اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم واللعن أعدائهم .
الإمام زين
العابدين عليه السلام ..رقم استعصى على أعدائه
جاذبية الشخصية الربانية
صاحبُ نَمَطٍ سُلوكي فريد.. أخذ بمجامع قلوب المسلمين ! وحيَّر الحكام !
فقد أجمع الناس على الإعجاب بشخصيته ، حتى ابن شهاب الزهري عالم بلاط بني أمية ، كان يعتقد به ، ويفتخر بالتلمُّذ
عليه والرواية عنه ، ويبكي لذكراه !
وحتى عبد الملك بن مروان وارث معاوية ، كان يطلب منه أن يدعو له ، وقد ردَّ
اقتراح الحجاج بقتله وكتب له: (جنبني دماء آل أبي طالب فإني رأيت بني حرب
لما قتلوا الحسين نزع الله ملكهم). (محاسن البيهقي/39) .
وجهٌ نَوْرَانِيٌّ هادئْ ، يحمل سماتٍ من نور الله تعالى ، وملامحُ ضاربةٌ في العراقة من أبيه الحسين الى جده إبراهيم عليهم
السلام ، ومن أمه شهزنان بنت يزدجرد الى أعلى أعراق الفرس ! صوَّرَهَا الشاعر أبو الأسود الدؤلي بقوله:
وإن وليداًً بين كسرى وهاشمٍ لأكرمُ من نِيطَتْ
عليه التمائمُ
(وكان يقال لعلي بن الحسين عليهما
السلام : ابنُ الخِيرتَيْن ، فخِيرة الله من العرب هاشم ومن العجم فارس ، وروي
أن أبا الأسود الدؤلي قال فيه...). (الكافي:1/467 ، ومناقب آل أبي
طالب:3/304 ، ونسبه في الأغاني:2/256 ، الى ابن ميادة ).
وقد روى السنة والشيعة أن النبي صلى الله
عليه وآله رغب بني هاشم في هذه العراقة العالية فقال: (يا بني هاشم عليكم بنساء
الأعاجم فالتمسوا أولادهن، فإن في أرحامهن البركة ). (مغني ابن
قدامة:7/468 ، والكافي:5/474).
صفاءٌ في الذهن ، ونقاءٌ في الفكر ، وشفافيةٌ في الروح.. كوَّنت شخصية الإمام زين
العابدين عليه السلام وعاش بها بصدقٍ ، فاتَّحَدَ في شخصيته نمط السلوك بالعقيدة ، فلا فاصلة عنده بين النظرية والتطبيق ، والقول والعمل !
شفافيةٌ في التسامح مع الناس.. تعلمها من قوله تعالى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ
الْجَمِيلَ ، ففسره بأنه: العفو من غير عتاب ! (أمالي الصدوق/416) .
وقد وصف الطبري:5/217، دهشة والي المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي ، الذي كان يؤذي الإمام
عليه السلام أذى شديداً ، فلما غضب
عليه الوليد بن عبد الملك عزله وأراد الإنتقام منه فأمر أن يوقف للناس ويدعوا للإقتصاص منه !
(فقال: ما أخاف إلا من علي بن الحسين ! فمرَّ به عليٌّ وقد وقف عند دار
مروان وكان عليُّ قد تقدم إلى خاصته أن لايعرض له أحد منهم بكلمة ، فلما
مرَّ ناداه هشام بن إسماعيل: اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
(واليعقوبي:2/283) .
وقال ابن كثير في النهاية:9/124: (ونال منه رجل يوماً فجعل يتغافل عنه يريه
أنه لم يسمعه ، فقال له الرجل: إياك أعني ! فقال له علي: وعنك أغضي...
وقيل له: من أعظم الناس خطراً؟فقال: من لم ير الدنيا لنفسه قدراً ).
وإنسانيةٌ حنونةٌ مع كل الناس خاصةً الضعفاء.. قال ابنه الباقر عليهما
السلام : ( لمَّا حضرت علي بن الحسين الوفاة ضمَّني إلى صدره ثم قال: يا بنيَّ
أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة ، وبما ذكر أن أباه أوصاه به ،
فقال: يا بنيَّ إياك وظلم من لا يجدُ عليك ناصراً إلا الله) . (أمالي
الصدوق/249) .
وحنانٌ على الفقراء ولو من غير شيعته..(كان يعول مائة أهل بيت من فقراء
المدينة). (الخصال/518) مع أنه كان يقول: (ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً
يحبنا). (شرح النهج:4/104، والغارات:2/573) .
وقال الأموي ابن كثير في النهاية:9/124: (وذكروا أنه كان كثير الصدقة
بالليل وكان يقول: صدقة الليل تطفئ غضب الرب وتنور القلب والقبر ، وتكشف عن
العبد ظلمة يوم القيامة . وقاسم الله تعالى ماله مرتين . وقال محمد بن
إسحاق: كان ناس بالمدينة يعيشون لايدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم ، فلما
مات علي بن الحسين فقدوا ذلك فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما
يأتيهم به . ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت
الأرامل والمساكين في الليل . وقيل إنه كان يعول مائة أهل بيت بالمدينة).
انتهى.
وبهذه الإنسانية كان يَفَهَمُ الدين.. فقد سئل: لمَ فَرَضَ الله عز وجل
الصوم؟ فأجاب: (ليجدَ الغنيُّ مَسَّ الجوع فيحِنَّ على الفقير). (أمالي
الصدوق/97).
عطوفٌ رفيقٌ بالحيوان..قال الإمام الباقر
عليه السلام كان لعلي بن الحسين
عليه السلام ناقة حجَّ عليها اثنتين وعشرين حجة ما قرعها قرعة قط قال: فجاءت بعد موته
وما شعرنا بها إلا وقد جاءني بعض خدمنا أو بعض الموالي فقال: إن الناقة قد
خرجت(من مرعاها خارج المدينة)فأتت قبر علي بن الحسين
عليه السلام فانبركت
عليه فدلكت بجرانها القبر وهي ترغو ! فقلت: أدركوها أدركوها وجيئوني بها قبل أن
يعلموا بها أو يروها ! قال: وما كانت رأت القبر قط). (الكافي:1/467) .
وأوصاه أبوه عليهما
السلام بهافإذا نَفَقَتْ فادفنها لايأكل لحمها السباع فإن رسول الله صلى الله
عليه وآله قال: ما من بعير يوقف
عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله الله من نعم الجنة وبارك في نسله ، فلما نفقت حفر لها أبو جعفر
عليه السلام ودفنها).(ثواب الأعمال/50).
لقد استوعب الإمام زين
العابدين عليه السلام بشفافيته عالم قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا
طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ). (الأنعام:38) ،
فهو القائل: (ما بهمت البهائم عنه ، فلم تبهم عن أربعة: معرفتها بالرب
تبارك وتعالى ، ومعرفتها بالموت ، ومعرفتها بالأنثى من الذكر ، ومعرفتها
بالمرعى الخصب). (الخصال/260).
وهو بقيةُ السيف.. شاءه الله أن يكون شاهداً على كربلاء ، ومعه طفله محمد الباقر عليهما
السلام ، فحضر كل مراحل المعركة وفصول الأسر والترحال . وهيأ له الله من يحافظ
على حياته في كربلاء: (لما قتل الحسين كان علي بن الحسين عليهما
السلام نائماً فجعل رجل منهم يدافع عنه كل من أراد به سوءاً) ! (مدينة المعاجز:4/382).
قال الزهري: ( كان علي بن الحسين مع أبيه يوم قتل وهو ابن ثلاث وعشرين سنة). (تهذيب الكمال:20/402 ، وروى عن محمد بن عقيل بأن عمر
عليه السلام كان خمساً وعشرين) .
وهو زَيْنُ العابدين..(كان الزهري إذا حدث عن علي بن الحسين قال: حدثني زين
العابدين علي بن الحسين ، فقال له سفيان بن عيينة: ولم تقول زين العابدين؟ قال:
لأني سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن ابن عباس أن رسول الله قال: إذا كان يوم
القيامة ينادي مناد أين زين العابدين؟ فكأني أنظر إلى ولدي علي بن الحسين
بن علي بن أبي طالب يخطر بين الصفوف). (علل الشرائع:1/230، ومناقب آل أبي
طالب:3/304، وأمالي الصدوق/410 ، ومدينة المعاجز:4/242).
