دليل الاعتبار الذي قدّمناه كما دلّ على إمامة آبائه عليهم السلام يدلّ على إمامته وإمامة الاَئمة من ذرّيّته عليهم السلام ، وإذا دلّلنا على بطلان جميع أقوال مخالفي الشيعة القائلين بعصمة الامام والنصّ ، فإنّ الشيعة اختلفت بعد وفاة أبي عبدالله عليه السلام على أقوال :
قائل يقول : أنّ الصادق عليه السلام لم يمت ولا يموت حتّى يظهر فيملاَ الاَرض عدلاً ، وهم : الناووسيّة ، وانّما سمّوا بذلك لاَنّ رئيسهم في مقالتهم رجلٌ يقال له : عبدالله بن الناووس (1) .
وقولهم باطل بقيام الدليل على موته كقيامه على موت آبائه عليهم السلام ، وبانقراض هذه الفرقة بأسرها ، ولو كانت محقّة لما انقرضت .
وقائل يقول : بإمامة عبدالله بن جعفر ، وهم : الفطحيّة (2) .
وقولهم يبطل بأنّهم لم يعوّلوا في ذلك على نصّ عليه من أبيه بالاِمامة ، وإنما عوّلوا في ذلك على أنه أكبر ولده ، وأيضاً فإنّهم رجعوا عن ذلك ، إلاّ شذاذ منهم ، وانقرضت الجماعة الشاذّة أيضاً فلا يوجد منهم أحد ، وإنّما نحكي مذهبهم على سبيل التعجّب ، وما هذه صفته فلا شكّ في فساده .
وقائل يقول : بإمامة إسماعيل بن جعفر على اختلاف بينهم ، فمنهم من أنكر وفاة إسماعيل في حياة أبيه وزعم أنّه بقي ونصّ أبوه عليه ، وهم شذاذ (3) .
ومنهم من قال : إنّ إسماعيل توفي في زمن أبيه ، غير أنه قبل وفاته نص على ابنه محمد فكان الامام بعده ، وهؤلاء هم : القرامطة ، نسبوا الى رجل يقال له : قرمطويه ، ويقال لهم : المباركية ، نسبوا الى المبارك مولى اسماعيل ابن جعفر عليه السلام (4) .
وقول هؤلاء يبطل من وجهين :
أحدهما : انّ مذهبهم يقتضي ببطلان حكاية دعوى التواتر عنهم بالنصّ ، وذلك أنّ من أصلهم المعروف أنّ الدين مستور عن جمهور الخلق ، وإنّما يدعو إليه قوم بأعيانهم لا يبلغون حدّ التواتر ، ولا يؤخذ الحقّ إلاّ عنهم وأنه لا يحل لأحد من هؤلاء أن يوعز إلى الخلق شيئاً منه إلا بعد العهود والايمان المغلظة ، فقد ثبت فساد قول من ادّعى عليهم التواتر ، وإنما يعوّلون على أخبار آحاد وتأويلات في معنى الاَعداد وقياس ذلك بالسماوات السبع والاَرضين والنجوم وغير ذلك من الشهور والاَيّام ممّا يجري مجرى الخرافات ، وهذا لا يعارض ما ذهبنا إليه من إيراد النصوص الظاهرة والتواتر بها من الاَمم الكثيرة المتظاهرة .
والوجه الآخر : أن النص لا يكون من الله تعالى على من يعلم موته قبل وقت إماته ، من حيث يكون ذلك نقصاً للغرض ويكون عبثاً وكذباً ، وإذا لم يبق إسماعيل بعد أبيه بطل قول من ادّعى له النصّ بخلافته .
ولا فصل بين من أنكر وفاته في عصر أبيه وادّعى أنّ ذلك كان تلبيساً ، وبين من أنكر موت أبي عبدالله عليه السلام من الناووسية .
وكذلك من ادّعى أنّه نصّ على ابنه محمد ، لان الاِمامة إذا لم تحصل لاِسماعيل في حياة أبيه ـ لفساد وجود إمامين معاً في زمان واحد ـ فكيف يصحّ نصّه على ابنه؟ النص على الامام لا يوجب الامامة إلا إذا كان من إمام .
