قد اشتهر في العالم تبريزه على الخلق في العلم والزهد والشرف ، فلم يؤثرعن أحد من أولاد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قبله من علم القرآن والآثار والسنن وأنواع العلوم والحكم والأداب ما اُثر عنه صلوات الله عليه واختلف إليه بقايا الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين ، وعرّفه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بباقر العلم على ما رواه نقلة الاثار.
عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه قال : قال لي رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم : «يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له :محمد يبقر علم الدين بقراً، فإذا لقيته فاقرئه منّي السلام (1).
وروى أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبدالله قال : «إن جابر بن عبدالله الأنصاري يقعد في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو معتجر (2) بعمامة سوداء، وكان ينادي : يا باقر العلم ، وكان أهل المدينة يقولون : جابر يهجر ، فكان يقول :لا والله ما أهجر ولكنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول :إنّك ستدرك رجلاً منّي اسمه اسمي وشمائله شمائلي يبقر العلم بقراً . فذاك الذي دعاني إلى ما أقول (3).
قال : فكان جابر يأتيه طرفي النهار وكان أهل المدينة يقولون : واعجباً لجابر ياتي هذا الغلام طرفي النهار وهو أحد من بقي من أصحاب رسول اللهّ صلى اللهّ عليه وآله وسلم (4).
وروى ميمون القدّاح ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال : «دخلت على جابر بن عبدالله فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام وقال لي : من أنت ؟ ـ وذلك بعد ما كفّ بصره ـ فقلتَ : محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام ، فقال : يا بنيّ ادن منّي ، فدنوت منه فقبّل يدي ثمّ أهوى إلى رجلي يقبّلها فتنحّيت عنه ، ثمّ قال لي : إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَم يقرئك السلام ، فقلت : وعلى رسول اللهّ السلام ورحمة اللهّ وبركاته ، وكيف ذاك يا جابر؟ فقال : كنت معه ذات يوم فقال لي : يا جابر، لعلّك تبقى حتى تلقى رجلاً من ولدي يقال له : محمد بن عليّ بن الحسين يهب الله له النور والحكمة ، فأقرئه منّي السلام » (5).
وروي عن أبي مالك ، عن عبدالله بن عطاء المكّي قال : ما رأيت العلماء عند أحد قطّ أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام ، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة - مع جلالته في القوم - بين يديه كأنّه صبيّ بين يدي معلّمه (6).
وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عنه قال : حدّثني وصيّ الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام (7).
وروى محمد بن أبي عمير، عن عبدالرحمن بن الحجّاج ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : «إنّ محمد بن المنكدر كان يقول : ما كنت أرى أنّ مثل عليّ بن الحسين عليهما السلام يدع خلفاً لفضل عليّ بن الحسين حتّى رأيت ابنه محمداً، فأردت أن أعظه فوعظني .
فقال له أصحابه : بأيّ شيء وعظك ؟
قال : خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة فلقيت محمد ابن عليّ عليهما السلام ـ وكان رجلاً بدينا ـ وهو متّكى على غلامين له أسودين ـ أو موليين له ـ فقلت في نفسي : شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ! أشهد لأعظنّه ، فدنوت منه فسلّمت عليه فسلّم عليّ ببهر (
وقد تصبب عرقآً، فقلت : أصلحك اللهّ ، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال . في طلب الدنيا ؟ ! لو جاء كالموت وأنت على هذه الحال ؟
قال : فخلّى عن الغلامين من يده وتساند فقال : لوجاءني والله الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله عزّ وجلّ أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس ، وإنّما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله عزّ وجلّ
فقلت : يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني» (9) .
وكان عليه السلام يقول : «ما ينقم الناس منّا إلاّ أنّا أهل بيت الرحمة ، وشجرة النبوّة، ومعدن الحكمة ، وموضع الملائكة ، ومهبط الوحي» (10) .
وكان عليه السلام يقول : «بليّة الناس علينا عظيمة، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا» (11).
وكان عليه السلام يقول : «نحن خزنة علم الله ، ونحن ولاة أمر الله ، وبنا فتح الله الإسلام ، وبنا يختمه ، فمنا يتعلّموا ، فوالله الذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما علم الله في أحد إلاّ فينا، وما يدرك ما عند الله إلاّ بنا» (12).
وروى ابن أبي عمير، عن عمر بن اُذينة، عن الفضيل ، عنه عليه السلام قال : «لو أنّا حدّثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا، ولكنّا حدّثنا ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم فبيّنها لنا» (13).
وسئل عليه السلام عن الحديث يرسله ولا يسنده فقال : «إذا حدّثت بالحديث فلم اُسنده فسندي فيه أبي زين العابدين ، عن أبيه الحسين الشهيد، عن أبيه عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين ، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، عن جبرئيل ، عن الله عزّ وجل » (14).
وروى عنه معروف بن خربوذ قال : سمعته يقول : «إنّ حديثنا صعب مستصعب ، لا يحتمله إلاّ ملك مقرّب ،أو نبيّ مرسلٌ ، أوعبد امتحن الله قلبه للإيمان » (15) .
وروى سدير الصيرفي عنه عليه السلام أنّه قال : «إنّما كلف الله سبحانه الناس معرفة الأئمّة والتسليم لهم في ما أوردوا عليهم ، والردّ إليهم فيما اختلفوا فيه » (16).
وروى سورة بن كليب الأسدي عنه عليه السلام قال : «والله إنّا لخزّان الله في سمائه وفي أرضه ، لا على ذهب ولا فضّة إلاّ على علمه » (17).
