السيّدة زينب الكبرى (عليها السّلام) في طريق الشام
لا نعلم بالضبط كم طالت المدّة التي تمّ فيها قطع المسافة بين الكوفة والشام ، ولكنّنا نعلم أنّها كانت رحلة مليئة بالإزعاج والإرهاق وأنواع الصعوبات ، فقد كان الأفراد المرافقون للعائلة المكرّمة قد تلقّوا الأوامر بأن يعاملوا النساء والأطفال بمنتهى القساوة والفظاظة ؛ فلا يسمحوا لهم بالاستراحة اللازمة من أتعاب الطريق ومشاقه وصعوباته ، بل يواصلوا السير الحثيث للوصول إلى الشام ، وتقديم الرؤوس الطاهرة إلى الطاغية يزيد .
ومن الثابت تاريخياً أنّه كان للسيّدة زينب (عليها السّلام) الدور الكبير في إدارة العائلة ، والمحافظة على حياة الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ، وحماية النساء والأطفال ، والتعامل معهم بكلّ عاطفة وحنان ؛ محاولة منها ملأ بعض ما كانوا يشعرون به من الفراغ العاطفي ،
---------------------------------
والحاجة إلى مَنْ يهوّن عليهم مصائب الأسر ومتاعب السفر .
وروي عن الإمام علي بن الحسين (عليه السّلام) أنّه قال : (( إنّ عمّتي زينب كانت تؤدّي صلواتها ـ الفرائض والنوافل ـ من قيام عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام .
وفي بعض المنازل كانت تصلّي من جلوس ، فسألتها عن سبب ذلك ، فقالت : اُصلّي النوافل من جلوس لشدّة الجوع والضعف ؛ وذلك لأنّي منذ ثلاث ليال اُوزّع ما يعطونني من الطعام على الأطفال ، فالقوم لا يدفعون لكلّ منّا إلاّ رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة ))(1) .
أجل ، وقد كانت الحكمة والمصلحة تقتضي أنّ الإمام زين العابدين (عليه السّلام) يبقى بمعزل عن انتباه الأعداء والجواسيس المرافقين ، ولا يتكلّم بأيّة جملة من شأنها جلب الانتباه إليه ؛ ولذلك فقد جاء في التاريخ أنّ الإمام علي بن الحسين ما كان يكلّم أحداً من القوم طوال الطريق
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب ( زينب الكبرى ) للشيخ جعفر النقدي / 59 .
----------------------------
إلى أن وصلوا إلى باب قصر يزيد بدمشق(1) .
من هنا ، فقد كان الدور الأكبر ملقى على عاتق السيّدة الكفوءة زينب العظيمة (عليها الصلاة والسلام) .
ورغم قلّة المعلومات التي وصلتنا عمّا جرى على السيّدة زينب في طريق الشام من الحوادث ، إلاّ أنّنا نذكر هذه المقطوعات ، والعينات التاريخية التي تعبّر للقارئ المتدبّر الذكيّ عن أمور كثيرة ، وعن الدور العظيم والمسؤوليات الجسيمة التي قامت بها السيّدة زينب الكبرى (عليها السّلام) طوال هذه الرحلة .
ونقرأ في بعض كتب التاريخ أنّ في طريقهم إلى الشام مرّوا على منطقة ( قصر مقاتل )(2) ، وكان ذلك اليوم يوماً شديد الحرّ ، وقد نزفت القربة التي كانت معهم واُريق ماؤها(3) , فاشتدّ بهم العطش ، وأمر عمر بن سعد جماعة من قومه أن يبحثوا عن الماء ، وأمر أن تضرب خيمة ليجلس
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب ( الإرشاد ) للشيخ المفيد / 245 .
(2) قصر مقاتل : قصر كان بين ( عين التّمر ) والشام . منسوب إلى مقاتل بن حسان . وقيل : كان ذلك قرب القطقطانة . كما في ( مراصد الاطّلاع في أسماء الأمكنة والبقاع ) للبغدادي .
(3) نزفت القربة : نفد ماؤها وجفّت .
----------------------------
فيها هو وأصحابه ، لكي تحميهم من حرارة الشمس ، وتركوا عائلة الإمام الحسين (عليه السّلام) وجميع النساء والأطفال تصهرهم الشمس ، وأقبلت السيّدة زينب (عليها السّلام) إلى ظلّ جمل هناك ، وقد أمسكت بالإمام علي بن الحسين (عليهما السّلام) وهو في حالة خطيرة قد أشرف على الموت من شدّة العطش ، وبيدها مروحة تروحه بها من الحرّ ، وهي تقول : يعزّ عليّ أن أراك بهذا الحال يابن أخي !
وذهبت السيّدة سكينة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى ظلّ شجرة كانت هناك ، وعملت لنفسها وسادةً من التراب ونامت عليها ، فما مضت ساعة إلاّ وبدأ القوم يرحلون عن ذلك المكان مع السبايا ، وتركوا سكينة نائمة في مكانها .
فقالت فاطمة الصغرى ـ وكانت عديلة سكينة(1) ـ للحادي(2) : أين اُختي سكينة ؟ والله , لا أركب حتّى تأتي باُختي .
فقال لها : وأين هي ؟
ــــــــــــــــــــ
(1) عديلة : العديل : الذي يعادلك في المحمل . كما في كتاب ( العين ) للخليل بن أحمد .
(2) الحادي : السائق للإبل .
-------------------------------------
قالت : لا أدري أين ذهبت .
فصاح السائق للقافلة بأعلى صوته : يا سكينة ، هلمي واركبي مع النساء .
فلم تستيقظ سكينة من نومتها لشدّة ما بها من التعب والإرهاق ، وبقيت نائمة ، ولمّا أضرّ بها الحرّ والعطش انتبهت من نومتها ، وجعلت تمشي خلف غبار القافلة وهي تصيح : اُخيّة فاطمة ، ألستُ عديلتك في المحمل ، وأنت الآن على الجمل وأنا حافية ؟!
فعطفت عليها اُختها ، وقالت للحادي : والله ، لئن لم تأتني باُختي لأرمين نفسي من هذا الجمل ، واُطالبك بدمي عند جدّي رسول الله يوم القيامة .
فقال لها : مَنْ تكون اُختك ؟
قالت : سكينة التي كان الحسين يحبّها حبّاً شديداً .
فرقّ لها الحادي ، ورجع إلى الوراء حتّى وجد اُختها وأركبها معها(1) .
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب الدمعة الساكبة ـ للبهبهاني (المتوفّى عام 1285 هـ) 5 / 75 ، طبع لبنان . وقد نقلنا الحادثة مع تغيير يسير في بعض العبارات . المحقّق .
--------------------------------------
وقد جاء في التاريخ أيضاً أنّ في ليلة من الليالي ، بينما القوم يسيرون في ظلام الليل ، بدأت السيّدة سكينة بنت الإمام الحسين (عليهما السّلام) بالبكاء ؛ لأنّها تذكّرت أيّام أبيها وما كان لها من العزّ والاحترام ، ثمّ هي الآن أسيرة بعد أن كانت أيّام أبيها عزيزة .
واشتدّ بكاؤها ، فقال لها الحادي : اسكتي يا جارية , فقد آذيتيني ببكائك .
فما سكتت ، بل غلب عليها الحزن والبكاء ، وأنّت أنّة موجعة ، وزفرت زفرةً كادت روحها أن تخرج ، فزجرها الحادي وسبّها ، فجعلت سكينة تقول في بكائها : وا أسفاه عليك يا أبي ! قتلوك ظلماً وعدواناً !
فغضب الحادي من قولها وأخذ بيدها وجذبها ورمى بها على الأرض ، فلمّا سقطت غُشي عليها ، فما أفاقت إلاّ والقافلة قد مشت ، فقامت وجعلت تمشي حافيةً في ظلام الليل ، وهي تقوم مرّةً وتقعد مرّة ، وتستغيث بالله وبأبيها ، وتنادي عمّتها ، وتقول : يا أبتاه ، مضيت عنّي وخلّفتني وحيدةً غريبةً ، فإلى مَنْ ألتجئ ؟ وبمَنْ ألوذ في ظلمة هذه الليلة في هذه البيداء ؟
فركضت ساعة من الليل وهي في غاية الوحشة ، فلم ترَ أثراً من القافلة ، فسقطت مغشيةً عليها
فعند ذلك اقتلع الرمح الذي كان عليه رأس الحسين من يد حامله ، وانشقت الأرض ونزل الرمح إلى نصفه في الأرض ، وثبت كالمسمار الذي يثبت في الحائط . وكلّما حاول حامل الرمح أن يخرجه من الأرض لم يتمكن ، واجتمعت جماعة من القوم وحاولوا إخراج الرمح فلم يستطيعوا ذلك .
فأخبروا بذلك عمر بن سعد ، فقال : اسألوا علي بن الحسين عن سبب ذلك . فلمّا سألوا الإمام (عليه السّلام) قال : (( قولوا لعمّتي زينب تتفقد الأطفال ، فلربّما قد ضاع منهم طفل )) .
فلمّا قيل لزينب الكبرى ذلك ، جعلت تتفقد الأطفال ، وتنادي كلّ واحد منهم باسمه ، فلمّا نادت : بنيّه سكينة لم تجبها ، فرمت السيّدة زينب (عليها السّلام) بنفسها من على ظهر الناقة ، وجعلت تنادي : وا غربتاه ! وا ضيعتاه ! وا حسيناه !
بنيّه سكينة : في أيّ أرض طرحوك ! أم في أيّ واد ضيّعوك ! ورجعت إلى وراء القافلة وهي تعدو في البراري حافية ، وأشواك الأرض تجرح رجليها ، وتصرخ وتنادي ،
---------------------------------------------
وإذا بسواد قد ظهر فمشت نحوه وإذا هي سكينة ، فرجعتا معاً نحو القافلة(1) .
وروي عن الإمام محمّد الباقر (عليه السّلام) أنّه سأل أباه علي بن الحسين (عليهما السّلام) عمّا جرى له في طريق الشام ؟
فقال الإمام علي بن الحسين (ع) : (( حُمِلْتُ على بعير هزيل بغير وطاء ، ورأس الحسين (عليه السّلام) على علم ، ونسوتنا خلفي على بغال ، والحرس خلفنا وحولنا بالرماح ؛ إن دمعت من أحدنا عين قرع رأسه بالرمح ، حتّى دخلنا دمشق صاح صائح : يا أهل الشام ، هؤلاء سبايا أهل البيت ))(2) .
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب ( معالي السبطين ) 2 / الفصل الثالث عشر ، المجس الثالث عشر ، وهو ينقل ذلك عن كتاب ( مصباح الحرمين ) .
(2) كتاب ( الإقبال ) للسيد ابن طاووس .
من كتاب زينب الكبرى (عليها السّلام) من المهد إلى اللحد
بقلم المرحوم السيد محمّد كاظم القزويني