وقائل : يقول : بإمامة موسى بن جعفر عليه السلام ، وهم : الشيعة الاِماميّة ، فإذا فسدت الاَقوال المتقدّمة ثبتت إمامة أبي الحسن موسى عليه السلام ، وإلاّ أدّى إلى خروج الحقّ عن جميع أقوال الامّة ، وأيضاً فإنّ الجماعة التي نقلت النصّ من أبيه وجدّه وآبائه عليهم السلام قد بلغوا من الكثرة إلى حدّ يمتنع معه منهم التواطؤ على الكذب ، إذ لا يحصرهم بلد ومكان ، ولا يضمّهم صقع ، ولا يحصيهم إنسان .
وأما ألفاظ النصّ عليه من أبيه عليه السلام ، فمن ذلك :
ما رواه محمد بن يعقوب الكليني ، عن عدّة من أصحابه ، عن أحمد ابن محمد ، عن عليّ بن الحكم ، عن أبي أيّوب الخزّاز ، عن ثبيت ، عن معاذ ابن كثير ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قلت له : أسأل الله الذى رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها .
فقال :« قد فعل الله ذلك ».
قلت : من هو جعلت فداك؟
فأشار إلى العبد الصالح وهو راقد فقال :« هذا الراقد »وهو يؤمئذ غلام (5) .
وبهذا الاِسناد ، عن أحمد بن مهران ، عن محمد بن علي ، عن موسى الصيقل ، عن المفضّل بن عمر قال : كنّا عند أبي عبدالله عليه السلام فدخل أبو إبراهيم ـ وهو غلام ـ فقال :« استوص به ، وضع أمره عند من تثق به من أصحابك » (6) .
وبهذا الاِسناد ، عن محمد بن عليّ ، عن عبدالله القلاّء ، عن الفيض ابن المختار قال : قلت لاَبي عبدالله عليه السلام : خذ بيدي من النار ، من لنا بعدك؟
فدخل علينا أبو إبراهيم ـ وهو يومئذٍ غلام ـ فقال :« هذا صاحبكم فتمسّك به » (7) .
وبهذا الاِسناد ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي نجران ، عن صفوان الجمّال ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قال له منصور بن حازم : بأبي أنت وأمّي ، إنّ الاَنفس يغدى عليها ويراح ، فإذا كان ذلك فمن؟
قال أبو عبدالله عليه السلام :« إذا كان ذلك قهو صاحبكم » وضرب على منكب أبي الحسن الايمن ، وكان يومئذ خماسيّاً ، وعبدالله بن جعفر جالسٌ معنا (
.
وبهذا الاِسناد ، عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن عبدالرحمن بن أبي نجران ، عن عيسى بن عبدالله بن محمد بن عمر بن عليّ ابن أبي طالب عليه السلام ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قلت له : إن كان كونٌ ـ ولا أراني الله ذلك ـ فبمن أئتمّ؟
قال :« فأومأ إلى ابنه موسى ».
قلت : فإن حدث بموسى حديثٌ فبمن أئتمّ؟
قال : « بولده ».
قلت : فإن حدث بولده وترك أخاً كبيراً وابناً صغيراً؟
قال : « بولده ، ثمّ هكذا أبداً ».
قلت : فإن لم أعرفه ولم أعرف موضعه؟
قال : « تقول : اللهم أنّي أتولّى من بقي من حججك من ولد الاِمام الماضي ، فإنّ ذلك يجزئك إن شاء الله » (9) .
وبهذا الاِسناد عن محمد بن يحيى وأحمد بن إدريس ، عن محمد ابن عبدالجبّار ، عن الحسن بن الحسين ، عن أحمد بن الميثميّ ، عن فيض بن المختار ، في حديث طويل في أمر أبي الحسن عليه السلام حتّى قال له أبو عبدالله عليه السلام :« هو صاحبك الذي سألت عنه ، فقم إليه فأقرّ له بحقّه ».
فقمت حتّى قبّلت رأسه ويده ، ودعوت الله له .
قال أبو عبدالله عليه السلام : « أما إنه لم يؤذن لنا في أول ذلك » (10) .
فقلت : جعلت فداك ، فأخبر به أحداً؟
قال :« نعم ، أهلك وولدك ورفقاءك » .