وروي عن عبيدالله بن زرارة، عن أبيه قال : كنّا عند أبي جعفر عليه السلام فجاء الكميت (18) فاستأذن عليه فأذن له فأنشده :
من لقلبٍ متيمٍ مستهام * غير ما صبوة ولا احلام
طارقاتٍ ولا ادكار غوانَ * واضحاتِ الخدود كالارامَ
بل هواي الذي اجِن واُبدي * لبني هاشمً فروع الانام
للقريبين من ندىً والبعيديـ * ـن من الجور في عرى الاحكام
والمصيبين باب ما احطأ النا * سُ ومرسي قواعد الاسلامَ
والحماة الكفاةِ في الحرب ان * لف ضِرامأ وقودُها بضرامَ
والغيوثِ الذينَ أن امحلَ الَنا * سُ فمأوى حواضن الايتامِ
.....
فلمّا فرغ منها قال له أبو جعفر عليه السلام : «يا كميت ، لا تزال مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك ، وقلت فينا».
وقال الكميت في حديث آخر: فلمّا بلغت إلى قولي :
أخلص الله لي هواي فما * اُغرق نزعاً ولا تطيش سهامي (19)
قال عليه السلام :. . .
«وقد اُغرق نزعاً وما تطيش سهامي ».
فقلت : يا مولاي أنت أشعر منّي في هذا المعنى (20).
(1) أمالي الصدوق 289 | 9 ، ارشاد المفيد 2 : 159 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 197 ،مختصر تاريخ دمشق 23 : 78، الفصول المهمة : 211 .
(2) الاعتجار: لف العمامة على الرأس . «الصحاح ـ عجر ـ 2 : 737».
33) تجاوز المؤلف عند نقله لهذهِ الرواية مقطعاً وسطياً بين هذين المقطعين روماً للاختصار ، واتكالاً منه على شهرة الرواية، نورده نحن لما فيه من توضيح وربط بين هذين المقطعين :
قال : فبينا جابر يتردد ذات يوم في بعض طرق المدينة إذ مر بطريق في ذلك الطريق كتّاب فيه محمد بن علي عليه السلام ، فلما نظر إليه قال : يا غلام أقبلْ ، فاقبَلَ ، ثم قال له : أدبِرْ فادبَرَ، ثم قال : شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله والذي نفسي بيده ، يا غلام ما اسمك ؟ قال : اسمي محمد بن علي بن الحسين . فاقبل عليه يُقبل رأسه ويقول بابي انت واُمي أبوك يقرئك السلام ويقول ذلك .
فرجع محمد بن علي بن الحسين عليه السلام إلى أبيه وهو ذعر فاخبره الخبر، فقال له :يا بني وقد فعلها جابر ؟ قال : نعم . قال : الزم بيتك يا بني .
(4) الكافي 1 : 5 39 | 2 ، الاختصاص : 62 ، روضة الواعظين : 206 ، الخرائج والجرائح 12 | 279 1 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 196 .
(5) ارشاد المفيد 2 : 158 .
(6) ارشاد المفيد 2 : 160 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 204، حلية الأولياء 3 : 186 ، مختصر تاريخ دمشق 23 : 79 .
(7) ارشاد المفيد 2 : 165 ، . المناقب لابن شهر اشوب 4 : 180 .
(
البُهر (با لضم ) : تتابع النفَس . «الصحاح ـ بهر ـ 2 : 895» .
(9) الكافي 5: 73 | 1 ، ارشاد المفيد 2 : 161 ، تهذيب التهذيب 6 : 325 | 894 ، الفصول المهمة : 213 ـ 214.
(10) ارشاد المفيد 2 : 168 ، وباختلاف يسير في : بصائر الدرجات 77 | 5 ، الكافي 1 :172 | 1 .
(11) ارشاد المفيد 2 : 168 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 206 ، واورد صدر الحديث الصفار في : بصائر الدرجات : 76 | 2 .
(12) نحوه في بصائر الدرجات : 82 | 10
(13) بصائر الدرجات : 319 | 2 .
(14) ارشاد المفيد 2 : 167 ، ونقلة المجلسي في جار الأنوار 46 : 288 | 1 .
(15) بصائر الدرجات : 41 | 4 ، الكافي 1 : 330 | 1 ، روضة الواعظين : 211 ، المناقب لابن شهرآشوب 206:4 .
(16) الكافي 1 : 321 | 1 .
(17) بصائر الدرجات : 123 | 1 ، الكافي 1 : 148 | 1 .
(18) الكميت بن زيد، شاعر مقدم ، عالم بلغات العرب ، خبير بايامها، من شعراء مضر وألسنتها، كان معروفا بتشيعه لأهل البيت عليهم السلام ، لقي ألكثير من الأمويين نتيجة ولائه وموقفه هذا .
(19) من قصيدة يقول في مطلعها:
من لقلبٍ متيمٍ مستهام * غير ما صبوة ولا احلام
طارقاتٍ ولا ادكار غوانَ * واضحاتِ الخدود كالارامَ
بل هواي الذي اجِن واُبدي * لبني هاشمً فروع الانام
للقريبين من ندىً والبعيديـ * ـن من الجور في عرى الاحكام
والمصيبين باب ما احطأ النا * سُ ومرسي قواعد الاسلامَ
والحماة الكفاةِ في الحرب ان * لف ضِرامأ وقودُها بضرامَ
والغيوثِ الذينَ أن امحلَ الَنا * سُ فمأوى حواضن الايتامِ
«انظر: شرح هاشميات للكميت : 11 » .
(20) الكافي 8 : 215 | 262 .