(زين
العابدين ثقةٌ ثَبْتٌ عابدٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهور . قال ابن عيينة عن الزهري: ما رأيت
قرشياً أفضل منه). (تقريب التهذيب:1/692، وفيض القدير:6/454 )
وقال الأموي ابن كثير في النهاية:9/123: (وذكروا أنه احترق البيت الذي هو
فيه وهو قائم يصلي ، فلما انصرف قالوا له: مالك لم تنصرف؟ فقال: إني اشتغلت
عن هذه النار بالنار الأخرى ! وكان إذا توضأ يصفر لونه فإذا قام إلى
الصلاة ارتعد من الفرق ، فقيل له في ذلك فقال: ألا تدرون بين يدي مَنْ أقوم
ولمن أناجي ؟
ولما حج أراد أن يلبي فارتعد وقال: أخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك ، فيقال لي: لا لبيك ! فشجعوه على التلبية فلما لبى غشي
عليه حتى سقط عن الراحلة....
وقال طاووس: سمعته وهو ساجد عند الحجر يقول: عُبَيْدُك بفِنائك . سائلُكَ
بفنائك . فقيرُك بفنائك.. فوالله ما دعوت بها في كرب قط إلا كشف عني).
وهو الإمام السَّجَّاد..(ما ذكر لله نعمة
عليه إلا سجد ، ولا قرأ آية من كتاب الله فيها سجدة إلا سجد ، ولا دفع الله عنه
شراً يخشاه أو كيد كائد إلا سجد ، ولا فرغ من صلاته مفروضة إلا سجد ، ولا
وفق لإصلاح بين اثنين إلا سجد ، وكان كثير السجود في جميع مواضع سجوده
فَسُمِّيَ السَّجَّاد لذلك).( المناقب:3/304).
قال الزهري: ( دخلت مع علي بن الحسين على عبد الملك بن مروان ، قال فاستعظم
عبد الملك ما رأى من أثر السجود بين عيني علي بن الحسين فقال: يا أبا محمد
لقد بان عليك الإجتهاد ولقد سبق لك من الله الحسنى وأنت بضعة من رسول
الله(ص)وقريب النسب وكيد السبب ، وإنك لذو فضل عظيم على أهل بيتك وذوي عصرك
، ولقد أوتيت من العلم والفضل والورع ما لم يؤته أحد مثلك ولا قبلك إلا من
مضى من سلفك ، وأقبل يثني
عليه ويطريه قال فقال علي بن الحسين: كلُّ ما ذكرته ووصفته من فضل الله وتأييده
وتوفيقه فأين شكره على ما أنعم ؟ إلى أن قال: والله لو تقطعت أعضائي وسالت
مقلتاي على صدري لن أقوم لله جل جلاله بشكر عشر العشير من نعمة واحدة من
جميع نعمه التي لايحصيها العادون ولايبلغ حد نعمة منها عليَّ جميع حمد
الحامدين لاوالله أو يراني الله لايشغلني شئ عن شكره وذكره في ليل ولانهار
ولاسر ولا علانية. لولا أن لأهلي علي حقاً ولسائر الناس من خاصهم علي
حقوقاً لايسعني إلا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤديها إليهم ،
لرميتُ بطرفي إلى السماء وبقلبي إلى الله ، ثم لم أردَّهما حتى يقضي الله
على نفسي وهو خير الحاكمين ! وبكى ، وبكى عبد الملك).(فتح الأبواب لابن
طاووس/169).
فأي معرفة هذه ؟ وأي حبٍّ لله هذا ، الذي يمكِّن صاحبه أن يرمي بطرفه الى
السماء ويرمي بقلبه الى الله طول حياته ، فيكون عمره تسبيحةً واحدةً؟!
هذه قمة المعرفة والعبادة ، لا ما يدعيه المدعون ويُلقلقون به ألسنتهم !
وهو شاعر الله.. فلهُ عز وجل كل مدائحه وقصائده ، وحبه وفكره وذكره ،
وخشوعه ودموعه.. بل كل وجوده وحياته ، في يومه وليله ، وحله وترحاله .
وهو مع ربه عز وجل في غاية الأدب ، ينتقي في تصرفاته الحركة والسكون ، لأنه
في محضره سبحانه . وينتقي للحديث عنه أحسن الكلمات وأبلغ المعاني . أما
حديثه معه فيخصه بأعلى الكلام وأروعه !