وكان معي أهلي وولدي ، وكان معي من رفقائي يونس بن ظبيان ، فلمّاأخبرته حمد الله تعالى وقال : لا والله حتّى أسمع ذلك منه ، وكانت به عجلة ، فخرج فأتبعته ، فلمّا انتهيت إلى الباب سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول له ـ وكان سبقني إليه ـ : « يا يونس ، الاَمر كما قال لك فيض ».
فقال : سمعت وأطعت .
فقال لي أبو عبدالله عليه السلام :« خذه إليك يا فيض » (11) .
وبهذا الاِسناد ، عن أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبدالجبار ، عن صفوان ، عن ابن مسكان ، عن سليمان بن خالد قال : دعا أبو عبدالله أبا الحسن موسى عليهما السلام ونحن عنده فقال لنا :« عليكم بهذا بعدي ، فهو والله صاحبكم بعدي » (12) .
وبهذا الاِسناد ، عن الحسين بن محمد ، عن معلّى بن محمد ، عن الوشّاء ، عن علي بن الحسن عن صفوان الجمّال قال : سألت أبا عبدالله عن صاحب هذا الاَمر ، فقال : « إنّ صاحب هذا الاَمر لا يلهو ولا يلعب ».
فأقبل أبو الحسن موسى ـ وهو صغير ـ ومع عناق (13)مكّية وهو يقول لها : «اسجدي لربّك » فأخذه أبو عبدالله فضمّه إليه وقال :« بأبي وأمّي من لا يلهو ولا يلعب » (14) .
وبهذا الاِسناد ، عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسن ، عن جعفر بن بشير ، عن فضيل ، عن طاهر قال : كان أبو عبدالله عليه السلام يلوم عبدالله يوماً ويعاتبه ويعظه ويقول :« ما يمنعك أن تكون مثل أخيك ، فوالله إنّي لاَعرف النور في وجهه ».
فقال عبدالله : ولم ، أليس أبي وأبوه واحداً (وأصلي وأصله واحدا) (15) ؟
فقال له أبو عبدالله :« إنّه من نفسي وأنت ابني » (16) .
وبهذا الاِسناد ، عن عليّ بن محمد ، عن سهل بن زياد (17)غيره ، عن محمد بن الوليد ، عن يونس ، عن داود بن زربي ، عن أبي أيّوب الجوزي (18)قال : بعث إلي أبو جعفر المنصور في جوف الليل فأتيته ، فدخلت عليه وهو جالسٌ على كرسيّ وبين يديه شمعة وفي يده كتاب ، قال : فلمّا سلّمت عليه رمى بالكتاب إلي وهو يبكي وقال : هذا كتاب محمد بن سليمان يخبرنا أنّ جعفر بن محمد قد مات ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ـ ثلاثاً ـ وأين مثل جعفر ، ثمّ قال لي : اُكتب إن كان أوصى إلى رجل بعينه فقدّمه واضرب عنقه .
قال : فكتبت وعاد الجواب : أنّه قد أوصى إلى خمسة : أحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان ، وعبدالله ، وموسى ، وحميدة (19) .
وبهذا الاِسناد ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النضر بن سويد نحو
هذا الحديث ، إلاّ أنّه قال : أوصى إلى خمسة : أوّلهم أبو جعفر المنصور ، ثمّ عبدالله ، وموسى ، ومحمد بن جعفر ، ومولى لاَبي عبدالله عليه السلام ، فقال لمنصور : مالي إلى قتل هؤلاء سبيل (20) .
وروى محمد بن سنان ، عن يعقوب السراج قال : دخلت على أبي عبدالله وهو واقف على رأس أبي الحسن وهو في المهد ، فجعل يسارّه طويلاً ، فجلست حتّى فرغ فقمت إليه فقال لي :« ادن إلى مولاك فسلّم عليه » .
فدنوت فسلّمت عليه ، فردّ عليّ بلسان فصيح ، ثمّ قال لي : «إذهب فغير اسم ابنتك التي سمّيتها أمس ، فإنّه اسم يبغضه الله عزّ وجلّ ».
وكانت ولدت لي ابنة فسمّيتها بالحميراء ، فقال أبو عبدالله عليه السلام :« انته إلى أمره ترشد » فغيّرت اسمها (21) .
وروى يعقوب بن جعفر الجعفريّ قال : حدّثني إسحاق بن جعفر الصادق عليه السلام قال : كنت عند أبي يوماً فسأله عليّ بن عمر بن عليّ فقال : جعلت فداك ، إلى من نفزع ويفزع الناس بعدك؟
قال : « إلى صاحب هذين الثوبين الاَصفرين والغديرتين ـ يعني الذؤابتين ـ وهو الطالع عليك من الباب ».
فما لبثنا أن طلعت علينا كفان آخذتان بالبابين حتى انفتحا ، ودخل علينا أبو إبراهيم عليه السلام وهو صبيّ وعليه ثوبان أصفران (22) .
وروى محمد بن الوليد قال : سمعت عليّ بن جعفر يقول : سمعت أبي ـ جعفر بن محمد عليهم السلام ـ يقول لجماعة من خاصّته وأصحابه :« استوصوا بابني خيراً ، فإنّه خيراً ، فإنّه أفضل ولدي ، ومن أخلّف من بعدي ، وهو القائم مقامي ، والحجّة لله تعالى على كافّة خلقه من بعدي » (23) .
وأمثال هذه الاَخبار كثيرة .
(1) اُنظر : فرق الشيعة :67 ، الملل والنحل 1 : 166 ، الفرق بين الفرق : 61 | 57 .
(2) اُنظر : فرق الشيعة :77 ، الملل والنحل 1 : 167 ، الفرق بين الفرق : 62 | 59 .
(3) انظر : فرق الشيعة :67 ، الملل والنحل 1 : 167 ، الفرق بين الفرق : 62 | 60 .
(4) انظر فرق الشيعة : 17 ، الملل والنحل 2 : 168 ، الفرق بين الفرق : 63 .
(5) الكافي 1 : 245 | 2 ، وكذا في : ارشاد المفيد 2 :217 ، روضة الواعظين : 213 ، كشف الغمة 2 : 219 .
(6) الكافي 1 : 246 | 4 ، وكذا في : ارشاد المفيد 2 : 216 ، روضة الواعظين : 213 ، كشف الغمة 2 : 219 .
(7) الكافي 1 : 245 | 1 ، وكذا في : ارشاد المفيد 2 :217 ، روضة الواعظين : 213 ، كشف الغمة 2 : 220 ، الفصول المهمة : 231 .
(
الكافي 1 : 246 | 6 ، وكذا في : ارشاد المفيد 2 : 218 ، كشف الغمة 2 : 220 ، الفصول المهمة : 232 .
(9) الكافي : 1 : 246 | 7 ، وكذا في : كمال الدين : 439 | 43 ، ودون ذيله في : ارشاد المفيد 2 : 218 ، كشف الغمة 2 : 220 .
(10) في الكافي : منك .
(11) الكافي 1 : 246 | 9 ، وكذا في : بصائر الدرجات : 356 | 11 ، رجال الكشي : 643 | 663 ، ونحوه في : الامامة والتبصرة : 204 | 56 .
(12)الكافي 1 :247 | 12 ، وكذا في : الامامة والتبصرة : 205 | ذيل ح57 ، ارشاد المفيد 2 : 219 ، كشف الغمة 2 : 221 .
(13) العَناق : الانثى من ولد المعز . « الصحيح ـ عنق ـ 4 : 1534 » .
(14) الكافي 1 : 248 | 15 ، وكذا في : ارشاد المفيد 2 : 219 ، المناقب لا بن شهر آشوب 4 :317 ، كشف الغمة 2 : 221 .
(15) في الكافي : وامي واُمه واحدة .
(16) الكافي 1 :247 | 10 ، وكذا في : الامامة والتبصرة : 210 | 63 ، ارشاد المفيد 2 : 218 ، كشف الغمة 2 : 220 .
(17) في الكافي : أو .
(18) في الكافي : النحوي .
(19) الكافي 1 : 247 | 3 ، وكذا في : الغيبة للطوسي : 119 .
(20) الكافي 1 : 248 | 14 .
(21)الكافي 1 : 247 | 11 ، وكذا في : ارشاد المفيد 2 : 219 ، كشف الغمة 2 : 221 ، دلائل الامامة : 161 .
(22) الكافي 1 : 246 | 5 ، وكذا في : ارشاد المفيد 2 : 219 ، كشف الغمة 2 : 221 .
(23) ارشاد المفيد 2 : 220 ، كشف الغمة 2 : 221 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 48 : 20 | 30 .
كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى ، للشيخ الطبرسي ، تحقيق مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث