•
الآيات 106-109
يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ
أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ
فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ
الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ
ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا
إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ ﴿106﴾ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا
اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ
اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ
لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا
إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿107﴾ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ
بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ
بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿108﴾ يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ
فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ
عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴿109﴾
بيان:
الآيات الثلاث الأول في الشهادة، والأخيرة لا تخلو عن اتصال ما بها بحسب المعنى.
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم﴾ إلى آخر الآيتين، محصل
مضمون الآيتين أن أحدهم إذا كان على سفر فأراد أن يوصي فعليه أن يشهد حين
الوصية شاهدين عدلين من المسلمين وإن لم يجد فشاهدين آخرين من غير المسلمين
من أهل الكتاب فإن ارتاب أولياء الميت في أمر الوصية يحبس الشاهدان بعد
الصلاة فيقسمان بالله على صدقهما فيما يشهدان عليه وترفع بذلك الخصومة، فإن
اطلعوا على أن الشاهدين كذبا في شهادتهما أو خانا في الأمر فيوقف شاهدان
آخران مقام الشاهدين الأولين فيشهدان على خلافهما ويقسمان بالله على ذلك.
فهذا ما تفيده الآيتان بظاهرهما فقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ خطاب
للمؤمنين والحكم مختص بهم ﴿شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية
اثنان ذوا عدل منكم﴾ أي شهادة بينكم ذوي عدل منكم ففي جانب الخبر مضاف
مقدر، أو شهداء بينكم ذوا عدل منكم، والمراد أن عدد الشهود اثنان فالمصدر -
الشهادة - بمعنى اسم الفاعل كقولهم: رجل عدل ورجلان عدل.
وحضور الموت كناية عن حضور داعي الوصية فإن الناس بحسب الطبع لا يشتغلون
بأمثال هذه الأمور من غير حضور أمر يوجب الظن بالموت، وهو عادة المرض
الشديد الذي يشرف الإنسان به على الموت.
وقوله: ﴿حين الوصية﴾ ظرف متعلق بالشهادة أي الشهادة حين الوصية، والمراد
بالعدل وهو مصدر - الاستقامة في الأمر، وقرينة المقام تعطي أن المراد به
الاستقامة في أمر الدين، ويتعين بذلك أن المراد بقوله: ﴿منكم﴾ وقوله: ﴿من
غيركم﴾ المسلمون وغير المسلمين، دون القرابة والعشيرة فإن الله سبحانه قابل
بين قوله: ﴿اثنان﴾ وقوله: ﴿آخران﴾، ثم وصف الأول بقوله ﴿ذوا عدل﴾ وقوله:
﴿منكم﴾ ولم يصف الثاني إلا بقوله: ﴿من غيركم﴾ دون أن يصفه بالعدالة،
والاتصاف بالاستقامة في الدين وعدمه إنما يختلف في المسلم وغير المسلم، ولا
موجب لاعتبار العدالة في الشهود إذا كانوا قرابة أو من عشيرة المشهود له
وإلغائها إذا كان الشاهد أجنبيا.
وعلى هذا فقوله: ﴿أو آخران من غيركم﴾ ترديد على سبيل الترتيب أي إن كان
هناك نفر من المسلمين يستشهد اثنان منهم، وإن لم يكن إلا من غير المسلمين
يستشهد باثنين منهم، كل ذلك بالاستفادة من قرينة المقام.
وهذه القرينة بعينها هي التي توجب أن يكون قوله: ﴿إن أنتم ضربتم في الأرض
فأصابتكم مصيبة الموت﴾ قيدا متعلقا بقوله: ﴿أو آخران من غيركم﴾ فإن المسلم
لما كان بالطبع إنما يعيش في مجتمع المسلمين لا تمس الحاجة في الحضر عادة
إلى الاستشهاد بشهيدين من غير المسلمين بخلاف حالة السفر والضرب في الأرض
فإنها مظنة وقوع أمثال هذه الوقائع والاضطرار ومسيس الحاجة إلى الانتفاع من
غير المسلم بشهادة أو غيرها.
وقرينة المقام أعني المناسبة بين الحكم والموضوع بالذوق المتخذ من كلامه
تعالى تدل على أن المراد من غير المسلمين أهل الكتاب خاصة لأن كلامه تعالى
لا يشرف المشركين بكرامة.
وقوله تعالى: ﴿تحبسونهما من بعد الصلاة﴾ أي توقفونهما، والحبس الإيقاف،
﴿فيقسمان بالله﴾ أي الشاهدان ﴿إن ارتبتم﴾ أي شككتم فيما يظهره الوصي من أمر
الوصية أو المال الذي تعلقت به الوصية أو في كيفية الوصية، والمقسم عليه
هو قوله: ﴿لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى﴾ أي لا نشتري بالشهادة للوصي
فيما يدعيه ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى، واشتراء الثمن القليل بالشهادة أن
ينحرف الشاهد في شهادته عن الحق لغاية دنيوية من مال أو جاه أو عاطفة قرابة
فيبذل شهادته بإزاء ثمن دنيوي، وهو الثمن القليل.
وذكر بعضهم أن الضمير في قوله: ﴿به﴾ إلى اليمين أي لا نشتري بيميننا ثمنا،
ولازمه إجراء اليمين مرتين والآية بمعزل عن الدلالة على ذلك.
وقوله: ﴿ولا نكتم شهادة الله﴾ أي بالشهادة على خلاف الواقع ﴿إنا إذا لمن
الآثمين﴾ الحاملين للإثم، والجملة معطوفة على قوله: ﴿لا نشتري به ثمنا﴾
كعطف التفسير.
وإضافة الشهادة إلى الله في قوله: ﴿شهادة الله﴾ إما لأن الواقع يشهده الله
سبحانه كما شهده الشاهدان فهو شهادته سبحانه كما هو شهادتهما والله أحق
بالملك فهو شهادته تعالى حقا وبالأصالة وشهادتهما تبعا، وقد قال تعالى:
﴿وكفى بالله شهيدا﴾: النساء: 79 وقال تعالى: ﴿ولا يحيطون بشيء من علمه إلا
بما شاء﴾: البقرة: 255.
وإما لأن الشهادة حق مجعول لله على عباده يجب عليهم أن يقيموها على وجهها
من غير تحريف أو كتمان، وهذا كما يقال: دين الله، فينسب الدين إليه تعالى
مع أن العباد هم المتلبسون به، قال تعالى: ﴿وأقيموا الشهادة لله﴾: الطلاق: 3
وقال: ﴿ولا تكتموا الشهادة﴾: البقرة: 238.
وقوله: ﴿فإن عثر على أنهما استحقا إثما﴾ العثور على الشيء الحصول عليه
ووجدانه، وهذه الآية بيان وتفصيل للحكم في صورة ظهور خيانة الشاهدين
وكذبهما في شهادتهما.
والمراد باستحقاق الإثم الإجرام والجناية يقال: استحق الرجل أي أذنب،
واستحق فلان إثما على فلان كناية عن إجرامه وجنايته عليه ولذا عدي بعلى في
قوله تعالى ذيلا: ﴿استحق عليهم الأوليان﴾ أي أجرما وجنيا عليهم بالكذب
والخيانة، وأصل معنى قولنا: استحق الرجل طلب أن يحق ويثبت فيه الإثم أو
العقوبة فاستعماله الكنائي من قبيل إطلاق الطلب وإرادة المطلوب ووضع الطريق
موضع الغاية، وإنما ذكر الإثم في قوله: ﴿استحقا إثما﴾ بالبناء على ما تقدم
في قوله: ﴿إنا إذا لمن الآثمين﴾.
وقوله تعالى: ﴿فآخران يقومان مقامهما﴾ أي إن عثر على أن الشاهدين استحقا
بالكذب والخيانة فشاهدان آخران يقومان مقامهما في اليمين على شهادتهما
عليهما بالكذب والخيانة.
وقوله: ﴿من الذين استحق عليهم الأوليان﴾ في موضع الحال أي حال كون هذين
الجديدين من الذين استحق عليهم أي أجرم وجنى عليهم الشاهدان الأولان اللذين
هما الأوليان الأقربان بالميت من جهة الوصية كما ذكره الرازي في تفسيره،
والمراد بالذين استحق عليهم الأوليان أولياء الميت، وحاصل المعنى أنه إن
عثر على أن الشاهدين أجرما على أولياء الميت بالخيانة والكذب فيقوم شاهدان
آخران من أولياء الميت الذين أجرم عليهم الشاهدان الأولان الأوليان بالموت
قبل ظهور استحقاقهما الإثم.
هذا على قراءة ﴿استحق﴾ بالبناء للفاعل وهو قراءة عاصم على رواية حفص، وأما
على قراءة الجمهور ﴿استحق﴾ بضم التاء وكسر الحاء بالبناء للمفعول فظاهر
السياق أن يكون الأوليان مبتدأ خبره قوله: ﴿فآخران يقومان﴾ ﴿إلخ﴾، قدم عليه
لتعلق العناية به، والمعنى إن عثر على أنهما استحقا إثما فالأوليان بالميت
هما آخران يقومان مقامهما من أوليائه المجرم عليهم.
وفي قراءة عاصم من طريق أبي بكر وحمزة وخلف ويعقوب ﴿الأولين﴾ جمع الأول
مقابل الآخر، وهو بظاهره بمعنى الأولياء والمقدمين، وصف أو بدل من قوله:
﴿الذين﴾.
وقد ذكر المفسرون في تركيب أجزاء الآية وجوها كثيرة جدا لو ضرب بعضها في
بعض للحصول على معنى تمام الآية ارتقت إلى مئين من الصور، وقد ذكر الزجاج
فيما نقل عنه: أنها أشكل آية في كتاب الله من حيث التركيب.
والذي أوردناه من المعنى هو الظاهر من سياق اللفظ من غير تعسف في الفهم،
وأضربنا عن استقصاء ما ذكروه من المحتملات لأن تكثيرها لا يزيد اللفظ إلا
إبهاما، ولا الباحث إلا حيرة.
وقد فرع على قوله: ﴿فآخران يقومان، إلخ﴾ تفريع الغاية على ذي الغاية قوله:
﴿فيقسمان بالله﴾ أي الشاهدان الآخران من أولياء الميت ﴿لشهادتنا﴾ بما يتضمن
كذبهما وخيانتهما ﴿أحق من شهادتهما﴾ أي من شهادة الشاهدين الأولين بما
يدعيان من أمر الوصية ﴿وما اعتدينا﴾ عليهما بالشهادة على خلاف ما شهدا عليه
﴿إنا إذا لمن الظالمين﴾.
قوله تعالى: ﴿ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان
بعد أيمانهم﴾ الآية في مقام بيان حكمة التشريع وهي أن هذا الحكم على
الترتيب الذي قرره الله تعالى أحوط طريق إلى حيازة الواقع في المقام، وأقرب
من أن لا يجور الشاهدان في شهادتهما ويخافا من أن يتغير الأمر عليهما برد
شهادتهما بعد قبولها.
فإن الإنسان ذو هوى يدعوه إلى التمتع بكل ما يسعه التمتع به والقبض على كل
ما يتهوسه إذا لم يكن هناك مانع يصرفه عنه سواء كان ذلك منه عن حق يستحقه
أو جورا، عدلا أو ظلما وتعديا على غيره بإبطال حقه والغلبة عليه، وإنما
ينصرف الإنسان عن هذا التعدي والتجاوز إما لمانع يمنعه من خارج بسياسة أو
عقوبة أو فضيحة، وإما لرادع يردعه من نفسه وأقوى رادع نفساني هو الاعتقاد
بالله الذي إليه مرجع العباد وحساب الأعمال والقضاء الفصل والجزاء
المستوفى.
وإذا كان الواقع من أمر الوصية بحسب فرض المقام مجهولا لا طريق إلى كشفه
إلا شهادة من أشهدهما الميت من الشاهدين فأقوى ما يقرب شهادتهما من الصدق
أن يؤخذ في ذلك بأيمانهما بالله تعالى وهو اليمين، وأن يرد اليمين إلى
الورثة الأولياء مع يمينهما على تقدير انكشاف كذبهما وخيانتهما عند الورثة،
فهذان أعني يمينهما أولا ثم رد اليمين إلى الورثة أقرب وسيلة إلى صدقهما
في شهادتهما وخوفهما فضيحة رد اليمين، والرادعان أقوى ما يردعهما من
الانحراف.
ثم عقب تعالى القول بالموعظة والإنذار فقال: ﴿واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾ والمعنى واضح.
قوله تعالى: ﴿يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك
أنت علام الغيوب﴾ الآية لا تأبى الاتصال بما قبلها فإن ظاهر قوله تعالى في
ذيل الآية السابقة: ﴿واتقوا الله واسمعوا﴾، إلخ وإن كان مطلقا لكنه بحسب
الانطباق على المورد نهي عن الانحراف والجور في الشهادة والاستهانة بأمر
اليمين بالله فناسب أن يذكر في المقام بما يجري بينه سبحانه وبين رسله يوم
القيامة وهم شهداء على أممهم وأفضل الشهداء، حيث يسألهم الله سبحانه عن
الذي أجابهم به أممهم وهم أعلم الناس بأعمال أممهم والشاهدون من عند الله
عليهم فيجيبونه بقولهم: ﴿لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب﴾.
فإذا كان الأمر على هذه الوتيرة، وكان الله سبحانه هو العالم بكل شيء حق
العلم فجدير بالشهود أن يخافوا مقام ربهم: ولا ينحرفوا عن الحق الذي رزقهم
الله العلم به، ولا يكتموا شهادة الله فيكونوا من الآثمين والظالمين
والفاسقين.
فقوله تعالى: ﴿يوم يجمع، إلخ﴾ ظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: ﴿واتقوا
الله، إلخ﴾ وذكر جمع الرسل دون أن يقال: ﴿يوم يقول الله للرسل﴾ لمكان
مناسبة مع جمع الشهداء للشهادة كما يشعر به قوله: ﴿تحبسونهما من بعد الصلاة
فيقسمان بالله﴾.
وأما نفيهم العلم يومئذ عن أنفسهم بقولهم: ﴿لا علم لنا إنك أنت علام
الغيوب﴾ فإثباتهم جميع علوم الغيوب لله سبحانه على وجه الحصر يدل على أن
المنفي ليس أصل العلم فإن ظاهر قولهم: ﴿إنك أنت علام الغيوب﴾ يدل على أنه
لتعليل النفي، ومن المعلوم أن انحصار جميع علوم الغيب في الله سبحانه لا
يقتضي رفع كل علم عن غيره وخاصة إذا كان علما بالشهادة، والمسئول عنه أعني
كيفية إجابة الناس لرسلهم من قبيل الشهادة دون الغيب.
فقولهم: ﴿لا علم لنا﴾ ليس نفيا لمطلق العلم بل لحق العلم الذي لا يخلو عن
التعلق بالغيب فإن من المعلوم أن العلم إنما يكشف لعالمه من الواقع على قدر
ما يتعلق بأمر من حيث أسبابه ومتعلقاته، والواقع في العين مرتبط بجميع
أجزاء الخارج مما يتقدم على الأمر الواقع في الخارج وما يحيط به مما يصاحبه
زمانا فالعلم بأمر من الأمور الخارجية بحقيقة معنى العلم لا يحصل إلا
بالإحاطة بجميع أجزاء الوجود ثم بصانعه المتعالي من أن يحيط به شيء، وهذا
أمر وراء الطاقة الإنسانية.
فلم يرزق الإنسان من العلم في هذا الكون الذي يبهته التفكير في سعة ساحته،
وتهوله النظرة في عظمة أجرامه ومجراته، ويطير لبه الغور في متون ذراته،
ويأخذه الدوار إذا أراد الجري بين هاتين الغايتين إلا اليسير من العلم على
قدر ما يحتاج إليه في مسير حياته كالشمعة الصغيرة يحملها طارق الليل المظلم
لا ينتفع من نورها إلا أن يميز ما يضع عليه قدمه من الأرض.
فما يتعلق به علم الإنسان ناشب بوجوده متعلق بواقعيته بأطراف ثم بأطراف
أطراف وهكذا كل ذلك في غيب من إدراك الإنسان فلا يتعلق العلم بحقيقة معنى
الكلمة بشيء إلا إذا كان متعلقا بجميع الغيوب في الوجود، ولا يسع ذلك
لمخلوق محدود مقدر إنسانا أو غيره إلا لله الواحد القهار الذي عنده مفاتح
الغيب لا يعلمها إلا هو، قال الله تعالى: ﴿والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾:
البقرة: 261 فدل على أن من طبع الإنسان الجهل فلا يرزق من العلم إلا محدودا
مقدرا كما قال تعالى: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر
معلوم﴾: الحجر: 21 وهو قوله (عليه السلام): حيث سئل عن علة احتجاب الله عن
خلقه فقال: لأنه بناهم بنية على الجهل، وقال تعالى: ﴿ولا يحيطون بشيء من
علمه إلا بما شاء﴾: البقرة: 255 فدل على أن العلم كله لله، وإنما يحيط منه
الإنسان بما شاء الله، وقال تعالى: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾:
الإسراء: 85 فدل على أن هناك علما كثيرا لم يؤت الإنسان إلا قليلا منه.
فإذن حقيقة الأمر أن العلم حق العلم لا يوجد عند غير الله سبحانه، وإذ كان يوم القيامة يوما يظهر فيه الأشياء بحقائقها على ما تفيده
الآيات الواصفة لأمره فلا مجال فيه إلا للكلام الحق كما قال تعالى: ﴿لا يتكلمون
إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، ذلك اليوم الحق﴾: النبأ - 39 كان من
الجواب الحق إذا ما سئل الرسل فقيل لهم: ﴿ما ذا أجبتم﴾ أن يجيبوا بنفي
العلم عن أنفسهم لكونه من الغيب، ويثبتوه لربهم سبحانه بقولهم: ﴿لا علم لنا
إنك أنت علام الغيوب﴾.
وهذا الجواب منهم (عليهم السلام) نحو خضوع لحضرة العظمة والكبرياء واعتراف
بحاجتهم الذاتية وبطلانهم الحقيقي قبال مولاهم الحق رعاية لأدب الحضور
وإظهارا لحقيقة الأمر، وليس جوابا نهائيا لا جواب بعده البتة: أما أولا
فلأن الله سبحانه جعلهم شهداء على أممهم كما ذكره في قوله: ﴿فكيف إذا جئنا
من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا﴾: النساء: 41 وقال: ﴿ووضع الكتاب
وجيء بالنبيين والشهداء﴾: الزمر: 69 ولا معنى لجعلهم شهداء إلا ليشهدوا
على أممهم يوم القيامة بما هو حق الشهادة يومئذ، فلا محالة هم سيشهدون
يومئذ كما قدر الله ذلك فقولهم يومئذ: ﴿لا علم لنا﴾ جري على الأدب العبودي
قبال الملك الحق الذي له الأمر والملك يومئذ، وبيان لحقيقة الحال وهو أنه
هو يملك العلم لذاته ولا يملك غيره إلا ما ملكه، ولا ضير أن يجيبوا بعد هذا
الجواب بما لهم من العلم الموهوب المتعلق بأحوال أممهم، وهذا مما يؤيد ما
قدمناه في البحث عن قوله تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على
الناس﴾ الآية: البقرة: 134 في الجزء الأول من هذا الكتاب: أن هذا العلم
والشهادة ليسا من نوع العلم والشهادة المعروفين عندنا وأنهما من العلم
المخصوص بالله الموهوب لطائفة من عباده المكرمين.
وأما ثانيا فلأن الله سبحانه أثبت العلم لطائفة من مقربي عباده يوم القيامة
على ما له من الشأن، قال تعالى: ﴿وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد
لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث﴾: الروم: 56 وقال تعالى: ﴿وعلى الأعراف
رجال يعرفون كلا بسيماهم﴾: الأعراف: 46 وقال تعالى: ﴿ولا يملك الذين يدعون
من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون﴾ الزخرف: 87 وعيسى بن مريم
(عليهما السلام) ممن تعمه الآية وهو رسول فهو ممن يشهد بالحق وهم يعلمون،
وقال تعالى: ﴿وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا﴾: الفرقان: 31 والمراد بالرسول رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) والذي تحكيه الآية من قوله هو بعينه جواب لما تشتمل عليه هذه الآية
من السؤال أعني قوله تعالى: ﴿فيقول ما ذا أجبتم﴾ فظهر أن قول الرسل (عليهم
السلام): ﴿لا علم لنا﴾ ليس جوابا نهائيا كما تقدم.
وأما ثالثا فلأن
القرآن يذكر السؤال عن المرسلين والمرسل إليهم جميعا كما قال تعالى: ﴿فلنسألن
الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين﴾: الأعراف: 6﴾ ثم ذكر عن الأمم المرسل
إليهم جوابات كثيرة عن سؤالات كثيرة، والجواب يستلزم العلم كما أن السؤال
يقرره، وقال أيضا فيهم: ﴿لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك
اليوم حديد﴾: ق: 22، وقال أيضا: ﴿ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند
ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون﴾: السجدة: 12 إلى
غير ذلك من
الآيات الكثيرة، وإذا كانت الأمم - وخاصة المجرمون منهم - على علم في هذا اليوم
فكيف يتصور أن يعدمه الرسل الكرام (عليهم السلام) فالمصير إلى ما قدمناه.
كلام في معنى الشهادة:
الاجتماع المدني الدائر بيننا والتفاعل الواقع في عامة جهات الحياة الأرضية
بين قوانا الفعالة يسوقنا - ولا محيص - إلى أنواع الاختلافات والخصومات
فالذي يختص بالتمتع به أحدنا ربما أحب الآخر أن يشاركه فيه أو يختص به هو
مكانه فتاقت إليه نفسه ونازعته في ذلك فأدى إلى تنبه الإنسان لوجوب اعتبار
القضاء والحكم ليرتفع به هذه الخصومات.
وأول ما يحتاج إليه القضاء أن تحفظ القضايا والوقائع على النحو الذي وقعت
وتضبط ضبطا لا يتطرق إليه التغير والتبدل ليقع عليه قضاء القاضي، هذا مما
لا شك فيه.
ويتأتى ذلك بأن يستشهد على الواقعة بأن يطلع عليها إنسان فيتحملها ثم يؤدي
ما تحمله عند اللزوم والاقتضاء أو يضبط بوجه آخر كالكتابة أو أدوات أخر
معمولة لذلك اهتدى الإنسان إلى التوصل بها.
وتفارق الشهادة سائر أسباب الحفظ والضبط أولا بأن غير الشهادة من الأسباب
أمور غير عامة فإن أعمها وأعرفها الكتابة وهي لم تستوعب الإنسانية حتى
اليوم فكيف بغيرها وهذا بخلاف الشهادة والتحمل.
وثانيا بأن الشهادة وهو البيان اللساني من نفس الشاهد عن تحمله وحفظه أبعد
من عروض الخلل وأمنع جانبا من طرو أنواع الآفات بالقياس إلى الكتابة وغيره
من أسباب الحفظ والضبط.
ولذلك نرى أن الشهادة لا تتجافى عن اعتبارها أمة من الأمم في مجتمعاتهم على
اختلافها الفاحش في السنن الاجتماعية والسلائق القومية والملية والتقدم
والتأخر في الحضارة والتوحش، فهي لا تخلو عن اعتبار ما عندهم.
والاعتبار فيها بالواحد من القوم المعدود فردا من الأمة وجزءا من الجماعة،
ولذلك لا يعبأ بشهادة الصبي غير المميز ولا بشهادة المجنون الذي لا يدري ما
يقول مثلا، ولذلك أيضا لا يعبأ بعض الأمم الهمجية بشهادة النسوان لما لم
يعدوا المرأة جزء من المجتمع، وعلى ذلك كانت تجري أغلب السنن الاجتماعية في
الأمم القديمة كالروم واليونان وغيرهم.
والإسلام وهو دين الفطرة يعتبر الشهادة ويعطيها وحدها من بين سائر الأسباب
الحجية، وأما سائر الأسباب فلا عبرة بها إلا مع إفادة العلم، قال تعالى:
﴿وأقيموا الشهادة لله﴾: ﴿لطلاق: 2 وقال تعالى: ﴿ولا تكتموا الشهادة ومن
يكتمها فإنه آثم قلبه﴾: البقرة: 238 وقال تعالى: ﴿والذين هم بشهاداتهم
قائمون﴾: المعارج: 33.
وقد اعتبر الإسلام في عامة الموارد غير مورد الزنا من العدد في الشهداء
اثنين لتأييد أحدهما الآخر قال تعالى: ﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم
يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر
إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو
كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا﴾:
البقرة: 228، فأفاد أن ما بينته الآية واعتبرته من أحكام الشهادة - ومنها
ضم الواحد إلى آخر ليكونا اثنين - أكثر مطابقة للقسط وقيام الشهادة ورفع
الريب.
ثم لما كان الإسلام في تشخيصه فرد المجتمع وبعبارة أخرى في اعتباره الواحد
الذي يتكون منه المجتمع الإنساني يعد المرأة جزءا مشمولا للحكم أشركها مع
الرجل في إعطاء حق إقامة الشهادات إلا أنه لما اعتبر في المجتمع الذي كونه
أن يكون مبنيا على التعقل دون العواطف والمرأة إنسان عاطفي أعطاها من الحق
والوزن نصف ما للرجل، فشهادة امرأتين اثنتين تعدل شهادة رجل واحد كما يشير
إليه قوله تعالى في الآية السابقة: ﴿أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى﴾،
وقد مر في الجزء الرابع من هذا الكتاب من الكلام في حقوق المرأة في
الإسلام ما ينفع في المقام، وللشهادة أحكام كثيرة فرعية مبسوطة في الفقه
خارجة من غرضنا في هذا البحث.
كلام في العدالة:
كثيرا ما يعثر الباحث في الأحكام الإسلامية في خلال أبحاثه بلفظ العدالة
وربما وجد للفظ تعريفات مختلفة وتفسيرات متنوعة حسب اختلاف الباحثين
ومسالكهم.
لكن الذي يلائم مقامنا هذا من البحث - وهو بحث قرآني - في تحليل معناها
وكيفية اعتبارها بالتطبيق على الفطرة التي عليها بني الإسلام أن نسلك طريقا
آخر من البحث فنقول: إن للعدالة وهي الاعتدال والتوسط بين النمطين: العالي
والداني، والجانبين: الإفراط والتفريط قيمة حقيقية ووزنا عظيما في
المجتمعات الإنسانية، والوسط العدل هو الجزء الجوهري الذي يركن إليه
التركيب والتأليف الاجتماعي فإن الفرد العالي الشريف الذي يتلبس بالفضائل
العالية الاجتماعية، ويمثل بغية الاجتماع النهائية لا يجود منه الزمان إلا
بالنزر القليل والواحد بعد الواحد، ومن المعلوم أنه لا يتألف المجتمع
بالفرد النادر، ولا تتم به كينونته وإن كان هو العضو الرئيس في جثمانه
حيثما وجد.
والفرد الدنيء الخسيس الذي لا يقوم بالحقوق الاجتماعية، ولا يتحقق فيه
القدر المتوسط من أماني المجتمع ممن لا داعي له يدعوه إلى رعاية الأصول
العامة الاجتماعية التي بها حياة المجتمع، ولا رادع له يردعه عن اقتحام
الآثام الاجتماعية التي تهلك الاجتماع وتبطل التجاذب الواجب بين أجزائه،
وبالجملة لا اعتماد على جزئيته في بنية الاجتماع ولا وثوق بتأثيره الحسن
ونصيحته الصالحة.
وإنما الحكم لأفراد المجتمع المتوسطين الذين تقوم بهم بنية المجتمع وتتحقق
فيهم مقاصده ومآربه، وتظهر بهم آثاره الحسنة التي لم تأتلف أجزاؤه وأعضاؤه
إلا للحصول عليها والتمتع بها.
هذا كله مما لا يرتاب فيه الإنسان الاجتماعي عند أول ما يجيل نظره في هذا الباب.
فمن الضروري عنده أنه على حاجة شديدة في حياته الاجتماعية إلى أفراد في
المجتمع يعتمد على سلوكهم الاجتماعي متلبسين بالاعتدال في الأمور والاحتراز
عن الاسترسال في نقض القوانين ومخالفة السنن والآداب الجارية من غير
مبالاة وانقباض في أبواب كثيرة كالحكومة والقضاء والشهادات وغيرها في
الجملة.
وهذا الحكم الضروري أو القريب من الضروري عند الفطرة هو الذي يعتبره
الإسلام في الشاهد، قال تعالى: ﴿واشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله
ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر﴾: الطلاق: 2، وقال تعالى:
﴿شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم﴾:
المائدة: 160 والخطاب في الآيتين للمؤمنين فاشتراط كون الشاهدين ذوي عدل
منهم مفاده كونهما ذوي حالة معتدلة متوسطة بالنسبة إلى مجتمعهم الديني،
وأما بالقياس إلى المجتمع القومي والبلدي فالإسلام لا يعبأ بأمثال هذه
الروابط غير الدينية، وظاهر أن محصل كونهما على حالة معتدلة بالقياس إلى
المجتمع الديني هو كونهما ممن يوثق بدينه غير مقترفين ما يعد من المعاصي
الكبيرة الموبقة في الدين، قال تعالى: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر
عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما﴾: النساء: 31، وقد تكلمنا في معنى
الكبائر في ذيل الآية في الجزء الرابع من هذا الكتاب.
وعلى هذا المعنى جرى كلامه تعالى في قوله: ﴿والذين يرمون المحصنات ثم لم
يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك
هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم﴾:
النور: 5 ونظير الآية السابقة الشارطة للعدالة قوله تعالى: ﴿ممن ترضون من
الشهداء﴾: البقرة: 228 فإن الرضا المأخوذ في الآية هو الرضا من المجتمع
الديني، ومن المعلوم أن المجتمع الديني بما هو ديني لا يرضى أحدا إلا إذا
كان على نوع من السلوك يوثق به في أمر الدين.
وهذا هو الذي نسميه في فن الفقه بملكة العدالة وهي غير ملكة العدالة بحسب
اصطلاح فن الأخلاق فإن العدالة الفقهية هي الهيئة النفسانية الرادعة عن
ارتكاب الكبائر بحسب النظر العرفي والتي في فن الأخلاق هي الملكة الراسخة
بحسب الحقيقة.
والذي استفدناه من معنى العدالة هو الذي يستفاد من مذهب أئمة أهل البيت
(عليهم السلام) على ما ورد من طرقهم: ففي الفقيه، بإسناده عن ابن أبي يعفور
قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين
حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: إن تعرفوه بالستر والعفاف وكف البطن
والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها
النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير
ذلك. والدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على
المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه، ويجب عليهم تزكيته وإظهار
عدالته بين الناس، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحفظ
مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين وأن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا
من علة. فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه
في قبيلته ومحلته قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا، مواظبا على الصلوات،
متعاهدا لأوقاتها في مصلاه فإن ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين وذلك
أن الصلاة ستر وكفارة للذنوب، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلي إذا
كان لا يحضر مصلاه ولا يتعاهد جماعة المسلمين. وإنما جعل الجماعة والاجتماع
إلى الصلاة لكي يعرف من يصلي ممن لا يصلي ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن
يضيع، ولو لا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح لأن من لا يصلي لا
صلاح له بين المسلمين فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هم بأن يحرق
قوما في منازلهم بتركهم الحضور لجماعة المسلمين وقد كان منهم من يصلي في
بيته فلم يقبل منه ذلك فكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى
الحكم من الله عز وجل ومن رسوله فيه الحرق في جوف بيته بالنار؟ وقد كان
يقول (صلى الله عليه وآله وسلم). لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع
المسلمين إلا من علة.
أقول: ورواه في التهذيب، مع زيادة تركناها، والستر والعفاف كلاهما بمعنى
الترك على ما في الصحاح، والرواية - كما ترى - تجعل أصل العدالة أمرا
معروفا بين المسلمين وتبين أن الأثر المترتب عليه الدال على هذه الصفة
النفسية هو ترك محارم الله والكف عن الشهوات الممنوعة، ومعرف ذلك اجتناب
الكبائر من المعاصي، ثم تجعل الدليل على ذلك كله حسن الظاهر بين المسلمين
على ما بينه (عليه السلام) تفصيلا.
وفيه، عن عبد الله بن المغيرة عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته.
وفيه: روى سماعة عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: لا بأس بشهادة الضعيف إذا كان عفيفا صائنا.
وفي الكافي، بإسناده عن علي بن مهزيار عن أبي علي بن راشد قال: قلت لأبي
جعفر (عليه السلام): إن مواليك قد اختلفوا فأصلي معهم جميعا؟ فقال لا تصل
إلا خلف من تثق بدينه.
أقول: دلالة الروايات على ما قدمناه ظاهرة، وفيها أبحاث أخر خارجة عن غرضنا في المقام.
كلام في اليمين:
حقيقة معنى قولك: ﴿لعمري إن كذا وكذا، وحياتي إن الأمر على ما أخبرته﴾ أنك
تعلق ما أخبرت به من الخبر وتقيده نوع تقييد في صدقه بعمرك وحياتك التي لها
مكانة واحترام عندك بحيث يتلازمان في الوجود والعدم، ولو كنت كاذبا في
خبرك أبطلت مكانة حياتك واحترامها عندك فسقطت بذلك عن مستوى الإنسانية
الداعية إلى الاحترام لأمر الحياة.
ومعنى قولك: ﴿أقسمك بالله أن تفعل كذا أو تترك كذا﴾ إنك ربطت أمرك أو نهيك
بالمكانة والعزة التي لله عز اسمه عند المؤمنين بحيث تكون مخالفة الأمر أو
معصية النهي استهانة بمقامه تعالى وإذهابا لحرمة الإيمان به.
وكذا معنى قولك: ﴿والله لأفعلن كذا﴾ وصل خاص بين عزيمتك على ما عزمت عليه
من الأمر وبين ما لله سبحانه عندك من المكانة والحرمة بحسب إيمانك به بحيث
يكون فسخك عزيمتك ونقضك همتك إبطالا لما له سبحانه من المكانة عندك، والغرض
من ذلك أن تكون على رادع من فسخ العزيمة ونقض الهمة فالقسم إيجاد ربط خاص
بين شيء من الخبر أو الإنشاء وبين شيء آخر ذي مكانة وشرف بحيث يبطل المربوط
إليه ببطلان المربوط بحسب الدعوى، وحيث كان المربوط إليه ذا مكانة وشرف
عند الجاعل مثلا لا يرضى بإذهاب مكانته والإهانة بمقامه فهو صادق في خبره
أو مطاع فيما يأمر به أو ينهى عنه، أو ماض في عزيمته من غير فسخ لا محالة،
ونتيجته التأكيد البالغ.
ويوجد في اللغات نوع آخر من جعل الربط يقابل القسم وهو ربط الخبر مثلا بما
لا قيمة له ولا شرافة عند المخبر ليدل بذلك على الاستهانة بما يخبر به أو
بلغه من الخبر ويعد نوعا من الشتم وهو في اللغة العربية نادر جدا.
والحلف واليمين - فيما نعلم - من العادات الدائرة في ألسنة الناس الموروثة
جيلا بعد جيل، ولا يختص بلغة دون لغة، وهو الدليل على أنه ليس من الشئون
اللغوية اللفظية بل إنما يهدي الإنسان إليه حياته الاجتماعية في موارد
يتنبه على وجوب الالتجاء إليه والاستفادة منه.
ولم تزل اليمين دائرا بين الأمم ربما يبنى عليه ويركن إليه في موارد متفرقة
غير مضبوطة تحدث في مجتمعاتهم لأغراض متنوعة لدفع التهمة ورفع الفرية
وتطييب النفس وتأييد الخبر حتى اعتنى بأمره القوانين المدنية وأعطتها وجهة
قانونية في بعض من الموارد كحلف الرؤساء وأولياء الأمور عند تقلد المناصب
الهامة وإشغال المقامات العظيمة العالية وغير ذلك.
وقد اعتنى الإسلام بشأن اليمين اعتناء تاما إذا وقع على الله سبحانه خاصة،
وليس ذلك إلا في ظل العناية برعاية حرمة المقام الربوبي ووقاية ساحته تعالى
أن يواجه بما يأباه ناموس الربوبية والعبودية، ولذلك وضعت كفارة خاصة عند
حنث اليمين، وكره الإكثار من الحلف بالله عز شأنه، قال تعالى: ﴿لا يؤاخذكم
الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة
مساكين﴾ الآية: المائدة: 89 وقال تعالى: ﴿ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم﴾:
البقرة: 242﴾.
واعتبر اليمين في موارد من القضاء خلت عن البينة، قال تعالى: ﴿فيقسمان
بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا﴾ الآية: المائدة: 170 ومن
كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم): البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
وحقيقة اعتبار اليمين الاكتفاء بدلالة نفس الإيمان فيما لا دليل سواه، وذلك
أن المجتمع الديني مبني على إيمان الأفراد بالله، والإنسان المؤمن هو
الجزء من هذا المركب المؤلف، وهو المنبع الذي ينبع منه السنن المتبعة
والأحكام الجارية، وبالجملة جميع الآثار البارزة في القوم الناشئة من
حالتهم الدينية كما أن المجتمع غير الديني مبني على إيمان الأفراد بمقاصدهم
القومية، ومنها تنشأ السنن والقوانين المدنية والآداب والرسوم الدائرة
بينهم.
فإذا كان كذلك وصح الاعتماد في جميع الشئون الاجتماعية والاتكاء في عامة
لوازم الحياة على إيمان الأفراد بطرق مختلفة كان من الجائز أن يعتمد على
إيمانهم في ما لا دليل آخر يعتمد عليه، وهو اليمين فيما لا بينة عليه بأن
يربط المنكر ما ينكره من دعوى المدعي ويقيده بإيمانه بحيث يزول اعتبار
إيمانه بالله ببطلان إنكاره وظهور كذبه فيما أظهره وأخبر به.
فإيمانه بسبب ما عقده باليمين بمنزلة مال الرهن الذي يجعل تحت تسلط الدائن
ويراعي في عوده إلى سلطة راهن صدق وعده وتأديته الدين إلى أجل وإلا ذهب
المال وبقي صفر اليد.
كذلك الحالف يعتبر مرهون الإيمان بما حلف عليه ما لم يظهر خلافه وإذا ظهر
الخلاف عاد صفر الكف من الإيمان ساقطا عن درجة الاعتبار محروما من التمتع
بثمرة الإيمان وهي في المجتمع الديني جميع المزايا الاجتماعية، ورجع مطرودا
من المجتمع المتلائم الأجزاء لا سماء تظله ولا أرض تقله.
ويتأيد هذا البيان بما يروى من تظاهر الناس على مقت المتخلفين عن السنن
الدينية كالصلاة مع الجماعة والشخوص في الجهاد ونحوهما في زمن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) حين كان تمام السلطة والحكومة للدين على الأهواء.
وأما في أمثال هذه الأعصار التي ضعف فيها نفوذ الدين وتسرب الهوى في القلوب
وانعقد بيننا مجتمع مؤتلف من المقاصد الدينية على وهن في بنيتها وإعراض من
الناس عنها ومن مقاصد المدنية الحديثة ويجمعها الاسترسال في التمتعات
المادية على شيد في أساسها وإقبال عام من عامة الناس إليها ثم أخذ التنازع
والتشاجر الشديد بين الدواعي الدينية والمدنية الطارقة ولا يزال يغلب هذا
وينهزم ذاك، وانثلمت وحدة النظام الواجب انبساطه على مستوى المجتمع، وبدا
الهرج والمرج في الروحيات فحينئذ لا يكاد ينفع اليمين ولا ما هو أقوى من
ذلك وأحفظ لحقوق الناس، وزال الاعتماد لا على الأسباب الدينية الموجودة عند
المجتمع فحسب بل عليها وعلى النواميس الحديثة جميعا.
غير أن الله سبحانه لا ينسخ أحكامه ولا يغمض عن شرائعه بتولي الناس عنها
وسأمهم منها وأن الدين عند الله الإسلام ولا يرضى لعباده الكفر، ولو اتبع
الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض، وإنما الإسلام دين متعرض لجميع شئون
الحياة الإنسانية شارح لها مبين لأحكامها ذو أجزاء متلائمة متناسبة متلازمة
تعيش بروح التوحيد الواحد إذا اعتل بعض أجزائه اعتل الجميع، وإذا فسد
بعضها أثر ذلك في عمل الجميع كالواحد من الإنسان بعينه.
فإذا فسد بعض أجزائه أو اعتل كان من الواجب إبقاء السالم منها على سلامته
وعلاج المعتل وإصلاح الفاسد، ولم يكن من الجائز إبقاء المعتل على علته
والفاسد على فساده، والإعراض عن السالم.
والإسلام وإن كان ملة حنيفية سهلة سمحة ذات مراتب مختلفة وسيعة يقدر
تكاليفه على قدر ما يستطاع من إتيانها وإجرائها، يتمدد حبلها الموصول من
حالة اجتماعية آمنة تتضمن شرائعها وقوانينها جمعاء من غير استثناء إلى حالة
انفرادية اضطرارية تكتفى فيها من الصلاة بالإشارة لكن التنزل من مرتبة من
مراتبها إلى ما هي دونها مشروطة بالاضطرار النافي للتكليف والمبيح للتوسع،
قال تعالى: ﴿من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم - إلى أن قال -
ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها
لغفور رحيم﴾: النحل: 101.
وأما بناء الحياة على التمتع المادي ثم التعلل في رفض ما يناقضه من المواد
الدينية بأنه لا يوافق السنة الجارية في الدنيا الحاضرة فإنه جري على
المنطق المادي دون منطق الدين.
ومن البحث المتعلق بهذا الباب ما في قول بعض: إن الحلف بغير الله من الشرك
بالله فينبغي أن يستفهم هذا القائل ما ذا يريد بهذا الشرك الذي ذكره؟.
فإن أراد به أن في اليمين بغير الله إعظاما للمقسم به وإجلالا لأمره
لابتناء معنى القسم على ذلك ففيه نوع خضوع وعبادة له وهو الشرك فما كل
إعظام شركا إلا إعطاء عظمة الربوبية المستقلة التي يستغني بها عن غيره.
وقد أقسم الله تعالى بكثير من خلقه كالسماء والأرض والشمس والقمر والكنس
الخنس من الكواكب وبالنجم إذا هوى، وأقسم بالجبل والبحر والتين والزيتون
والفرس وأقسم بالليل والنهار والصبح والشفق والعصر والضحى ويوم القيامة،
وأقسم بالنفس، وأقسم بالكتاب والقرآن العظيم وحياة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) وبالملائكة إلى غير ذلك في آيات كثيرة ولا يستقيم قسم إلا عن
إعظام.
فما المانع من أن نجري على ما جرى عليه كلامه تعالى من إعظامها بالعظمة
الموهوبة ونقتصر على ذلك، ولو كان ذلك من الشرك لكان كلامه تعالى أولى
بالتحرز منه وأحرى برعايته.
وأيضا قد عظم الله تعالى أمورا كثيرة في كلامه كالقرآن والعرش وخلق النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: ﴿والقرآن العظيم﴾: الحجر: 87، وقال:
﴿وهو رب العرش العظيم﴾: التوبة: 192، وقال: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾: ن: 4،
وجعل لأنبيائه ورسله والمؤمنين حقوقا على نفسه وعظمها واحترمها، قال تعالى:
﴿ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون﴾: الصافات: 127،
وقال: ﴿وكان حقا علينا نصر المؤمنين﴾: الروم: 47 فما المانع من أن نعظمها
ونجري على ما جرى عليه كلامه في مطلق القسم، وأن نقسمه تعالى بشيء مما أقسم
به أو بحق من الحقوق التي جعلها لأوليائه على نفسه؟ نعم اليمين الشرعي
الذي له آثار شرعية في باب اليمين أو القضاء لا ينعقد بغير الله سبحانه كما
بين في الفقه وليس كلامنا فيه.
وإن أراد به أن مطلق الإعظام كيفما كان لا يجوز في غير الله حتى إعظامها
بما عظمها الله تعالى فهو مما لا دليل عليه بل القاطع من الدليل على خلافه.
وربما قيل: إن في الإقسام بحق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر
الأولياء والتقرب إليهم والاستشفاع بهم بأي وجه كان عبادة وإعطاء سلطة
غيبية لها.
والكلام فيه كالكلام في سابقه: فإن أريد بهذه السلطة الغيبية السلطة
المستقلة الخاصة بالله فلا يذعن بها مسلم مؤمن بكتاب الله في غيره تعالى،
وإن أريد بها مطلق السلطة غير المادية ولو كان بإذن الله فما الدليل على
امتناع أن يتصف بها بعض عباد الله كأوليائه مثلا بإذنه، وقد نص
القرآن الشريف على كثير من السلطات الغيبية في الملائكة كما قال: ﴿حتى إذا جاء
أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون﴾: الأنعام: 61، وقال: ﴿قل يتوفاكم
ملك الموت﴾: السجدة: 11 وقال: ﴿والنازعات غرقا، والناشطات نشطا، والسابحات
سبحا، فالسابقات سبقا، فالمدبرات أمرا﴾: النازعات: 5، وقال: ﴿من كان عدوا
لجبريل فإنه نزله على قلبك﴾: البقرة: 97 والآيات في هذا الباب كثيرة جدا.
وقال في إبليس وجنوده: ﴿إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا
الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون﴾: الأعراف: 27 وقد نزلت في شفاعة الأنبياء
وغيرهم في الآخرة، وآياتهم المعجزة في الدنيا آيات كثيرة.
وليت شعري ما الفرق بين الآثار المادية التي يثبتها هؤلاء في الموضوعات من
غير استنكاف وبين آثار غير المادية التي يسمونها بالسلطة الغيبية؟ فإن كان
إثبات التأثير لغير الله ممنوعا لم يكن فرق بين الأثر المادي وغيره وإن كان
جائزا بإذن الله سبحانه كان الجميع فيه سواء.
بحث روائي:
في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن رجاله رفعه قال: خرج تميم الداري وابن
بندي وابن أبي مارية في سفر، وكان تميم الداري مسلما وابن بندي وابن أبي
مارية نصرانيين، وكان مع تميم الداري خرج له فيه متاع وآنية منقوشة بالذهب
وقلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع. فاعتل تميم الداري علة شديدة
فلما حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندي وابن أبي مارية وأمرهما أن
يوصلاه إلى ورثته فقدما المدينة، وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة،
وأوصلا سائر ذلك إلى ورثته، فافتقد القوم الآنية والقلادة فقال أهل تميم
لهما: هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا: لا ما مرض إلا
أياما قلائل، قالوا: فهل سرق منه شيء في سفره هذا؟ قالا: لا، فقالوا: فهل
اتجر تجارة خسر فيها؟ قالا: لا، قالوا: فقد افتقدنا أفضل شيء كان معه: آنية
منقوشة بالذهب مكللة بالجواهر وقلادة، فقالا: ما دفعه إلينا فقد أديناه
إليكم. فقدموهما إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوجب رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) عليهما اليمين فحلفا فخلا عنهما، ثم ظهرت تلك
الآنية والقلادة عليهما فجاء أولياء تميم إلى رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله قد ظهر على ابن بندي وابن أبي مارية ما
ادعيناه عليهما، فانتظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الله عز
وجل الحكم في ذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا شهادة
بينكم - إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم - أو آخران من
غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض﴾ فأطلق الله عز وجل شهادة أهل الكتاب على
الوصية فقط إذا كان في سفر ولم يجد المسلمين. ثم قال: ﴿فأصابتكم مصيبة
الموت - تحبسونهما من بعد الصلاة - فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به
ثمنا - ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله - إنا إذا لمن الآثمين﴾، فهذه
الشهادة الأولى التي حلفها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿فإن عثر
على أنهما استحقا إثما﴾ أي أنهما حلفا على كذب ﴿فآخران يقومان مقامهما﴾
يعني من أولياء المدعي ﴿من الذين استحق عليهم الأوليان﴾ الأولين ﴿فيقسمان
بالله﴾ أي يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما وأنهما قد كذبا فيما
حلفا بالله ﴿لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا - إنا إذا لمن
الظالمين﴾. فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولياء تميم الداري
أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به فحلفوا فأخذ رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) القلادة والآنية من ابن بندي وابن أبي مارية وردهما إلى أولياء
تميم الداري ﴿ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها - أو يخافوا أن ترد
أيمان بعد أيمانهم﴾.
أقول: وأورده القمي في تفسيره مثله وفيه بعد قوله: ﴿تحبسونهما من بعد
الصلاة﴾: يعني صلاة العصر، وقوله (عليه السلام) ﴿الأولين﴾ الظاهر أنه بصيغة
التثنية والمراد بهما الشاهدان الأولان تفسيرا لقوله تعالى: ﴿الأوليان﴾
وظاهره على قراءته (عليه السلام) ﴿استحق﴾ بالبناء للفاعل كما نسبت إلى علي
(عليه السلام)، وقد قدمنا في البيان السابق أنه أوضح المعاني المحتملة على
هذه القراءة.
وفي الدر المنثور: أخرج الترمذي وضعفه وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس في
ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو
الكلبي عن باذان مولى أم هاني عن ابن عباس عن تميم الداري: في هذه الآية:
﴿يا أيها الذين آمنوا - شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت﴾ قال: برىء الناس
منهما غيري وغير عدي بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل
الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل
بن أبي مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو عظم تجارته، فمرض
فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك
الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء فلما قدمنا إلى أهله
دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا
وما دفع إلينا غيره. قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت
إليهم خمس