قد اشتهر في الناس أنّ أبا الحسن موسى عليه السلام كان أجلّ ولد الصادق عليه السلام شأناً ، وأعلاهم في الدين مكاناً ، واسخاهم بناناً ، وأفصحهم لساناً ، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأفقههم وأكرمهم .
وروي : أنّه كان يصّلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ، ثمّ يعقّب حتّى تطلع الشمس ، ثمّ يخرّ ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتّى يقرب زوال الشمس ، وكان يقول ، في سجوده عليه السلام :« قبح الذنب من عبدك فليحسن العفو والتجاوز من عندك» .
وكان من دعائه عليه السلام :« اللهم إني أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب ».
وكان عليه السلام يبكي من خشية الله حتّى تخضل لحيته بالدموع .
وكان يتفقّد فقراء المدينة فيحمل إليهم في اللّيل العين (1)والوَرِق (2)وغير ذلك ، فيوصلها إليهم وهم لا يعلمون من أي وجه هو (3) .
وروى الشريف أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى العلويّ ، عن جدّه بإسناده قال : إنّ رجلاً من ولد عمر بن الخطّاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى عليه السلام ويشتم عليّاً عليه السلام ، فقال له بعض حاشيته : دعنا نقتل هذا الرجل ، فنهاهم عن أشدّ النهي ، وسأل عن العمري فقيل : إنّه يزرع بناحية من نواحي المدينة .
فركب إليه ، فوجده في مزرعة < له > فدخل المزرعة بحماره ، فصاح به العمري : لا توطئ زرعنا ، فتوطّأه أبو الحسن عليه السلام بالحمار حتى وصل إليه فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه ، وقال له :« كم غرمت في زرعك هذا؟» .
فقال : مائة دينار .
قال : «وكم ترجو أن تصيب؟»
قال : لست أعلم الغيب .
قال : «إنّما قلت لك : كم ترجو ».
فقال : «أرجوا أن يجيئني فيه مائتا دينار» .
قال : فأخرج له أبو الحسن عليه السلام صرّة فيها ثلاثمائة دينار ،
وقال : «هذا زرعك على حاله والله يرزقك فيه ما ترجو ».
فقام العمري فقبّل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه ، فتبسّم أبو الحسن موسى عليه السلام وانصرف ، ثمّ راح إلى المسجد فوجد العمري جالساً فلمّا نظر إليه قال : الله أعلم حيث يجعل رسالاته .
قال : فوثب إليه أصحابه فقالوا له : ما قصّتك؟ فقد كنت تقول غير هذا!!
قال : فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن ، وجعل يدعو لأَبي الحسن عليه السلام ، فخاصموه وخاصمهم .
فلمّا رجع أبو الحسن عليه السلام إلى داره قال لمن سألوه قتل العمرىّ : «أيّما كان خيراً ما أردت أو ما أردتم؟» (4) .
وذكرت الرواة : أنّه عليه السلام كان يصل بالمائتي دينار إلى ثلاثمائة دينار ، وكانت صرار موسى عليه السلام مثلاً (5) .
وذكروا : أنّ الرشيد لما خرج إلى الحجّ وقرب من المدينة استقبله وجوه أهلها يقدمهم موسى بن جعفر عليهما السلام على بغلة ، فقال له الربيع : ما هذه الدابّة التي تلقّيت عليها أمير المؤمنين ، وأنت إن طلبت عليها لم تدرك وإن طلبت لم تفت؟
فقال عليه السلام :« إنّها تطأطأت عن خيلاء الخيل وارتفعت عن ذلّة العير ، وخير الاُمور أوسطها» (6) .
قالوا : ولمّا دخل هارون المدينة وزار النبيّ صّلى الله عليه وآله وسلّم
قال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا ابن عمّ ، مفتخراً بذلك على غيره .
فتقدّم أبو الحسن عليه السلام وقال :« السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبه» فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن فيه الغضب (7) .
وروى الشريف الأَجلّ المرتضى ـ قدس الله روح ـ عن أبي عبيدالله المرزبانيّ ،مرفوعاً إلى أيّوب بن الحسين الهاشميّ قال : كان نفيع رجلاً من الأَنصار حضر باب الرشيد ـ وكان عريضاً ـ وحضر معه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، وحضر موسى بن جعفر عليهما السلام على حمار له ، فتلّقاه الحاجب بالبشر والإِكرام ، وأعظمه من كان هناك ، وعجّل له الإِذن ، فقال نفيع لعبد العزيز : ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم ، يفعلون هذا برجل يقدر أن يزيلهم عن السرير ، أما لئن خرج لاَسوءنّه ، قال له عبدالعزيز : لا تفعل ، فإن هؤلاء أهل بيت قلّ من تعرّض لهم في خطاب إلاّ وسموه في الجواب سمه يبقى عارها عليه مدى الدهر .
قال : وخرج موسى عليه السلام فقام إليه نفيع الاَنصاري فأخذا بلجام حماره ، ثمّ قال : من أنت؟
فقال :« يا هذا ، إن كنت تريد النسب فأنا ابن محمد حبيب الله ابن اسماعيل ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله ، وإن كنت تريد البلد فهو الذي فرض الله عزّ وجلّ على المسلمين وعليك ـ إن كنت منهم ـ الحجّ إليه ، وإن كنت تريد المفاخرة فوالله ما رضي مشركو قومي مسلمي قومك أكفاء لهم حتّى قالوا : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش ، وإن كنت تريد الصيت والاسم فنحن الذين أمرالله تعالى بالصلاة علينا في الصلوات المفروضة بقول : (اللهم صلّ على محمد وآل محمد) فنحن آل محمد ، خلّ عن الحمار ».
فخلّى عنه ويده ترعد ، وانصرف بخزي ، فقال له عبدالعزيز : ألم أقل لك؟! (
وروى عن أبي حنيفة النعمان بن ثابت قال : دخلت المدينة فأتيت أبا عبدالله جعفر بن محمد عليه السلام فسلّمت عليه ، وخرجت من عنده فرأيت ابنه موسى عليه السلام في دهليزه قاعداً في مكتبه وهو صغير السنّ ، فقلت : أين يضع الغريب إذا كان عندكم إذا أراد ذلك؟
فنظر إليّ ثمّ قال :« يجتنب شطوط الاَنهار ، ومساقط الثمار ، وأفنية الدور ، والطرق النافذة ، والمساجد ، ويرفع ويضع بعد ذلك أين شاء ».
فلّما سمعت هذا القول نبل في عيني وعظم في قلبي ، فقلت له : جعلت فداك ، ممّن المعصية؟
فنظر إليّ ثم قال : «إجلس حتى اُخبرك »، فجلست فقال :« إنّ المعصية لا بد أن تكون من العبد ، أو من ربه ، أو منهما جميعاً ، فإن كانت من الربّ فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله بما لم يفعله ، وإن كانت منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأَمر وإليه توجّه النهي وله حقّ الثواب والعقاب ، ولذلك وجبت له الجنّة والنار» .
فلمّا سمعت ذلك قلت : (ذُرّيّةٌ بَعضها مِن بَعضٍ وَالله سَميعٌ عَليمٌ) (10) (9) .
ونظم بعضهم هذا المعنى شعراً وقال :
لم تخلُ أفعالُنا اللاّتي ندمّ بها * إحدى ثلاثِ خلالٍ حينَ نأتيها
إما تفرّد بارينا بصـنعتها * فيسقطُ اللومُ عـنّا حين ننشيها
أو كان يشركنا فيه فيلحقهُ * ما سـوفَ يلُحقنا مِن لائمٍ فيها
أو لم يكن لإِلهي في جنايتها * ذنبٌ فما الذنبُ إلاّ ذنبُ جانيها (11)
وروى أبو زيد قال : أخبرنا عبدالحميد قال : سأل محمد بن الحسن أباالحسن موسى عليه السلام بمحضر من الرشيد ـ وهم بمكّة ـ فقال له : هل يجوز للمحرم أن يظلّل على نفسه ومحمله؟
فقال : «لا يجوز له ذلك مع الاختيار ».
فقال محمد بن الحسن : أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختاراً؟
قال :« نعم ».
فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك ، فقال له أبوالحسن عليه السلام :« أتعجب من سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتستهزىَ بها!! إنّ رسول الله كشف ظلاله في إحرامه ومشى تحت الظلال وهو محرم ، إنّ أحكام الله تعالى يا محمد لا تقاس ، فمن قاس بعضها على بعض فقد ضلّ عن سواء السبيل ».
فسكت محمد بن الحسن ولم يحر جواباً (12) .
وكان عليه السلام أحفظ الناس بكتاب الله تعالى وأحسنهم صوتاً به ، وكان إذا قرأ يحزن ويبكي ويبكي السامعون لتلاوته ، وكان الناس بالمدينة يسمّونه زين المتهجّدين (13) .
ومن باهر خصائصه عليه السلام ما وردت به الآثار في شأن اُمّه ، وذلك ما أخبرني به المفيد عبدالجبّار بن علي الرازي رحمه الله ، إجازة ، قال : أخبرنا الشيخ أبو جعفر الطوسي قال : أخبرنا الحسين بن عبيدالله ، عن أبي علي أحمد بن جعفر البزوفريّ ، عن حميد بن زياد ، عن العبّاس بن عبيدالله ابن أحمد الدهقان ، عن إبراهيم بن صالح الأَنماطي ، عن محمد بن الفضل وزياد بن النعمان وسيف بن عميرة ، عن هشام بن أحمر قال : أرسل إليّ أبو عبدالله عليه السلام في يوم شديد الحرّ ، فقال لي : «إذهب إلى فلان الافريقي فاعترض جارية عنده من حالها كذا وكذا ، ومن صفتها كذا ».
فأتيت الرجل فاعترضت ما عنده ، فلم أر ما وصف لي ، فرجعت إليه فأخبرته فقال : «عد إليه فإنّها عنده ».
فرجعت إلى الافريقي ، فحلف لي ما عنده شيء إلاّ وقد عرضه علي ، ثمّ قال : عندي وصيفة مريضة محلوقة الرأس ليس ممّا يعترض ، فقلت له : اعرضها علي ، فجاء بها متوكّئة على جاريتين تخطّ برجليها الأَرض ، فأرانيها فعرفت الصفة ، فقلت : بكم هي؟ فقال لي : إذهب بها إليه فيحكم فيها ، ثم قال لي : قد والله أردتها منذ ملكتها فما قدرت عليها ، ولقد أخبرني الذي اشتريتها منه عند ذلك أنّه لم يصل إليها ، وحلفت الجارية أنّها نظرت إلى القمر وقع في حجرها .
فأخبرت أبا عبدالله عليه السلام بمقالتها ، فأعطاني ، مائتي دينار فذهبت بها إليه فقال الرجل : هي حرّة لوجه الله تعلى إن لم يكن بعث إليّ بشرائها من المغرب .
فأخبرت أبا عبدالله عليه السلام بمقالته ، فقال أبو عبدالله عليه السلام : «يا ابن أحمر أما أنّها تلد مولوداً ليس بينه وبين الله حجاب» (14) .
وقد روى الشيخ المفيد قدس الله روحه في كتاب (الإِرشاد) مثل هذا الخبر مسنداً إلى هشام بن الأَحمر أيضاً ، ألاّ أنّ فيه : إن أبا الحسن موسى عليه السلام أمره ببيع هذه الجارية ، وإنّها كانت اُمّ الرضا عليه السلام (15)
وسمّي عليه السلام بالكاظم لما كظمه من الغيظ ، وتصبّره على ما فعله الظالمون به ، حتّى مضى قتيلاً في حبسهم (16) .
(1) العين : الذهب والدنانير . «الصحاح ـ عين ـ 6 : 2170» .
(2) الوَرِق : الفضة والدراهم . «الصحاح ـ ورق ـ 4 : 1564» .
(3) ارشاد المفيد 2 : 231 ، كشف الغمة 2 : 228 ، ودون صدر الرواية في : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 318 ، ونحوه في : تاريخ بغداد 13 : 27 ، وفيات الأعيان 5 : 308 ، سير أعلام النبلاء 6 : 271 ، الفصول المهمة : 237 .
(4) ارشاد المفيد 2 : 233 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 319 ، دلائل الامامة : 150 ، كشف الغمة 2 : 228 ، مقاتل الطالبيين : 499 ، تاريخ بغداد 13 : 28 ، سير أعلام النبلاء 6 : 271 .
(5) ارشاد المفيد 2 : 234 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 318 ، كشف الغمة 2 : 229 ، مقاتل الطالبيين : 499 ، تاريخ بغداد 13 : 28 ، وفيات الأَعيان 5 : 308 ، سيرأعلام النبلاَء 6 : 271 .
(6) ارشاد المفيد 2 : 234 ، روضة الواعظين : 215 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 320 ، كشف الغمة 2 : 229 ، وباختلاف يسير في : أعلام الدين : 306 ، مقاتل الطالبيين : 500 .
(7) ارشاد المفيد 2 : 234 ، كنز الفوائد 1 : 356 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 320 ، كشف الغمة 2 : 229 ، تاريخ بغداد 13 : 31 ، تذكرة الخواص : 314 ، كفايه الطالب : 457 ، وفيات الأَعيان 5 : 309 ، سير أعلام النبلاء 6 : 273 ، البداية والنهاية 5 : 183 .
(
أمالي المرتضى 1 : 274 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 316 ، أعلام الدين : 305 ، دلائل الامامة : 156 .
(9) آل عمران 3 : 34 .
(10) المناقب لابن شهرآشوب 4 : 314 ، تحف العقول ، 411 ، وصدر الرواية في : الكافي 3 :16 | 5 ، التهذيب1 : 30 | 79 ، اثبات الوصية : 162 ، دلائل الامامة : 162 ، وذيلها في : امالي الصدوق : 334|4 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 138|37 ، التوحيد 96|2 ، كنزالفوائد 1 : 366 ، كشف الغمة 2 : 294 .
(11) كنز الفوائد 1 : 366 ، اعلام الدين : 318 .
(12) ارشاد المفيد 2 : 235 ، روضة الواعظين : 216 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 314 ، كشف الغمة 2 : 230 .
(13) ارشاد المفيد 2 : 235 ، روضة الواعظين : 216 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 318 ، كشف الغمة 2 : 230 .
(14) أمالي الطوسي 2 : 331 ، ونحوه في : دلائل الامامة : 148 .
(15) ارشاد المفيد 2 : 254 ، وكذا في : الكافي 1 : 406|1 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 17|4 ، الاختصاص : 197 ، اثبات الوصية : 170 ، كشف الغمة 2 : 244 و 272 ، دلائل الامامة : 175 .
(16) ارشاد المفيد 2 : 235 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 235 .
كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى ، للشيخ الطبرسي ، تحقيق مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث