السيّدة زينب الكبرى (عليها السّلام) في الشام
ووصل موكب الحزن والأسى إلى دمشق عاصمة الاُمويِّين ، ومركز قيادتهم ، وبؤرة الحقد والعداء ، ومسكن الأعداء الألدّاء .
وقد اتّخذ يزيد التدابير اللازمة لصرف الأفكار والأنظار عن الواقع والحقيقة ؛ محاولاً بذلك تغطية الاُمور وتمويه الحقائق ، فأمر بتزيين البلدة بأنواع الزينة ، ثمّ الإعلان في الناس عن وصول قافلة أسارى وسبايا ، خرج رجالهم من الدين فقضى عليهم يزيد ، وقتلهم وسبى نساءهم ؛ ليعتبر الناس بهم ، ويعرفوا مصير كلّ من يتمرّد على حكم يزيد .
ومن الواضح أنّ الدعاية والإعلام لها دورها في تمويه الحقائق ، وخاصّة على السذّج والعوام من الناس .
استمع إلى الصحابي سهل بن سعد الساعدي ، قال : خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسّطت الشام ، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار ، كثيرة الأشجار ، قد علّقوا الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون ، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول ، فقلتُ في نفسي : لا نرى لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن !
فرأيت قوماً يتحدّثون ، فقلت : يا قوم ، لكم بالشام عيد لا نعرفه نحن ؟!
قالوا : يا شيخ ، نراك أعرابيّاً غريباً .
فقلت : أنا سهل بن سعد ، قد رأيت محمداً (صلّى الله عليه وآله) .
قالوا : يا سهل ، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً ، والأرض لا تنخسف بأهلها !
قلت : ولِمَ ذاك ؟!
قالوا : هذا رأس الحسين عِترة محمّد يُهدى من أرض العراق !
فقلت : وا عجباه ! يهدى رأس الحسين والناس يفرحون ؟!
ثمّ قلتُ : من أيّ باب يدخل ؟
------------------------------
فأشاروا إلى باب يُقال له ( باب الساعات ) .
فبينا أنا كذلك ، إذ رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً ، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان(1) عليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
فإذا أنا من ورائه رأيت نسوةً على جمال بغير وطاء ، فدنوت من أولاهنَّ ، فقلت : يا جارية ، مَنْ أنتِ ؟
فقالت : أنا سكينة بنت الحسين .
فقلت لها : ألكِ حاجة إليّ ؟ فأنا سهل بن سعد ممّن رأى جدّك وسمعت حديثه .
قالت : يا سهل ، قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا ؛ حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى حرم رسول الله .
قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس ، فقلت له : هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمئة ديناراً ؟
قال : ما هي ؟
قلت : تقدّم الرأس أمام الحرم .
ــــــــــــــــــــ
(1) اللواء : العلم ، وهو دون الراية . كما في ( المعجم الوسيط ) . والسنان : الحديدة التي في رأس العلم ، أو رأس الرمح .
----------------------------------------------
ففعل ذلك ، فدفعت إليه ما وعدته(1) .
* * *
ولمّا أدخلوهنَّ دمشق طافوا بهنَّ في الشوارع المؤدّية إلى قصر الطاغية يزيد ، ومعهنَّ الرؤوس على الرماح ، ثمّ جاؤوا بهنَّ حتّى أوقفوهنَّ على دكّة كبيرة كانت أمام باب المسجد الجامع ، حيث كانوا يوقفون سبايا الكفّار على تلك الدكّة(2) ويعرضونهم للبيع ؛ ليتفرّج عليهم المصلّون لدى دخولهم إلى المسجد وخروجهم منه ، وبذلك يختاروا مَنْ يريدونه للاستخدام ويشتروه .
نعم ، إنّ الذين كانوا يعتبرون أنفسهم مسلمين ، ومن أمّة محمّد رسول الله أوقفوا آل الرسول على تلك الدكّة .
يا للأسف ! يا للمأساة ! يا للفاجعة ! يا للمصيبة !
ــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار ـ للشيخ المجلسي 45 / 127 ب 39 , وكتاب ( تظلم الزهراء ) / 275 .
(2) كتاب ( معالي السبطين ) 2 / 140 الفصل الرابع عشر ، المجلس الرابع . وقد نقلنا مضمون ذلك .
---------------------------------
وجاء شيخ(1) ودنا من نساء الحسين (عليه السّلام) وقال : الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم ، وأراح البلاد من رجالكم ، وأمكن أمير المؤمنين منكم .
فقال له علي بن الحسين (عليه السّلام) : (( يا شيخ ، هل قرأت القرآن ؟! )) .
قال : نعم .
قال : (( فهل عرفت هذه الآية : ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى )(2) ؟ )) .
قال الشيخ : قد قرأت ذلك .
فقال له الإمام : (( نحن القربى يا شيخ . فهل قـرأت ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقّهُ )(3) ؟ )) .
فقال الشيخ : قد قرأت ذلك .
فقال الإمام : (( فنحن القربى يا شيخ . فهل قرأت
ــــــــــــــــــــ
(1) شيخ : أي رجل طاعن في السن .
(2) سورة الشورى / 23 .
(3) سورة الإسراء / 26 .
----------------------------
هذه الآية ( وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْءٍ فَنّ للّهِِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى )(1) ؟ )) .
قال : نعم .
فقال الإمام : (( فنحن القربى يا شيخ . وهل قرأت هذه الآية ( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً )(2) ؟ )) .
قال الشيخ : قد قرأت ذلك .
فقال الإمام : (( نحن أهل البيت الذين خصّنا الله بآية الطهارة يا شيخ )) .
قال الراوي : بقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به ، وقال متعجّباً : تالله ، إنّكم هم ؟!
فقال علي بن الحسين : (( تالله ، إنّا لنحن هم من غير شك ، وحقّ جدّنا رسول الله إنّا لنحن هم )) .
فبكى الشيخ ورمى عمامته ، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال : اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من عدو آل محمّد ، من الجنّ والإنس .
ــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنفال / 41 .
(2) سورة الأحزاب / 33 .
------------------------------
ثمّ قال : هل لي من توبة ؟
فقال له الإمام : (( نعم ، إن تبت تاب الله عليك ، وأنت معنا )) .
فقال الشيخ : أنا تائب .
فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ ، فأمر به فقُتل(1) .
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب ( الملهوف على قتلى الطفوف ) / 211 ، وكتاب ( تظلّم الزهراء ) / 278 .
من كتاب زينب الكبرى (عليها السّلام) من المهد إلى اللحد
بقلم المرحوم السيد محمّد كاظم القزويني