشياء، والحصول على النتائج بالمقدمات الكلية الدائمة الثابتة، وقد ثبت
بالأبحاث العلمية اليوم أن لا كلي ولا دائم ولا ثابت في خارج ولا ذهن وإنما
هي الأشياء تجري تحت قانون التحول العام من غير أن يثبت شيء بعينه على حال
ثابتة أو دائمة أو كلية﴾.



وهذا فاسد من جهة أنه استعمل فيه الأصول المنطقية هيئة ومادة كما هو ظاهر لمن تأمل فيه.



على أن المعترض يريد بهذا الاعتراض بعينه أن يستنتج أن المنطق القديم غير
صحيح البتة، وهي نتيجة كلية دائمة ثابتة مشتملة على مفاهيم ثابتة، وإلا لم
يفده شيئا فالاعتراض يبطل نفسه.



ولعلنا خرجنا عما هو شريطة هذا الكتاب من إيثار الاختصار مهما أمكن فلنرجع إلى ما كنا فيه أولا: القرآن
الكريم يهدي العقول إلى استعمال ما فطرت على استعماله وسلوك ما تألفه
وتعرفه بحسب طبعها وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات، والذي فطرت
العقول عليه هو أن تستعمل مقدمات حقيقية يقينية لاستنتاج المعلومات
التصديقية الواقعية وهو البرهان، وأن تستعمل فيما له تعلق بالعمل من سعادة
وشقاوة وخير وشر ونفع وضرر وما ينبغي أن يختار ويؤثر وما لا ينبغي، وهي
الأمور الاعتبارية، المقدمات المشهورة أو المسلمة، وهو الجدل، وأن تستعمل
في موارد الخير والشر المظنونين مقدمات ظنية لإنتاج الإرشاد والهداية إلى
خير مظنون، أو الردع عن شر مظنون، وهي العظة قال تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك
بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾: النحل: 152 والظاهر أن
المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته الموعظة الحسنة
والجدال.



فإن قلت: طريق التفكر المنطقي مما يقوى عليه الكافر والمؤمن، ويتأتى من
الفاسق والمتقي، فما معنى نفيه تعالى العلم المرضي والتذكر الصحيح عن غير
أهل التقوى والاتباع كما في قوله تعالى: ﴿وما يتذكر إلا من ينيب﴾: غافر:
13، وقوله: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجا﴾: الطلاق: 2، وقوله: ﴿فأعرض عمن
تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيوة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو
أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى﴾: النجم: 30 والروايات الناطقة
بأن العلم النافع لا ينال إلا بالعمل الصالح كثيرة مستفيضة.



قلت: اعتبار الكتاب والسنة التقوى في جانب العلم مما لا ريب فيه، غير أن
ذلك ليس لجعل التقوى أو التقوى الذي معه التذكر طريقا مستقلا لنيل الحقائق
وراء الطريق الفكري الفطري الذي يتعاطاه الإنسان تعاطيا لا مخلص له منه، إذ
لو كان الأمر على ذلك لغت جميع الاحتجاجات الواردة في الكتاب على الكفار
والمشركين وأهل الفسق والفجور ممن لا يتبع الحق، ولا يدري ما هو التقوى
والتذكر فإنهم لا سبيل لهم على هذا الفرض إلى إدراك المطلوب وحالهم هذا
الحال، ومع فرض تبدل الحال يلغو الاحتجاج معهم، ونظيرها ما ورد في السنة من
الاحتجاج مع شتى الفرق والطوائف الضالة.



بل اعتبار التقوى لرد النفس الإنسانية المدركة إلى استقامتها الفطرية،
توضيح ذلك: أن الإنسان بحسب جسميته مؤلف من قوى متضادة بهيمية وسبعية
محتدها البدن العنصري، وكل واحدة منها تعمل عملها الشعوري الخاص بها من غير
أن ترتبط بغيرها من القوى ارتباطا تراعي به حالها في عملها إلا بنحو
الممانعة والمضادة فشهوة الغذاء تبعث الإنسان إلى الأكل والشرب من غير أن
يحد بحد أو يقدر بقدر من ناحية هذه القوة إلا أن يمتنع منهما المعدة مثلا
لأنها لا تسع إلا مقدارا محدودا، أو يمتنع الفك مثلا لتعب وكلال يصيب عضلته
من المضغ إذا أكثر من الأكل وأمثال ذلك، فهذه أمور نشاهدها من أنفسنا
دائما.



وإذا كان كذلك كان تمايل الإنسان إلى قوة من القوى، واسترساله في طاعة
أوامرها، والانبعاث إلى ما تبعث إليه يوجب طغيان القوة المطاعة، واضطهاد
القوة المضادة لها اضطهادا ربما بلغ بها إلى حد البطلان أو كاد يبلغ،
فالاسترسال في شهوة الطعام أو شهوة النكاح يصرف الإنسان عن جميع مهمات
الحياة من كسب وعشرة وتنظيم أمر منزل وتربية أولاد وسائر الواجبات الفردية
والاجتماعية التي يجب القيام بها، ونظيره الاسترسال في طاعة سائر القوى
الشهوية والقوى الغضبية، وهذا أيضا مما لا نزال نشاهدها من أنفسنا ومن
غيرنا خلال أيام الحياة.



وفي هذا الإفراط والتفريط هلاك الإنسانية فإن الإنسان هو النفس المسخرة
لهذه القوى المختلفة، ولا شأن له إلا سوق المجموع من القوى بأعمالها في
طريق سعادته في الحياة الدنيا والآخرة، وليست إلا حياة علمية كمالية، فلا
محيص له عن أن يعطي كلا من القوى من حظها ما لا تزاحم به القوى الأخرى ولا
تبطل من رأس.



فالإنسان لا يتم له معنى الإنسانية إلا إذا عدل قواه المختلفة تعديلا يورد
كلا منها وسط الطريق المشروع لها، وملكة الاعتدال في كل واحدة من القوى هي
التي نسميها بخلقها الفاضل كالحكمة والشجاعة والعفة وغيرها، ويجمع الجميع
العدالة.



ولا ريب أن الإنسان إنما يحصل على هذه الأفكار الموجودة عنده ويتوسع في
معارفه وعلومه الإنسانية باقتراح هذه القوى الشعورية أعمالها ومقتضياتها،
بمعنى أن الإنسان في أول كينونته صفر الكف من هذه العلوم والمعارف الوسيعة
حتى تشعر قواه الداخلة بحوائجها، وتقترح عليه ما تشتهيها وتطلبها، وهذه
الشعورات الابتدائية هي مبادىء علوم الإنسان ثم لا يزال الإنسان يعمم ويخصص
ويركب ويفصل حتى يتم له أمر الأفكار الإنسانية.



ومن هنا يحدس اللبيب أن توغل الإنسان في طاعة قوة من قواه المتضادة وإسرافه
في إجابة ما تقترح عليه يوجب انحرافه في أفكاره ومعارفه بتحكيم جميع ما
تصدقه هذه القوة على ما يعطيه غيرها من التصديقات والأفكار، وغفلته عما
يقتضيه غيرها.



والتجربة تصدق ذلك فإن هذا الانحراف هو الذي نشاهده في الأفراد المسرفين
المترفين من حلفاء الشهوة، وفي البغاة الطغاة الظلمة المفسدين أمر الحياة
في المجتمع الإنساني فإن هؤلاء الخائضين في لجج الشهوات، العاكفين على
لذائذ الشرب والسماع والوصال لا يكادون يستطيعون التفكر في واجبات
الإنسانية، ومهام الأمور التي يتنافس فيها أبطال الرجال وقد تسربت روح
الشهوة في قعودهم وقيامهم واجتماعهم وافتراقهم وغير ذلك وكذلك الطغاة
المستكبرون أقسياء القلوب لا يتأتى لهم أن يتصوروا رأفة وشفقة ورحمة وخضوعا
وتذللا حتى فيما يجب فيه ذلك، وحياتهم تمثل حالهم الخبيث الذي هم عليه في
جميع مظاهرها من تكلم وسكوت ونظر وغض وإقبال وإدبار، فهؤلاء جميعا سالكوا
طريق الخطإ في علومهم، كل طائفة منهم مكبة على ما تناله من العلوم والأفكار
المحرفة المنحرفة المتعلقة بما عنده، غافلون عما وراءه وفيما وراءه،
العلوم النافعة والمعارف الحقة الإنسانية فالمعارف الحقة والعلوم النافعة
لا تتم للإنسان إلا إذا صلحت أخلاقه وتمت له الفضائل الإنسانية القيمة وهو
التقوى.



فقد تحصل أن الأعمال الصالحة هي التي تحفظ الأخلاق الحسنة، والأخلاق الحسنة
هي التي تحفظ المعارف الحقة والعلوم النافعة والأفكار الصحيحة، ولا خير في
علم لا عمل معه.



وهذا البحث وإن سقناه سوقا علميا أخلاقيا لمسيس الحاجة إلى التوضيح إلا أنه
هو الذي جمعه الله تعالى في كلمة حيث قال: ﴿واقصد في مشيك﴾: لقمان: 19
فإنه كناية عن أخذ وسط الاعتدال في مسير الحياة، وقال: ﴿إن تتقوا الله يجعل
لكم فرقانا﴾: الأنفال: 29 وقال: ﴿وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا
أولي الألباب﴾: البقرة: 179، أي لأنكم أولوا الألباب تحتاجون في عمل لبكم
إلى التقوى والله أعلم، وقال تعالى: ﴿ونفس وما سواها فألهمها فجورها
وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها﴾: الشمس: 10 وقال: ﴿واتقوا الله
لعلكم تفلحون﴾: آل عمران: 103.



ومن طريق آخر: قال تعالى: ﴿فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا
الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وءامن وعمل صالحا﴾: مريم: 60 فذكر أن
اتباع الشهوات يسوق إلى الغي، وقال تعالى: ﴿سأصرف عن ءاياتي الذين يتكبرون
في الأرض بغير الحق وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا
يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا
وكانوا عنها غافلين﴾: الأعراف: 164 فذكر أن أسراء القوى الغضبية ممنوعون من
اتباع الحق مسوقون إلى سبيل الغي، ثم ذكر أن ذلك بسبب غفلتهم عن الحق،
وقال تعالى: ﴿ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون
بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل
هم أضل أولئك هم الغافلون﴾: الأعراف: 197 فذكر أن هؤلاء الغافلين إنما هم
غافلون عن حقائق المعارف التي للإنسان، فقلوبهم وأعينهم وآذانهم بمعزل عن
نيل ما يناله الإنسان، السعيد في إنسانيته، وإنما ينالون بها ما تناله
الأنعام أو ما هو أضل من الأنعام وهي الأفكار التي إنما تصوبها وتميل إليها
وتألف بها البهائم السائمة والسباع الضارية.



فظهر من جميع ما تقدم أن القرآن
الكريم إنما اشترط التقوى في التفكر والتذكر والتعقل، وقارن العلم بالعمل
للحصول على استقامة الفكر وإصابة العلم وخلوصه من شوائب الأوهام الحيوانية
والإلقاءات الشيطانية.



نعم هاهنا حقيقة قرآنية لا مجال لإنكارها، وهو أن دخول الإنسان في حظيرة
الولاية الإلهية، وتقربه إلى ساحة القدس والكبرياء يفتح له بابا إلى ملكوت
السماوات والأرض يشاهد منه ما خفي على غيره من آيات الله الكبرى، وأنوار
جبروته التي لا تطفأ، قال الصادق (عليه السلام): لو لا أن الشياطين يحومون
حول قلوب بني آدم لرأوا ملكوت السماوات والأرض، وفيما رواه الجمهور عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لو لا تكثير في كلامكم وتمريج في
قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع، وقد قال تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا
لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾: العنكبوت: 69 ويدل على ذلك ظاهر
قوله تعالى: ﴿واعبد ربك حتى يأتيك اليقين﴾: الحجر: 99 حيث فرع اليقين على
العبادة، وقال تعالى: ﴿وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من
الموقنين﴾: الأنعام: 75 فربط وصف الإيقان بمشاهدة الملكوت، وقال تعالى:
﴿كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين﴾: التكاثر: 7
وقال تعالى: ﴿إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم
يشهده المقربون﴾: المطففين: 21 وليطلب البحث المستوفى في هذا المعنى مما
سيجيء من الكلام في قوله تعالى: ﴿إنما وليكم الله ورسوله﴾ الآية: المائدة:
55 وفي قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم﴾ الآية: المائدة:
150.



ولا ينافي ثبوت هذه الحقيقة ما قدمناه أن القرآن
الكريم يؤيد طريق التفكر الفطري الذي فطر عليه الإنسان وبني عليه بنية
الحياة الإنسانية، فإن هذا طريق غير فكري، وموهبة إلهية يختص بها من يشاء
من عباده والعاقبة للمتقين.



بحث تاريخي:

ننظر فيه نظرا إجماليا في تاريخ التفكير الإسلامي والطريق الذي سلكته الأمة
الإسلامية على اختلاف طوائفها ومذاهبها، ولا نلوي فيه إلى مذهب من المذاهب
بإحقاق أو إبطال، وإنما نعرض الحوادث الواقعة على منطق القرآن
ونحكمه في الموافقة والمخالفة، وأما ما باهى به موافق وما اعتذر به مخالف
فلا شأن لنا في الغور في أصوله وجذوره، فإنما ذلك طريق آخر من البحث مذهبي
أو غيره.



القرآن الكريم يتعرض بمنطقه في سنته المشروعة لجميع شئون الحياة الإنسانية
من غير أن تتقيد بقيد أو تشترط بشرط، يحكم على الإنسان منفردا أو مجتمعا،
صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، على الأبيض والأسود، والعربي والعجمي،
والحاضر والبادي، والعالم والجاهل، والشاهد والغائب، في أي زمان كان وفي أي
مكان كان ويداخل كل شأن من شئونه من اعتقاد أو خلق أو عمل من غير شك.



فللقرآن اصطكاك مع جميع العلوم والصناعات المتعلقة بأطراف الحياة الإنسانية
ومن الواضح اللائح من خلال آياته النادبة إلى التدبر والتفكر والتذكر
والتعقل أنه يحث حثا بالغا على تعاطي العلم ورفض الجهل في جميع ما يتعلق
بالسماويات والأرضيات والنبات والحيوان والإنسان، من أجزاء عالمنا وما
وراءه من الملائكة والشياطين واللوح والقلم وغير ذلك ليكون ذريعة إلى معرفة
الله سبحانه، وما يتعلق نحوا من التعلق بسعادة الحياة الإنسانية
الاجتماعية من الأخلاق والشرائع والحقوق وأحكام الاجتماع.



وقد عرفت أنه يؤيد الطريق الفطري من التفكر الذي تدعو إليه الفطرة دعوة
اضطرارية لا معدل عنها على حق ما تدعو إليه الفطرة من السير المنطقي.



والقرآن نفسه يستعمل هذه الصناعات المنطقية من برهان وجدل وموعظة، ويدعو
الأمة التي يهديها إلى أن يتبعوه في ذلك فيتعاطوا البرهان فيما كان من
الواقعيات الخارجة من باب العمل ويستدلوا بالمسلمات في غير ذلك أو بما
يعتبر به.



وقد اعتبر القرآن
في بيان مقاصده السنة النبوية، وعين لهم الأسوة في رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) فكانوا يحفظون عنه، ويقلدون مشيته العلمية تقليد المتعلم
معلمه في السلوك العلمي.



كان القوم في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونعني به أيام إقامته
بالمدينة حديثي عهد بالتعليم الإسلامي، حالهم أشبه بحال الإنسان القديم في
تدوين العلوم والصناعات، يشتغلون بالأبحاث العلمية اشتغالا ساذجا غير فني
على عناية منهم بالتحصيل والتحرير، وقد اهتموا أولا بحفظ القرآن
وقراءته، وحفظ الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير كتابة،
ونقله، وكان لهم بعض المطارحات الكلامية فيما بينهم أنفسهم، واحتجاجات مع
بعض أرباب الملل الأجنبية ولا سيما اليهود والنصارى لوجود أجيال منهم في
الجزيرة والحبشة والشام، ومن هنا يبتدىء ظهور علم الكلام وكانوا، يشتغلون
برواية الشعر وقد كانت سنة عربية لم يهتم بأمرها الإسلام ولم يمدح الكتاب
الشعر والشعراء بكلمة، ولا السنة بالغت في أمره.



ثم لما ارتحل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من أمر الخلافة ما هو
معروف وزاد الاختلاف الحادث عند ذلك بابا على الأبواب الموجودة.



وجمع القرآن في زمن الخليفة الأول بعد غزوة يمامة وشهادة جماعة من القراء فيها.



وكان الأمر على هذا في عهد خلافته - وهي سنتان تقريبا - ثم في عهد الخليفة الثاني.



والإسلام وإن انتشر صيته واتسع نطاقه بما رزق المسلمون من الفتوحات العظيمة
في عهده لكن الاشتغال بها كان يعوقهم عن التعمق في إجالة النظر في روابط
العلوم والتماس الارتقاء في مدارجها، أو إنهم ما كانوا يرون لما عندهم من
المستوى العلمي حاجة إلى التوسع والتبسط.



وليس العلم وفضله أمرا محسوسا يعرفه أمة من أمة أخرى إلا أن يرتبط بالصنعة فيظهر أثره على الحس فيعرفه العامة.



وقد أيقظت هذه الفتوحات المتوالية الغزيرة العرب الجاهلية من الغرور
والنخوة بعد ما كانت في سكن بالتربية النبوية، فكانت تتسرب فيهم روح الأمم
المستعلية الجبارة، وتتمكن منهم رويدا، يشهد به شيوع تقسيم الأمة المسلمة
يومئذ إلى العرب والموالي، وسير معاوية - وهو والي الشام يومذاك - بين
المسلمين بسيرة ملوكية قيصرية، وأمور أخرى كثيرة ذكرها التاريخ عن جيوش
المسلمين، وهذه نفسيات لها تأثير في السير العلمي ولا سيما التعليمات
القرآنية.



وأما الذي كان عندهم من حاضر السير العلمي فالاشتغال بالقرآن كان على حاله
وقد صار مصاحف متعددة تنسب إلى زيد وأبي وابن مسعود وغيرهم.



وأما الحديث فقد راج رواجا بينا وكثر النقل والضبط إلى حيث نهى عمر بعض
الصحابة عن التحديث لكثرة ما روى، وقد كان عدة من أهل الكتاب دخلوا في
الإسلام وأخذ عنهم المحدثون شيئا كثيرا من أخبار كتبهم وقصص أنبيائهم
وأممهم، فخلطوها بما كان عندهم من الأحاديث المحفوظة عن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم)، وأخذ الوضع والدس يدوران في الأحاديث، ويوجد اليوم في
الأحاديث المقطوعة المنقولة عن الصحابة ورواتهم في الصدر الأول شيء كثير من
ذلك يدفعه القرآن بظاهر لفظه.



وجملة السبب في ذلك أمور ثلاثة:

1 - المكانة الرفيعة التي كانت تعتقدها الناس لصحبة النبي وحفظ الحديث عنه،
وكرامة الصحابة وأصحابهم النقلة عنهم على الناس، وتعظيمهم لأمرهم، فدعا
ذلك الناس إلى الأخذ والإكثار حتى عن مسلمي أهل الكتاب والرقابة الشديدة
بين حملة الحديث في حيازة التقدم والفخر.



2 - إن الحرص الشديد منهم على حفظ الحديث ونقله منعهم عن تمحيصه والتدبر في
معناه وخاصة في عرضه على كتاب الله وهو الأصل الذي تبتني عليه بنية الدين
وتستمد منه فروعه، وقد وصاهم بذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما صح
من قوله: ﴿ستكثر علي القالة﴾ الحديث، وغيره.



وحصلت بذلك فرصة لأن تدور بينهم أحاديث موضوعة في صفات الله وأسمائه
وأفعاله، وزلات منسوبة إلى الأنبياء الكرام، ومساوىء مشوهة تنسب إلى النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) وخرافات في الخلق والإيجاد، وقصص الأمم الماضية،
وتحريف القرآن وغير ذلك مما لا تقصر عما تتضمنه التوراة والإنجيل من هذا القبيل.



واقتسم القرآن والحديث عند ذلك التقدم والعمل: فالتقدم الصوري للقرآن والأخذ والعمل بالحديث فلم يلبث القرآن دون أن هجر عملا، ولم تزل تجري هذه السيرة وهي الصفح عن عرض الحديث على القرآن مستمرة بين الأمة عملا حتى اليوم وإن كانت تنكرها قولا وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا﴾ اللهم إلا آحاد بعد آحاد.



وهذا التساهل بعينه هو أحد الأسباب في بقاء كثير من الخرافات القومية
القديمة بين الأمم الإسلامية بعد دخولهم في الإسلام والداء يجر الداء.



3 - إن ما جرى في أمر الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أوجب اختلاف آراء عامة المسلمين في أهل بيته فمن عاكف عليهم هائم بهم، ومن
معرض عنهم لا يعبأ بأمرهم ومكانتهم من علم القرآن
أو مبغض شانىء لهم، وقد وصاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لا
يرتاب في صحته ودلالته مسلم أن يتعلموا منهم ولا يعلموهم وهم أعلم منهم
بكتاب الله، وذكر لهم أنهم لن يغلطوا في تفسيره ولن يخطئوا في فهمه قال في
حديث الثقلين المتواتر: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ولن يفترقا
حتى يردا علي الحوض الحديث.



وفي بعض طرقه: لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم. وقال في المستفيض من كلامه: ﴿من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار﴾ وقد تقدم في أبحاث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.



وهذا أعظم ثلمة انثلم بها علم القرآن وطريق التفكر الذي يندب إليه.



ومن الشاهد على هذا الإعراض قلة الأحاديث المنقولة عنهم (عليهم السلام)
فإنك إذا تأملت ما عليه علم الحديث في عهد الخلفاء من المكانة والكرامة،
وما كان عليه الناس من الولع والحرص الشديد على أخذه ثم أحصيت ما نقل في
ذلك عن علي والحسن والحسين، وخاصة ما نقل من ذلك في تفسير القرآن
لرأيت عجبا: أما الصحابة فلم ينقلوا عن علي (عليه السلام) شيئا يذكر،
وأما التابعون فلا يبلغ ما نقلوا عنه - إن أحصي - مائة رواية في تمام القرآن
وأما الحسن (عليه السلام) فلعل المنقول عنه لا يبلغ عشرا، وأما الحسين
فلم ينقل عنه شيء يذكر، وقد أنهى بعضهم الروايات الواردة في التفسير إلى
سبعة عشر ألف حديث من طريق الجمهور وحده، وهذه النسبة موجودة في روايات
الفقه أيضا.



فهل هذا لأنهم هجروا أهل البيت وأعرضوا عن حديثهم؟ أو لأنهم أخذوا عنهم
وأكثروا ثم أخفيت ونسيت في الدولة الأموية لانحراف الأمويين عنهم؟ ما أدري.



غير أن عزلة علي وعدم اشتراكه في جمع القرآن أولا وأخيرا وتاريخ حياة الحسن والحسين (عليهما السلام) يؤيد أول الاحتمالين.



وقد آل أمر حديثه إلى أن أنكر بعض كون ما اشتمل عليه كتاب نهج البلاغة من
غرر خطبه من كلامه، وأما أمثال الخطبة البتراء لزياد بن أبيه وخمريات يزيد
فلا يكاد يختلف فيها اثنان!.



ولم يزل أهل البيت مضطهدين، مهجورا حديثهم إلى أن انتهض الإمامان: محمد بن
علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في برهة كالهدنة بين الدولة
الأموية والدولة العباسية فبينا ما ضاعت من أحاديث آبائهم، وجددا ما
اندرست وعفيت من آثارهم.



غير أن حديثهما وغيرهما من آبائهما وأبنائهما من أئمة أهل البيت أيضا لم
يسلم من الدخيل ولم يخلص من الدس والوضع كحديث رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم)، وقد ذكرا ذلك في الصريح من كلامهما، وعدا رجالا من الوضاعين
كمغيرة بن سعيد وابن أبي الخطاب وغيرهما، وأنكر بعض الأئمة روايات كثيرة
مروية عنهم وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمروا أصحابهم وشيعتهم
بعرض الأحاديث المنقولة عنهم على القرآن وأخذ ما وافقه وترك ما خالفه.



ولكن القوم إلا آحاد منهم لم يجروا عليها عملا في أحاديث أهل البيت (عليهم
السلام) وخاصة في غير الفقه، وكان السبيل الذي سلكوه في ذلك هو السبيل الذي
سلكه الجمهور في أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).



وقد أفرط في الأمر إلى حيث ذهب جمع إلى عدم حجية ظواهر الكتاب وحجية مثل
مصباح الشريعة وفقه الرضا وجامع الأخبار! وبلغ الإفراط إلى حيث ذكر بعضهم
أن الحديث يفسر القرآن مع مخالفته لصريح دلالته، وهذا يوازن ما ذكره بعض الجمهور: أن الخبر ينسخ الكتاب.



ولعل المتراءى من أمر الأمة لغيرهم من الباحثين كما ذكره بعضهم: (أن أهل
السنة أخذوا بالكتاب وتركوا العترة، فآل ذلك إلى ترك الكتاب لقول النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿إنهما لن يفترقا﴾ وأن الشيعة أخذوا بالعترة
وتركوا الكتاب، فآل ذلك منهم إلى ترك العترة لقوله (صلى الله عليه وآله
وسلم): ﴿إنهما لن يفترقا﴾ فقد تركت الأمة القرآن والعترة الكتاب والسنة معا).



وهذه الطريقة المسلوكة في الحديث أحد العوامل التي عملت في انقطاع رابطة العلوم الإسلامية وهي العلوم الدينية والأدبية عن القرآن
مع أن الجميع كالفروع والثمرات من هذه الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت
وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وذلك أنك إن تبصرت في أمر
هذه العلوم وجدت أنها نظمت تنظيما لا حاجة لها إلى القرآن
أصلا حتى أنه يمكن لمتعلم أن يتعلمها جميعا: الصرف والنحو والبيان واللغة
والحديث والرجال والدراية والفقه والأصول فيأتي آخرها، ثم يتضلع بها ثم
يجتهد ويتمهر فيها وهو لم يقرأ القرآن، ولم يمس مصحفا قط، فلم يبق للقرآن
بحسب الحقيقة إلا التلاوة لكسب الثواب أو اتخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن
طوراق الحدثان! فاعتبر إن كنت من أهله.



ولنرجع إلى ما كنا فيه: كان حال البحث عن القرآن
والحديث في عهد عمر ما سمعته، وقد اتسع نطاق المباحث الكلامية في هذا
العهد لما أن الفتوحات الوسيعة أفضت بالطبع إلى اختلاط المسلمين بغيرهم من
الأمم وأرباب الملل والنحل وفيهم العلماء والأحبار والأساقفة والبطارقة
الباحثون في الأديان والمذاهب فارتفع منار الكلام لكن لم يدون بعد تدوينا،
فإن ما عد من التآليف فيه إنما ذكر في ترجمات من هو بعد هذا العصر.



ثم كان الأمر على ذلك في عهد عثمان على ما فيه من انقلاب الناس على الخلافة، وإنما وفق لجمع المصاحف، والاتفاق على مصحف واحد.



ثم كان الأمر على ذلك في خلافة علي (عليه السلام) وشغله إصلاح ما فسد من
مجتمع المسلمين بالاختلافات الداخلية ووقع حروب متوالية في إثر ذلك.



غير أنه (عليه السلام) وضع علم النحو وأملأ كلياته أبا الأسود الدئلي من
أصحابه وأمره بجمع جزئيات قواعده، ولم يتأت له وراء ذلك إلا أن ألقى بيانات
من خطب وأحاديث فيها جوامع مواد المعارف الدينية وأنفس الأسرار القرآنية،
وله مع ذلك احتجاجات كلامية مضبوطة في جوامع الحديث.



ثم كان الأمر على ذلك في خصوص القرآن
والحديث في عهد معاوية ومن بعده من الأمويين والعباسيين إلى أوائل القرن
الرابع من الهجرة تقريبا وهو آخر عهد الأئمة الاثني عشر عند الشيعة، فلم
يحدث في طريق البحث عن القرآن
والحديث أمر مهم غير ما كان في عهد معاوية من بذل الجهد في إماتة ذكر أهل
البيت (عليهم السلام) وإعفاء أثرهم ووضع الأحاديث، وقد انقلبت الحكومة
الدينية إلى سلطنة استبدادية، وتغيرت السنة الإسلامية إلى سيطرة
إمبراطورية، وما كان في عهد عمر بن عبد العزيز من أمره بكتابة الحديث، وقد
كان المحدثون يتعاطون الحديث إلى هذه الغاية بالأخذ والحفظ من غير تقييد
بالكتابة.



وفي هذه البرهة راج الأدب العربي غاية رواجه، شرع ذلك من زمن معاوية فقد
كان يبالغ في ترويج الشعر ثم الذين يلونه من الأمويين ثم العباسيين، وكان
ربما يبذل بإزاء بيت من الشعر أو نكتة أدبية المئات والألوف من الدنانير،
وانكب الناس على الشعر وروايته، وأخبار العرب وأيامهم، وكانوا يكتسبون بذلك
الأموال الخطيرة، وكانت الأمويون ينتفعون برواجه وبذل الأموال بحذائه
لتحكيم موقعهم تجاه بني هاشم ثم العباسيون تجاه بني فاطمة كما كانوا
يبالغون في إكرام العلماء ليظهروا بهم على الناس، ويحملوهم ما شاءوا
وتحكموا.



وبلغ من نفوذ الشعر والأدب في المجتمع العلمي أنك ترى كثيرا من العلماء
يتمثلون بشعر شاعر أو مثل سائر في مسائل عقلية أو أبحاث علمية ثم يكون له
القضاء، وكثيرا ما يبنون المقاصد النظرية على مسائل لغوية ولا أقل من البحث
اللغوي في اسم الموضوع أولا ثم الورود في البحث ثانيا، وهذه كلها أمور لها
آثار عميقة في منطق الباحثين وسيرهم العلمي.



وفي تلك الأيام راج البحث الكلامي، وكتب فيه الكتب والرسائل، ولم يلبثوا أن
تفرقوا فرقتين عظيمتين وهما الأشاعرة والمعتزلة، وكانت أصول أقوالهم
موجودة في زمن الخلفاء بل في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدل على
ذلك ما روي من احتجاجات علي (عليه السلام) في الجبر والتفويض والقدر
والاستطاعة وغيرها، وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك
وإنما امتازت الطائفتان في هذا الأوان بامتياز المسلكين وهو تحكيم المعتزلة
ما يستقل به العقل على الظواهر الدينية كالقول بالحسن والقبح العقليين،
وقبح الترجيح من غير مرجح، وقبح التكليف بما لا يطاق، والاستطاعة،
والتفويض، وغير ذلك، وتحكيم الأشاعرة الظواهر على حكم العقل بالقول بنفي
الحسن والقبح، وجواز الترجيح من غير مرجح، ونفي الاستطاعة، والقول بالجبر،
وقدم كلام الله، وغير ذلك مما هو مذكور في كتبهم.



ثم رتبوا الفن واصطلحوا الاصطلاحات وزادوا مسائل قابلوا بها الفلاسفة في
المباحث المعنوية بالأمور العامة، وذلك بعد نقل كتب الفلسفة إلى العربية
وانتشار دراستها بين المسلمين، وليس الأمر على ما ذكره بعضهم: أن التكلم
ظهر أو انشعب في الإسلام إلى الاعتزال والأشعرية بعد انتقال الفلسفة إلى
العرب، يدل على ذلك وجود معظم مسائلهم وآرائهم في الروايات قبل ذلك.



ولم تزل المعتزلة تتكثر جماعتهم وتزداد شوكتهم وأبهتهم منذ أول الظهور إلى
أوائل العهد العباسي أوائل القرن الثالث الهجري ثم رجعوا يسلكون سبيل
الانحطاط والسقوط حتى أبادتهم الملوك من بني أيوب فانقرضوا وقد قتل في
عهدهم وبعدهم لجرم الاعتزال من الناس ما لا يحصيه إلا الله سبحانه وعند ذلك
صفا جو البحث الكلامي للأشاعرة من غير معارض فتوغلوا فيه بعد ما كان
فقهاؤهم يتأثمون بذلك أولا، ولم يزل الأشعرية رائجة عندهم إلى اليوم.



وكان للشيعة قدم في التكلم، كان أول طلوعهم بالتكلم بعد رحلة النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) وكان جلهم من الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار
وعمرو بن الحمق وغيرهم ومن التابعين كرشيد وكميل وميثم وسائر العلويين
أبادتهم أيدي الأمويين، ثم تأصلوا وقوي أمرهم ثانيا في زمن الإمامين:
الباقر والصادق (عليهما السلام) وأخذوا بالبحث وتأليف الكتب والرسائل، ولم
يزالوا يجدون الجد تحت قهر الحكومات واضطهادها حتى رزقوا بعض الأمن في
الدولة البويهية ثم أخنقوا ثانيا حتى صفا لهم الأمر بظهور الدولة الصفوية
في إيران، ثم لم يزالوا على ذلك حتى اليوم.



وكانت سيماء بحثهم في الكلام أشبه بالمعتزلة منها بالأشاعرة، ولذلك ربما
اختلط بعض الآراء كالقول بالحسن والقبح ومسألة الترجيح من غير مرجح ومسألة
القدر ومسألة التفويض، ولذلك أيضا اشتبه الأمر على بعض الناس فعد الطائفتين
أعني الشيعة والمعتزلة ذواتي طريقة واحدة في البحث الكلامي، كفرسي رهان،
وقد أخطأ، فإن الأصول المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهي
المعتبرة عند القوم لا تلائم مذاق المعتزلة في شيء.



وعلى الجملة فن الكلام فن شريف يذب عن المعارف الحقة الدينية غير أن
المتكلمين من المسلمين أساءوا في طريق البحث فلم يميزوا بين الأحكام
العقلية واختلط عندهم الحق بالمقبول على ما سيجيء إيضاحه بعض الإيضاح.



وفي هذه البرهة من الزمن نقلت علوم الأوائل من المنطق والرياضيات
والطبيعيات والإلهيات والطب والحكمة العملية إلى العربية، نقل شطر منها في
عهد الأمويين ثم أكمل في أوائل عهد العباسيين، فقد ترجموا مئات من الكتب من
اليونانية والرومية والهندية والفارسية والسريانية إلى العربية، وأقبل
الناس يتدارسون مختلف العلوم ولم يلبثوا كثيرا حتى استقلوا بالنظر، وصنفوا
فيها كتبا ورسائل، وكان ذلك يغيظ علماء الوقت، ولا سيما ما كانوا يشاهدونه
من تظاهر الملاحدة من الدهرية والطبيعية والمانوية وغيرهم على المسائل
المسلمة في الدين، وما كان عليه المتفلسفون من المسلمين من الوقيعة في
الدين وأهله، وتلقي أصول الإسلام ومعالم الشرع الطاهرة بالإهانة والإزراء
ولا داء كالجهل ومن أشد ما كان يغيظهم ما كانوا يسمعونه منهم من القول في
المسائل المبتنية على أصول موضوعة مأخوذة من الهيئة والطبيعيات كوضع
الأفلاك البطليموسية، وكونها طبيعة خامسة، واستحالة الخرق والالتيام فيها،
وقدم الأفلاك والفلكيات بالشخص وقدم العناصر بالنوع، وقدم الأنواع ونحو ذلك
فإنها مسائل مبنية على أصول موضوعة لم يبرهن عليها في الفلسفة لكن الجهلة
من المتفلسفين كانوا يظهرونها في زي المسائل المبرهن عليها، وكانت الدهرية
وأمثالهم وهم يومئذ منتحلون إليها يضيفون إلى ذلك أمورا أخرى من أباطيلهم
كالقول بالتناسخ ونفي المعاد ولا سيما المعاد الجسماني، ويطعنون بذلك كله
في ظواهر الدين وربما قال القائل منهم: إن الدين مجموع وظائف تقليدية أتى
بها الأنبياء لتربية العقول الساذجة البسيطة وتكميلها، وأما الفيلسوف
المتعاطي للعلوم الحقيقية فهو في غنى عنهم وعما أتوا به، وكانوا ذوي أقدام
في طرق الاستدلال.



فدعا ذلك الفقهاء والمتكلمين وحملهم على تجبيههم بالإنكار والتدمير عليهم
بأي وسيلة تيسرت لهم من محاجة ودعوة عليهم وبراءة منهم وتكفير لهم حتى
كسروا سورتهم وفرقوا جمعهم وأفنوا كتبهم في زمن المتوكل، وكادت الفلسفة
تنقرض بعده حتى جدده ثانيا المعلم الثاني أبو نصر الفارابي المتوفى سنة 393
ثم بعده الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا المتوفى سنة 482
ثم غيرهما من معاريف الفلسفة كأبي علي بن مسكويه وابن رشد الأندلسي
وغيرهما، ثم لم تزل الفلسفة تعيش على قلة من متعاطيها وتجول بين ضعف وقوة.



وهي وإن انتقلت ابتداء إلى العرب لكن لم يشتهر بها منهم إلا الشاذ النادر
كالكندي وابن رشد، وقد استقرت أخيرا في إيران، والمتكلمون من المسلمين وإن
خالفوا الفلسفة وأنكروا على أهلها أشد الإنكار لكن جمهورهم تلقوا المنطق
بالقبول فألفوا فيها الرسائل والكتب لما وجدوه موافقا لطريق الاستدلال
الفطري.



غير أنهم - كما سمعت - أخطئوا في استعماله فجعلوا حكم الحدود الحقيقية
وأجزائها مطردا في المفاهيم الاعتبارية، واستعملوا البرهان في القضايا
الاعتبارية التي لا مجرى فيها إلا للقياس الجدلي فتراهم يتكلمون في
الموضوعات الكلامية كالحسن والقبح والثواب والعقاب والحبط والفضل في
أجناسها وفصولها وحدودها، وأين هي من الحد؟ ويستدلون في المسائل الأصولية
والمسائل الكلامية من فروع الدين بالضرورة والامتناع.



وذلك من استخدام الحقائق في الأمور الاعتبارية ويبرهنون في أمور ترجع إلى
الواجب تعالى بأنه يجب عليه كذا ويقبح منه كذا فيحكمون الاعتبارات على
الحقائق، ويعدونه برهانا، وليس بحسب الحقيقة إلا من القياس الشعري.



وبلغ الإفراط في هذا الباب إلى حد قال قائلهم: إن الله سبحانه أنزه ساحة من
أن يدب في حكمه وفعله الاعتبار الذي حقيقته الوهم فكل ما كونه تكوينا أو
شرعه تشريعا أمور حقيقية واقعية، وقال آخر: إن الله سبحانه أقدر من أن يحكم
بحكم ثم لا يستطاع من إقامة البرهان عليه، فالبرهان يشمل التكوينيات
والتشريعيات جميعا.



