وهنا نعرض سؤالاً مشهوراً وهو أن هناك أناساً صالحين مشهود لهم بالوثاقة،
كانوا أحياءً عند واقعة الطف، ومع ذلك لم يحضروها، ومقتضى القاعدة أن
يكونوا مشمولين لقوله ع : [من سمع واعيتنا فلم ينصرنا أكبه الله على منخريه
في النار] مع أنهم لا يحتمل فيهم ذلك لمدى إيمانهم وإخلاصهم، ويسمي الفكر
التقليدي بهذا الصدد [عبد الله بن جعفر] زوج زينب بنت علي ع على المشهور
والمنقول، و[محمد بن الحنفية] و [ميثم التمار] و [المختار الثقفي]. فكلهم
كانوا أحياءً ولم يحضروا واقعة الطف مع العلم أنهم متدينون ومتشرعون
ومتفقهون، فلماذا لم ينصروا الحسين ع في واقعة الطف؟
ويجيب الفكر
التقليدي بأنهم جميعاً كانوا معذورين عن الحضور. فأما عبد الله بن جعفر
فكان أعمى، والأعمى يسقط عنه الجهاد. وأما محمد بن الحنفية فكان ضعيف
الساعدين لا يستطيع أن يضرب بالسيف، وقد نقل أنه كان قوياً فأصابته عين
فضعف عن القتال. وأما ميثم التمار والمختار فكانا مسجونين بسجن عبيد الله
بن زياد في الكوفة حيث قام بحملة ضد مسلم بن عقيل ع وأصحابه.
أقول: أما
أصل العذر فهو محرز، ولا ينبغي المناقشة فيه، كما أن عدم مشاركتهم في
واقعة الطف بالرغم من وجودهم في ذلك العصر فهو من القطعيات، ولا يحتمل أنهم
شاركوا ولم يصل الخبر. لأن خبرهم وصل بوجودهم بعد واقعة الطف كميثم الذي
صلب في وقت متأخر من ذلك الحين، والمختار الذي أخذ بثأر الحسين ع .
ولكن مع ذلك يمكن المناقشة بالمبرر السابق التقليدي بعد الإلتفات إلى أن
هؤلاء الأربعة على قسمين: اثنين منهم بالمدينة: وهما عبد الله بن جعفر
ومحمد بن الحنفية، واثنين بالكوفة: وهما المختار وميثم. فلكل قسم حديثه
الخاص به.
أما الإثنان اللذان في المدينة فلا يحتمل أنهما لم يعلما
بحركة الحسين ع بل كانا معا ممن تحدث مع الحسين ع في عدم الخروج. إلا أن
وجه العذر في عدم خروجهم معه أحد أمور:
الأول: العذر المذكور سابقاً، وهو الذي عرضه الفكر التقليدي.
الثاني: إن الحسين ع كلفهما بالبقاء بالمدينة بالوكالة عنه لقضاء حاجات
المؤمنين ريثما يرجع، أو يرجع الإمام الذي بعده. وهذا وإن لم يثبت بدليل
معتبر الا أنه راجح، لأنهما كانا أكثر الموجودين من بني هاشم وجاهة وعمراً
وتفقهاً.
ثالثا: إنهما وإن علما بخروج الحسين ع إلا أنهما لم يكونا
يتوقعان ما حصل من نتائج، وهذا أمر مضنون وإن لم يكن أكيداً. ولا أقل أنهما
يسليان أنفسهما باحتمال نجاح الحسين ع في حركته دنيوياً، وعدم مقتله،
وأنهم يحملون عزمه الأكيد على الذهاب على نحو من التخطيط للإنتصار على
الصعيد المادي الدنيوي.
مضافاً إلى نقطة أخرى، وهي أنه ليس من المفروض أن يأخذ الحسين ع معه جميع المؤمنين على الإطلاق لمجرد حصول حاجته إليهم بعد ذلك.
وأما حين يقوى احتمال مقتله بعد حادثة الحر الرياحي، فلم يصل الخبر إلى
المدينة، وكانوا جاهلين ومعذورين عن ذلك. وحتى لو فرضنا وصولهم فلم يكونوا
يدركون الذهاب إليه مع صعوبة وسائط النقل، كما لم يكونوا يعلمون منطقة
تواجده لكي يصلوا إليه.
إلا إن هذا الوجه قابل للمناقشة من أكثر من نقطة واحدة:
1- إن الوجه الذي قلناه وهو أنهما لم يكونا متوقعين النتائج التي حصلت ليس بصحيح. لأنه كان يصرح بحصول مقتله ع .
2- إن هذا الذي زعمناه وهو إنه ليس المفروض خروج كل المؤمنين معه أيضاً
ليس بصحيح، فإن المفروض خروج جميع المؤمنين معه. ولذا نجده يقول: [خط الموت
على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة] إلى أن قال: [ألا من كان باذلاً
فينا مهجته موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا. فإني راحل مصبحاً إن
شاء الله . وقوله: [فليرحل معنا] أمر إلزامي عام لكل المؤمنين.
والمفروض بهم الطاعة، كما أن المفروض بكل واحد منهم أن يكون باذلاً مهجته
موطناً على لقاء الله نفسه، إلا أن أمثال هؤلاء في الواقع قليلون. ومن هنا
يجب على هذين الرجلين وغيرهما أن يخرجوا معه، فيسقط هذا الوجه للعذر ويبقى
الوجهان السابقان.
وأما المختار الثقفي فالظاهر أن العذر فيه صحيح،
لمشاركته فعلاً مع مسلم بن عقيل ع في حركته، ونحن نسمع من التأريخ أن مسلم
بن عقيل ع نزل أولاً في دار المختار الثقفي، ثم أنتقل إلى دار هاني بن
عروة بعد مجيء عبيد الله بن زياد باعتباره أقوى عشيرة وأنصاراً وسلاحاً.
فكان قبل ذلك في دار المختار وهو الذي يتولى شؤون مسلم بن عقيل ع .
وعلى أي حال، فمن الطبيعي أن يسجن فيمن سجن بعد مقتل مسلم ع ، ولم تكتب
الشهادة للمختار كما كتبت لهاني ع . لكونه أقل مشاركة منه. في حين أن لهاني
اليد الطولى في الدفاع عنه وإخفائه في داره.
وأما ميثم التمار
فمشاركته لحركة مسلم ع احتمالها ضعيف، باعتبار عدم وصول اسمه خلالها، مع
وصول عدد معتد به من الأسماء من كلا العسكرين. ومن ثم فالنتيجة المذكورة له
تكون ضعيفة أيضاً، وهو كونه مسجوناً في سجن بن زياد بعد حركة مسلم ع . فما
هو وجه سجنه إن لم يكن مشاركاً؟ ومن ثم يكون التمسك بهذا العذر له ضعيفاً.
إلا أن هذا الرجل ممن يتعين حمله على الصحة والتصرف المشروع، لما
نعرف من إخلاصه وارتفاع شأنه، وخاصة في المنقول من تصرفه خلال شهادته، فإنه
كان يروي فضائل أمير المؤمنين ع ويداه ورجلاه مقطوعتان إلى أن قطعوا
لسانه . ومن ثم تكون لعذره أطروحات أخرى:
الأطروحة الأولى: إن المشهور
وإن كان هو شهادة ميثم بعد واقعة الطف، إلا أن الخبر في ذلك ضعيف. فلعله
قتل قبل ذلك كما قتل جماعة من المؤمنين كحجر بن عدي وغيرهم. ومعه لم يكن
حياً في واقعة الطف ليشارك فيها.
الأطروحة الثانية: إنه بالرغم من
اشتهار حركة الحسين ع في المنطقة بين مكة والمدينة والكوفة والبصرة، إلا أن
ميثم ع كان في الأعراب في منطقة نائية لا تصلها الأخبار، وهي أطروحة
محتملة سمعتها من بعض الفضلاء السابقين. ولعل أفضل ما فيها أنها الوجه
الرئيسي لإمكان حمله على الصحة، بعد سقوط الوجوه الأخرى. وعلى أي حال فهي
تكفي للإحتمال المبطل للإستدلال ضده، وإن لم نكن نستطيع أن نثبتها
تأريخياً.
الأطروحة الثالثة: إن ميثم ع كان ممن يعلم علم المنايا
والبلايا، ولا أقل أنه كان يعلم السبب في مقتل نفسه، ويرويه عن سيده وإمامه
أمير المؤمنين ع، وكان يسقي الشجرة التي أشار إليها بأنه يصلب عليها، وكان
يقول لها: [خلقتِ لي وخلقتُ لك] وعندئذ فهو يعلم أنه في قضاء الله وقدره
الحتمي أن يكون موته هنا في محله الموعود، ولا يحتمل أن يكون في كربلاء ولا
في أي مكان آخر، وكأنه فهم أيضاً عن أمير المؤمنين ع أن المسألة غير قابلة
للبداء، أو أنه لم يكن ملتفتاً إلى البداء.
فكان طيب القلب من هذه
الناحية، معتمداً على بشارة أمير المؤمنين ع له بالشهادة، ولا تفرق الشهادة
في نظره بين هذه أو هذه. وخاصة إذا التفتنا إلى احتمال أنه لم يسمع قول
الحسين ع : [من سمع واعيتنا ولم ينصرنا أكبه الله على منخريه في النار]،
علماً أن هذه الكلمة قالها الحسين ع في كربلاء أمام الجيش المعادي، فكيف
تصل إلى مسامع ميثم وأضرابه في الكوفة، إلا بعد أن يكون الحسين ع قد قتل .
الأطروحة الرابعة: إن عاطفته تجعله منشداً إلى ولاية أمير المؤمنين ع خاصة
دون غيره من الناس، حتى أولاده. وربما يرى الفرق بينهم كبيراً فلا يرى لهم
أهمية بازاء عظمة الولاية العلوية، ولا يريد لها بديلاً حتى لو كان هو
الحسين ع .
مضافاً إلى أنه إن حصل له أي ذنب في التخلف عن الحسين ع ،
فقد غسله في شهادته. مضافا إلى ما يروى: [حب علي شجرة من تمسك بغصن من
أغصانها نجى]. وقوله: [حب علي حسنة لا تضر معها سيئة]وقد كان ميثم أوضح
مصاديق المحبين له ع .
الأطروحة الخامسة: إنه يعرف تكليفه الخاص بعدم
الخروج لنصرة الحسين ع بالإلهام، كما قلنا: بأن الخاصة من المؤمنين يأتيهم
الإلهام من الله سبحانه. وهو تكليف خاص به وعذر خاص به شخصياً، ولعل
المصلحة فيه نفوذ نبوءة أمير المؤمنين ع في شهادته، والإحتمال قاطع
للإستدلال .
محمد الصدر قدس
دروس تكملة كتاب اضواء على ثورة الحسين ع