العلم من أفضل السجايا الإنسانية، وأشرف الصفات البشرية، به أكمل الله أنبياءه المرسلين، ورفع درجات عباده المخلصين، قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(1).
وإنما صار العلم بهذه المثابة لأنه يوصل صاحبه إلى معرفة الحقائق، ويكون سببا لتوفيقه في نيل رضاء الخالق، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) يحثون الأمة على طلب العلم، وكانوا يغذّون أطفالهم العلم كما يغذّونهم اللبن.
أما زينب (عليها السلام) المتربية في مدينة العلم النبوي، المعتكفة بعده ببابها العلوي، المتغذية باللبان الفاطمي من أمها الصديقة الطاهرة (سلام الله عليها)، وقد طوت عمراً من الدهر مع الإمامين السبطين يزّقانها العلم زّقاً، فهي من عياب علم آل محمد (عليهم السلام) وعلى فضائلهم التي اعترف بها عدوهم الألد يزيد الطاغية بقوله في الإمام السجاد (عليه السلام): (إنه من أهل بيت زقوا العلم زقاً)(2).
وقد نص لها بهذه الكلمة ابن أخيها علي بن الحسين (عليهما السلام): (أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة)(3).
وهذا اللقب منحها الإمام زين العابدين (عليه السلام) ووصفها به، وذلك حينما أراد تسليتها وتعزيتها وتكريمها وتزكيتها (عليها السلام) على مرأى من الناس ومسمع، ليعلمهم:
أولا: بالمقام الرفيع الذي وهبه الله تعالى لها (سلام الله عليها)، وليهون من وقع المصائب العظيمة عليها.
ثانياً: فإن الإمام زين العابدين(عليه السلام) لما رأى عمته زينب (عليها السلام) وهي في أسرها تخطب على الجماهير المتجمعة من أهل الكوفة، الذين قد خرجوا للتفرج عليهم، والتفت إلى أنها (عليها السلام) قد استعادت في ذاكرتها كل المصائب العظيمة التي جرت عليها واستعرضت كل انتهاكات القوم أمام مخيلتها، خاف عليها أن تموت حسرة وغصة، فخاطبها قائلا: (أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة…)(4).
ثم إنه يمكن أن يستفاد من كلام الإمام السجاد(عليه السلام) المزبور في حق عمته زينب (عليها السلام) أموراً:
1: أن السيدة زينب (عليها السلام) كانت قد بلغت هذه المرتبة العظيمة والمقام الرفيع عند الله تعالى وأن مادة علمها من سنخ ما منح به رجالات بيتها الرفيع أفيض عليها إلهاما، لا بتخرج على أستاذ وأخذ عن مشيخة، وإن كان الحصول على تلك القوة الربانية بسبب قابليتها وتهذيبات جدها وأبيها وأمها وأخويها، ولانتمائها إليهم واتحادها معهم في الطينة، فأزيحت عنها بذلك الموانع المادية، وبقي مقتضى اللطف الفياض الإلهي وحده وإذ كان لا يتطرقه البخل بتمام معانيه عادت العلة لإفاضة العلم كله عليها بقدر استعدادها تامة، فأفيض عليها بأجمعه، سوى ما اختص به أئمة الذين (عليهم السلام) من العلم المخصوص بمقامهم الأسمى.
ولولا ذلك لما نعتها ابن أخيها الإمام السجاد (عليه السلام) وهو معصوم بهذا النعت، ولما وصفها بهذه الصفة.
2: إن الإمام (عليه السلام) أراد بكلامه المذكور في حق عمته زينب (عليها السلام) بيان شأنها وإظهار عظمتها.
3: إن الإمام (عليه السلام) أراد أن يشكر عمته زينب (عليها السلام) بكلامه هذا، على ما أسدته (عليها السلام) إليه في كربلاء من خدمة كبرى حيث رأته يجود بنفسه من عظم المصاب فعزته بمصابه وصبرته عليه، فقام(عليه السلام) في الكوفة بعمل مماثل لما قامت به (عليها السلام) تجاهه، إضافة أن من أهم الكمالات النفسية، والمقامات الإنسانية، هو مقام العلم، فإن العلم هو قمة كل شرف، وأفضل كل الملكات، وغذاء الروح، وبه استمرار الحياة المعنوية، وشرفه ذاتي، وهذا ما لا يستطيع أحد إنكاره، إذ علو مقام العلم لا يخفى على أحد.
واعلم إن العلم على قسمين: اكتسابي وموهوبي، وبعبارة أخرى: تحصيلي ولدنّي.
أما الإكتسابي والتحصيلي: فهو أن يسعى الإنسان في طلب العلم ويجّد في تحصيله، وبقدر سعيه وجدّه يستطيع الإنسان أن ينال من درجات العلم وينتفع من بركاته.
وأما الموهوبي واللدنّي: فهو العلم الذي يمنحه الله تعالى خالق الإنسان بعض عباده ممن له أهلية ذلك، ويقذفه في قلب من هو كفو لها، وذلك من غير تجشم عناء التعليم، ولا تحمل أتعاب التحصيل، فبعض يلهمه الله تعالى العلم إلهاماً غيبياً ومن دون واسطة، وبعض يلهمه بواسطة الملائكة ويريه الملائكة أيضاً ويسمى بالوحي، وبعض لا يريه الملائكة ويسمى هذا الذي يوحى إليه بواسطة الملائكة ولا يرى الملائكة بالمحدّث، ولكل مقام خاص ودرجة خاصة تتفاوت رفعة وعلواً.
والحصول على هذه المقامات الرفيعة من العلم اللدني صعب جدا، ولا يتسنى لأحد من الناس الوصول إليها إلا للأنبياء و الرسل، والأوصياء والأولياء.
ثم إن الأنبياء و الرسل و الأوصياء و الأولياء الذين هم وحدهم المختصون بالعلم اللدني يكونون بالنسبة إلى هذا العلم على درجات، فمنهم من قد حاز على درجة منه، و منهم على درجتين، ومنهم على ثلاث درجات، والذي قد حاز على كامل الدرجات وأعلى المراتب، هو أكمل المخلوقات، وأشرف الكائنات، سيد الأنبياء وأشرف المرسلين، حبيب إله العالمين، محمد وأهل بيته المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين).
والسيدة زينب (عليها السلام) هي من هذا البيت الرفيع: بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومعدن العلم، وأهل بيت الوحي، فلا عجب أن تكون قد نالت درجة الإلهام فهي إذن ملهمة بصريح كلام ابن أخيها الإمام السجاد (عليه السلام) حين قال لها: (يا عمة … أنت بحمد الله عالمة غير معلمة) إذ لا يكون العلم بلا تعلّم إلا عن طريق الإلهام.
وقد ظهر من السيدة زينب (عليها السلام) ما يدل على علمها وفهمها وذلك في مواقع و مواقف:
ما كان منها (عليها السلام) حينما كانت حاضرة عند أبيها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وقد أجلس العباس (عليه السلام) وهو صبي في حجره وقال له: قل واحد.
فقال: واحد.
فقال له: قل اثنين، فامتنع وقال: إني استحيي أن أقول اثنين بلسان قلت به واحدا،
وهنا التفتت زينب (عليها السلام) إلى أبيها وكانت هي أيضا صغيرة وقالت: أتحبنا يا أبه؟.
فأجابها أمير المؤمنين (عليه السلام) برأفة: بلى يا بنية.
فقالت: لا يجتمع حبان في قلب مؤمن حب الله وحب الأولاد، وإن كان ولابد فالحب لله تعالى والشفقة للأولاد، فأعجبه (عليه السلام) كلامها وزاد في حبه وعطفه عليها).
وإذا تأمّل هذا الكلام المتأمل رأى فيه علماً جماً، فإذا عرف صدوره من طفلة كزينب (عليها السلام) يوم ذاك، بانت له منزلتها في العلم والمعرفة.
وما كان منها: في زمن أبيها أمير المؤمنين(عليه السلام) من مجلس درسها في الكوفة، فقد جاء في بعض المصادر أنها (عليها السلام) كانت تدير في بيتها أيام خلافة أبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) الظاهرية في الكوفة مجلساً نسائياً يحضره نساء أهل الكوفة تفسّر لهن فيه القرآن، وقد كان درسها في أحد الأيام تفسير قوله تعالى (كهيعص)(5) وفي الأثناء دخل عليها أمير المؤمنين (عليه السلام) واطلع على موضوع تفسيرها، فقال لها بعد ذلك: نور عيني زينب سمعتك تفسّرين قوله تعالى: (كهيعص)(6) للنساء، فقالت: نعم يا أبه فدتك ابنتك.
فقال لها: يا نور عيني إن هذه الآية الكريمة ترمز الى المصائب التي سوف ترد عليكم أهل البيت، ثم ذكر لها بعض ما سيجري عليهم من المصائب والرزايا فضجت السيدة زينب (عليها السلام) بالصراخ والعويل وأجهشت بالبكاء والنحيب، وهذا منها (عليها السلام) مع أنه كان فقط تذكاراً لعلمها بما سيجري عليهم، يدل على عظم المصاب وشدة وقعه، فكيف بها (عليها السلام) وهي تواجه كل تلك المصائب العظيمة والرزايا الجليلة وجها بوجه.
وما كان منها: في نيابتها الخاصة عن الحسين (عليه السلام) حيث كان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى برئ زين العابدين (عليه السلام) من مرضه. كما رواه الصدوق محمد بن بابويه.
وما كان منها (عليها السلام): عند ما مروا بالأسرى على قتلاهن، فإنها (عليها السلام) صاحت من بين كل السبايا قائلة: (يا محمداه ! هذا حسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذريتك مقتّلة) فأبكت كل عدو و صديق حتى جرت دموع الخيل على حوافرها، ثم بسطت يديها تحت بدنه المقدس ورفعته نحو السماء وقالت: (إلهي تقبل منا هذا القربان)(7).
وهذا ما لا يستطيع قوله إلا مثل زينب (عليها السلام) العالمة غير المعلمة، والتي كانت قد تعهدت لله تبارك وتعالى أن تشارك نهضة أخيها الإمام الحسين(عليه السلام) وتكون معه جنبا إلى جنب:
وتشاطرت هي والحسين بدعوة حتـم القضاء عليهما ان يندبا
هذا بمشتبك النصول وهـذه في حيث معترك المكاره في السبا
وما كان منها (عليها السلام): عند ما رأت ابن أخيها الإمام السجاد(عليه السلام) ـ وهو إمام الصبر ومعلمه ـ يجود بنفسه لما نظر إلى أهله كالأضاحي مجزرين وبينهم ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحالة تنفطر لها السماوات، وتنشق الأرض، وتخر منه الجبال هدّاً، فقالت له تسلّيه وتصّبره قائلة: مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي و أخوتي، فوالله إن هذا لعهد من الله إلى جدّك و أبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة، والجسوم المضرّجة، فيوارونها، وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يدرس اثره، ولا يمحى رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر، وأشياع الضلال في محوه و تطميسه، فلا يزداد إلا علواً)(
.
وقد تحقق كل ما قالته (عليها السلام) مع أنها أمور غيبية لا يطلع عليها أحد إلا من كان ملهماً من الله تعالى.
وما كان منها: ما أشار إليه الفاضل الدربندي وغيره: أنها عليها السلام كانت تعلم علم المنايا والبلايا، بل جزم في (أسراره) أنها (صلوات الله عليها) أفضل من مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم وغيرهما من فضليات النساء، ومن نظر في (أسرار الشهادة) رأى فيه من الاستنباطات والتحقيقات في حق زينب (صلوات الله عليها) ما هو أكثر بكثير.
1 - سورة المجادلة: الآية 11.
2 - بحار الانوار ج45 ص 138 ب 39 ح1.
3 - الاحتجاج ص305 فصل خطبة زينب بنت علي ابن ابي طالب (عليه السلام).
4 - الاحتجاج ص305 فصل خطبة زينب بنت علي ابن ابي طالب (عليه السلام).
5 - سورة مريم: الآية 1.
6 - سورة مريم: الآية 1.
7 - الكبريت الأحمر ج3 ص13.
8 - كامل الزيارات ص261.