إلى غير ذلك من الأقاويل التي هي لعمري من مصائب العلم وأهله، ثم الاضطرار إلى وضعها والبحث عنها في المسفورات العلمية أشد مصيبة.



وفي هذه البرهة ظهر التصوف بين المسلمين، وقد كان له أصل في عهد الخلفاء
يظهر في لباس الزهد، ثم بان الأمر بتظاهر المتصوفة في أوائل عهد بني العباس
بظهور رجال منهم كأبي يزيد والجنيد والشبلي ومعروف وغيرهم.



يرى القوم أن السبيل إلى حقيقة الكمال الإنساني والحصول على حقائق المعارف
هو الورود في الطريقة، وهي نحو ارتياض بالشريعة للحصول على الحقيقة، وينتسب
المعظم منهم من الخاصة والعامة إلى علي (عليه السلام).



وإذا كان القوم يدعون أمورا من الكرامات، ويتكلمون بأمور تناقض ظواهر الدين
وحكم العقل مدعين أن لها معاني صحيحة لا ينالها فهم أهل الظاهر ثقل على
الفقهاء وعامة المسلمين سماعها فأنكروا ذلك عليهم وقابلوهم بالتبري
والتكفير، فربما أخذوا بالحبس أو الجلد أو القتل أو الصلب أو الطرد أو
النفي كل ذلك لخلاعتهم واسترسالهم في أقوال يسمونها أسرار الشريعة، ولو كان
الأمر على ما يدعون وكانت هي لب الحقيقة وكانت الظواهر الدينية كالقشر
عليها وكان ينبغي إظهارها والجهر بها لكان مشرع الشرع أحق برعاية حالها
وإعلان أمرها كما يعلنون، وإن لم تكن هي الحق فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟.



والقوم لم يدلوا في أول أمرهم على آرائهم في الطريقة إلا باللفظ ثم زادوا
على ذلك بعد أن أخذوا موضعهم من القلوب قليلا بإنشاء كتب ورسائل بعد القرن
الثالث الهجري، ثم زادوا على ذلك بأن صرحوا بآرائهم في الحقيقة والطريقة
جميعا بعد ذلك فانتشر منهم ما أنشئوه نظما ونثرا في أقطار الأرض.



ولم يزالوا يزيدون عدة وعدة ووقوعا في قلوب العامة ووجاهة حتى بلغوا غاية
أوجهم في القرنين السادس والسابع ثم انتكسوا في المسير وضعف أمرهم وأعرض
عامة الناس عنهم.



وكان السبب في انحطاطهم أولا أن شأنا من الشئون الحيوية التي لها مساس بحال
عامة الناس إذا اشتد إقبال النفوس عليه وتولع القلوب إليه تاقت إلى
الاستدرار من طريقه نفوس وجمع من أرباب المطامع فتزيوا بزيه وظهروا في صورة
أهله وخاصته فأفسدوا فيه وتعقب ذلك تنفر الناس عنه.



وثانيا: أن جماعة من مشايخهم ذكروا أن طريقة معرفة النفس طريقة مبتدعة لم
يذكرها مشرع الشريعة فيما شرعه إلا أنها طريقة مرضية ارتضاها الله سبحانه
كما ارتضى الرهبانية المبتدعة بين النصارى قال تعالى: ﴿ورهبانية ابتدعوها
ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها﴾: الحديد:
27.



وتلقاه الجمهور منهم بالقبول فأباح ذلك لهم أن يحدثوا للسلوك رسوما وآدابا
لم تعهد في الشريعة، فلم تزل تبتدع سنة جديدة وتترك أخرى شرعية، حتى آل إلى
أن صارت الشريعة في جانب، والطريقة في جانب، وآل بالطبع إلى انهماك
المحرمات وترك الواجبات من شعائر الدين ورفع التكاليف، وظهور أمثال
القلندرية ولم يبق من التصوف إلا التكدي واستعمال الأفيون والبنج وهو
الفناء.



والذي يقضي به في ذلك الكتاب والسنة - وهما يهديان إلى حكم العقل - هو أن
القول بأن تحت ظواهر الشريعة حقائق هي باطنها حق، والقول بأن للإنسان طريقا
إلى نيلها حق، ولكن الطريق إنما هو استعمال الظواهر الدينية على ما ينبغي
من الاستعمال لا غير، وحاشا أن يكون هناك باطن لا يهدي إليه ظاهر، والظاهر
عنوان الباطن وطريقه، وحاشا أن يكون هناك شيء آخر أقرب مما دل عليه شارع
الدين غفل عنه أو تساهل في أمره أو أضرب عنه لوجه من الوجوه بالمرة وهو
القائل عز من قائل: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء﴾: النحل: 89
وبالجملة فهذه طرق ثلاثة في البحث عن الحقائق والكشف عنها: الظواهر الدينية
وطريق البحث العقلي وطريق تصفية النفس، أخذ بكل منها طائفة من المسلمين
على ما بين الطوائف الثلاث من التنازع والتدافع، وجمعهم في ذلك كزوايا
المثلث كلما زدت في مقدار واحدة منها نقصت من الأخريين وبالعكس.



وكان الكلام في التفسير يختلف اختلافا فاحشا بحسب اختلاف مشرب المفسرين بمعنى أن الن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 15-19 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 55-56 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره)
» الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 33-40 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره)
» » الميزان في تفسير القرآن » المائدة • الآيات 6-7 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره)
» » الميزان في تفسير القرآن » المائدة • الآيات 4-5 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره)
» الميزان في تفسير القرآن » المائدة الآيات 68-86 العلامة السيد الطباطبائي (قدس سره)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات اهل البيت عليهم السلام _ البوابة للعلم والمعرفة :: ~ إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت"~ الاسلامية :: منتدى القرأن الكريم وتفسيرة-
انتقل الى: