المواجهة بين الإسلام والجبهة البيزنطية النصرانية
لقد وقف النصارى بالإجمال من الدعوة الإسلامية منذ البدء موقف العطف والتأييد أحياناً. وظلوا كذلك إلى اخر العهد المكي ولم يقع بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتكاك وعداء كما وقع مع اليهود في المدينة.
لكن هذا لم يمنع الكثرة من النصارى العرب ان تلعب دورها في العصر المدني بمواجهة الإسلام وتتخذ المواقف العدائية ضده على شتى المستويات بدفع من الدولة البيزنطية الرومانية.
ففي العصر المدني تمكن الإسلام من بناء دولته التي تتجاوز في سياساتها وعلاقاتها الحدود الاقليمية والقومية صوب العالم المحيط حيث تقبع الدولة البيزنطية وحلفاؤها العرب في الشمال وهم جميعاً محسوبون على المعسكر النصراني.
وبمرور الوقت واتساع نفوذ الإسلام شمالاً، ووصول أنباء انتصارته على الوثنية واليهودية إلى قبائل الشمال.. بدأ المعسكر البيزنطي وحلفاؤه يشعر بالخوف والخطر ويقوم ببعض التصرفات المعادية للإسلام والمسلمين، فبدأ مسلسل الصراع المسلح بين المسلمين والنصارى، وكانت أبرز المعارك على هذا الصعيد:
v معركة مؤتة.
v معركة تبوك.
معركة مؤتة:
كان الدافع لهذه المعركة هو الانتقام لحادثة مقتل الحارث بن عمير الأزدي مبعوث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك بصرى على يد شرحبيل بن عمرو الغسانيعامل هرقلفي مؤتة، فقد كان لهذه الحادثة وقع شديد على المسلمين وكان لابد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخذ موقفاً حاسماً ازاء المعتدي بعد هذا الموقف الغادر.
فجهز النبي صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً من ثلاثة الاف مقاتل بقيادة جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه، وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة وأمرهم بالانطلاق صوب الشمال، لتأديب القوى المعادية على فعلتها، وإشعارها بقوة الدولة الإسلامية وقدرتها على ردع الغادرين والمعتدين الذين يجدون في الحماية البيزنطية سبباً يدفعهم إلى الجرأة والعدوان.
وتشير الشواهد الصحيحة إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل القيادة لجعفر بن أبي طالب، ومن بعده لزيد بن حارثة، ومن بعدهما لعبد الله بن رواحة، وترك للجيش أن يختار لقيادته من يراه صالحاً إذا أصيب الثلاثة.
أعدَّ هرقل بعدما سمع نبأ التحرك الإسلامي جيشاً كثيفاً قوامه مئة ألف مقاتل وعسكر في ماب من أرض البلقاء.
ولما وصل المسلمون إلى منطقة معان جنوبي الأردن بلغتهم أخبار تلك الحشود.. فأقاموا ليلتين يتداولون الرأي بينهم وقال بعضهم: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنخبره بعدد عدونا، فاما أن يمدنا بالرجال واما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، وكاد هذا الرأي أن يتغلب لولا التربية الايمانية والمعنوية التي كان لها دورها في صنع القرار وتحديد الموقف في اللحظات الحرجة حيث وقف عبد الله بن رواحة وقال بكل إيمان وقوة وشجاعة: (يا قوم، والله.. ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فانما هي إحدى الحسنيين: اما ظهور واما شهادة) .
فكان لهذه الكلمات أثرها الطيب على تلك النفوس المؤمنة المجاهدة، فصمموا على المضي والقتال مهما كانت النتائج.
غادر المسلمون معسكرهم في معان وانطلقوا شمالاً حتى إذا بلغوا تخوم البلقاء
لقيتهم جموع الروم وحلفاؤهم العرب في قرية تدعى مؤتة، وهناك دارت معركة طاحنة بين الطرفين. استشهد خلالها القادة الثلاثة على التوالي، فقرر خالد بن الوليد الذي تولى قيادة الجيش الانسحاب والعودة إلى المدينة.
غزوة تبوك:
بعد عودة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة في أواخر السنة الثامنة في أعقاب دخول مكة وانتصاره في حنين، بلغته أنباء خطيرة عن تحركات عسكرية خطيرة يعتزم الروم وحلفاؤهم العرب من لخم وجذام وغسان، القيام بها ضد الإسلام والمسلمين، وقد قامت هذه القبائل فعلاً بإرسال طلائعها إلى البلقاء، فقرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتصدى لهم.
وفي معظم الغزوات كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحدد هدفه العسكري زيادة في الكتمان والسرية بل انه كان يعلن عن أهداف غير تلك التي يقصدها لتضليل الأعداء، أما في غزوة تبوك فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدف للناس "بعد الشقة وكثرة العدو، ليتأهب الناس لذلك أهبته".
فأرسل إلى القبائل المسلمة في مختلف المناطق يعلمهم بما عزم عليه ويستنهضهم للجهاد معه، فأجابوا دعوته إلا المنافقين، فإنهم راحوا يختلقون الأعذار الواهية حتى لا يخرجوا لقتال الروم، وقد حكى القران عنهم ذلك فقال تعالى: ?... وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ?1.
ثم تمادى المنافقون في موقفهم، فلم يكتفوا بتخلفهم عن الجهاد بل راحوا يثبطون الناس عنه ويحرضون على التخلف والتخاذل، وقد اجتمعوا لهذه الغاية في بيت أحد اليهود، فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم، فحرق عليهم الدار وكانوا عبرةً لغيرهم.
استكمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجهيز المسلمين وولى علياً عليه السلام إدارة المدينة وقال له: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" ثم ما لبث ان انطلق صلى الله عليه وآله وسلم في رجب من السنة التاسعة بأكبر جيش عرفه تاريخ الدعوة إلى ذلك الحين، قيل إنه بلغ ثلاثين ألفاً، تصحبه عشرة الاف فرس.
بدأ المسلمون مسيرتهم التي قطعوا فيها الاف الأميال، وعانوا الام العطش والجوع والحرّ وقلة وسائل الركوب وبُعد الطريق.. حتى انتهى بهم المطاف إلى تبوك في أقصى الشمال، ويبدو أن الروم وحلفاءهم سمعوا أنباء هذا الجيش الكبير، وقدرته على اجتياز المصاعب، وإصراره على جهاد الأعداء، وقدّروا انه لو انتصر في هذه المعركة فسوف لا يقف عند حد، وبالتالي قد تتعرض مواقعهم للخطر، فاثروا الانسحاب إلى الداخل، عبر أراضي الأردن وفلسطين، وربما كانوا يهدفون من ذلكفي الوقت نفسهجرَّ المسلمين إلى الداخل والانقضاض عليهم هناك. إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتح لهم تحقيق هدفهم هذا وقرر عدم التوغل إلى الداخل، وعسكر في تبوك جاعلاً أياها اخر نقطة في توغله شمالاً.
بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبوك حوالى عشرين يوماً يراقب تحركات الروم من دون أن يقاتل أحداً، وأخذ يتصل في الوقت نفسه بزعماء القبائل النصرانية المنتشرة في المنطقة المتاخمة للحدود، وعقد مع بعضهم معاهدات صلح وتعاون، فقطع بذلك ولاءهم للدولة البيزنطية وحولهم إلى مواطنين أو حلفاء للدولة الإسلامية، وهو الهدف الذي كان يسعى إلى تحقيقه منذ بدء صراعه مع الروم.
نتائج تبوك وملامح الانتصار:
وبعد عشرين ليلة قضاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقواته في تبوك، قفل عائداً إلى المدينة بعد أن حقق بحركته الصعبة تلك انتصاراً على الجبهة النصرانية البيزنطية، لا يقل أهمية عن انتصاراته الحاسمة على جبهات الوثنية واليهودية، وهذه أبرز ملامح الانتصار:
1- فقد كسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدداً من القبائل القاطنة في جنوب الشام على الحدود إلى جانب الدولة الإسلامية، وقطع علاقاتها بالروم، وحصل منها على عهد بأن لا تتعاون مع أحد عليه ولا تتخذ من بلدانها مركزاً للعدوان على الحجاز، وبذلك ضمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمن المسلمين وحدود دولتهم.
2- والانتصار الأهم هو أن استجابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لتحدي الروم، وتقدمه لقتالهم وانسحابهم من طريقه وانتظاره إياهم قرابة عشرين يوماً دون أن يحركوا ساكناً، جاء ضربة قاسية للسيادة البيزنطية في بلاد الشام، وإضعافاً لمركزها وهيمنتها على القبائل
التي تعيش هناك، وكسراً لجدار الخوف من القوة البيزنطية، وهو إنتصار نفسي حاسم مكّن أهالي البلاد، بعد سنين قليلة، من تجاوز ولائهم القديم والإنطلاق لضرب البيزنطيين وإلحاق الهزائم بهم وطردهم إلى بلادهم التي جاؤوا منها.
3- صعود سمعة المسلمين ومكانتهم وهيبتهم داخل الحجاز وخارجها بحيث ان القبائل كانت تتأرجح بين تأييد الروم التي شعرت بمدى قوة الدولة الجديدة وامتداد نفوذها حتى إلى قلب الديار التي كان أهلها يعملون لصالح الروم، فبادرت هذه القبائل إلى حسم خيارها وأخذت تتهافت على الرسول في المدينة بعد رجوعه من تبوك خاضعة مذعنة معلنة إسلامها وتأييدها، حتى سمي ذلك العام (التاسع) بعام الوفود.
4- ان غزوة تبوك تمثل خطوة من خطوات حركة المسلمين باتجاه الخارج، وتخطياً لنطاق العرب وجزيرتهم إلى العالم، وبادرة متقدمة مهدت الطريق لحركة الفتوحات الإسلامية التي شهدتها العصور التالية لعصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي غزوة تبوك أكثر من موقف ودرس وعبرة نذكر هنا أبرزها:
1- ميزت غزوة تبوك مرة أخرى المنتمين إلى معسكر الإسلام، فكشفت المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد لأعذار واهية ومحصتهم عن المؤمنين المجاهدين الذين سارعوا للإنخراط في الجيش الإسلامي رغبة في الجهاد وعشقاً للشهادة.
وقد ذكر المفسرون أن عدداً من ايات سورة التوبة2 نزلت بمناسبة تبوك، مقَارِنَةً بين موقف المنافقين وموقف المؤمنين من الجهاد، وفاضحةً المنافقين وأساليبهم، مُحذِّرةً من مكرهم ومؤامراتهم، مشددةً على عدم التساهل معهم أو الاستعانة بهم أو قبول أعذارهم.
2- في الوقت الذي تخلف فيه البعض عن الجهاد في تبوك ملتمسين الأعذار الواهية، كان البعض من الفقراء المجاهدين تفيض أعينهم من الدمع لأنهم لم يتمكنوا من الخروج إلى الجهاد بسبب عدم امتلاكهم لمؤنته وامكاناته.
وقد ورد أن سبعة من فقراء المسلمين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوسلوا إليه أن يهيء لهم ما يُمكّنهم من الخروج معه شوقاً إلى الجهاد في سبيل الله. فأجابهم: لا أجد ما
أحملكم عليه، فتولوا عنه وأعينهم تفيض من الدمع حزناً وأسفاً لحرمانهم من شرف المشاركة، وأنزل الله بهذه المناسبة قوله تعالى: ?لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ?3.
3- شارك المسلمون الأغنياء في تجهيز الجيش الإسلامي والإنفاق عليه حتى "أن الرجل كان يأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تتعاقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج"، بل ورد أيضاً أن النساء ساهمنَّ بحليهنَّ في تبوك وشاركنَّ الرجال في النفقة، حيث اشتركنَّ بكل ما قدرنَّ عليه من مسك، وأسورة ومعاضد، وخلاخيل، وقراط، وخواتيم4.
4- إن اختيار علي عليه السلام بالذات ليكون مكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة يدير شؤونها في غيابه، كان إجراءاً ضرورياً يستهدف حماية المدينة وحفظ كيانها من المنافقين والأعراب الذين تخلفوا عن تبوك بأعداد كبيرة وكان من المحتمل أن يستفيدوا من فرصة غياب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للانقضاض على المدينة والعبث بأمنها، فكانت الدولة بحاجة إلى شخصية مرهوبة الجانب تملك كفأة القيادة والولاية، ولا تحسب لأحد حساباً مهما بلغ من القوة والمكانة، وتقف سداً منيعاً في وجه كل من يحاول التامر أو العبث بأمن الدولة وكيانها، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بأنه لا يصلح لمهمة كهذه غير علي عليه السلام، وقد قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما جاء في مستدرك الصحيحين: "إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك".
هوامش
1- التوبة:81.
2- راجع سورة التوبة الايات: 81-82 -83-86-87-88-89-94-95-96.
3- التوبة:91-92.
4- أنظر، الواقدي، المغازي: ج3، ص991.
5- تهذيب سيرة ابن هشام ص241.