ذهاب السيّدة زينب (عليها السّلام) إلى المعركة
ولمّا سقط الإمام الحسين (عليه السّلام) على الأرض خرجت السيّدة زينب من باب الخيمة نحو الميدان ، وهي تنادي : وا أخاه ! وا سيّداه ! وا أهل بيتاه ! ليت السماء أُطبقت على الأرض ! وليت الجبال تدكدكت على السهل !
ثمّ وجّهت كلامها إلى عمر بن سعد ، وقالت : يابن سعد ، أُيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟!
فلم يجبها عمر بشيء .
فنادت : ويحكم ! ما فيكم مسلم ؟!(1)
فلم يجبها أحد بشيء .
ثمّ انحدرت نحو المعركة وهي تركض مسرعةً ، فتارةً تعثر
ــــــــــــــــــــ
(1) وفي نسخة : أما فيكم مسلم ؟!
----------------------------
بأذيالها ، وتارةً تسقط على وجهها من عظم دهشتها حتّى وصلت إلى وسط المعركة ، فجعلت تنظر يميناً وشمالاً ، فرأت أخاها الحسين (عليه السّلام) مطروحاً على وجه الأرض وهو يخور في دمه ، ويقبض يميناً وشمالاً ، ويجمع رجلاً ويمدّ اُخرى ، والدماء تسيل من جراحاته ، فجلست عنده وطرحت نفسها على جسده الشريف ، وجعلت تقول :
أأنت الحسين ؟!
أأنت أخي ؟!
أأنت ابن اُمّي ؟!
أأنت نور بصري ؟!
أأنت مهجة فؤادي ؟!
أأنت حمانا ؟!
أأنت رجانا ؟!
أأنت ابن محمّد المصطفى ؟!
أأنت ابن علي المرتضى ؟!
أأنت ابن فاطمة الزهراء ؟!(1)
ــــــــــــــــــــ
(1) أقول : يحتمل أنّ السيّدة زينب قالت هذه الكلمات بصيغة السؤال ، ومن منطلق الاستغراب ؛ حيث رأت أخاها العزيز وهو بتلك الحالة المؤلمة ، خاصةً وإنّها عارفة بعظمته ، وجلالة قدره . =
---------------------------------
كلّ هذا والإمام الحسين لا يردّ عليها جواباً ؛ لأنّه كان مشغولاً بنفسه ، وقد استولى عليه الضعف الشديد بسبب نزف الدم وكثرة الجراحات .
فقالت : أخي ، بحقّ جدّي رسول الله إلاّ ما كلمتني ، وبحقّ أبي علي المرتضى إلاّ ما خاطبتني ، وبحقّ اُمّي فاطمة الزهراء إلاّ ما جاوبتني . يا ضياء عيني كلّمني . يا شقيق روحي جاوبني .
فعند ذلك جلست خلفه ، وأدخلت يديها تحت كتفه وأجلسته حاضنةً له بصدرها ، فانتبه الإمام الحسين من كلامها ، وقال لها بصوت ضعيف : (( اُخيّه زينب ، كسرتي قلبي ، وزدتيني كرباً على كربي ، فبالله عليك إلاّ ما سكنتِ وسكتِّ )) .
فصاحت : وا ويلاه ! يا أخي وابن اُمّي ، كيف أسكن وأسكت وأنت بهذه الحالة تعالج سكرات الموت ؟! روحي لروحك الفداء ، نفسي لنفسك الوقاء .
ـــــــــــــــــ
= ويُحتمل أنّها قالت هذه الكلمات لا بصيغة السؤال أو منطلق الاستغراب ، بل من منطلق العاطفة والحنان ، ولعلها تحصل على كلمة جوابية منه (عليه السّلام) فتعلم أنّه لا زال حيّاً . المحقّق .
------------------------------------
فبينما هي تخاطبه ويخاطبها وإذا بالسوط يلتوي على كتفها ، وقائل يقول : تنحّي عنه وإلاّ ألحقتك به . فالتفت وإذا هو شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله) .
فاعتنقت أخاها وقالت : والله لا أتنحى عنه ، وإن ذبحته فاذبحني قبله .
فجذبها عنه قهراً ، وقال : والله إن تقدّمتِ إليه لضربت عنقك بهذا السيف .
ثمّ جلس اللعين على صدر الإمام ، فتقدّمت السيّدة زينب إليه ، وجذبت السيف من يده ، وقالت : يا عدو الله ، ارفق به ؛ لقد كسرت صدره ، وأثقلت ظهره ، فبالله عليك إلاّ ما أمهلته سويعةً لأتزوّد منه .
ويلك ! أما علمت أنّ هذا الصدر تربى على صدر رسول الله وصدر فاطمة الزهراء ؟!
ويحك ! هذا الذي ناغاه جبرئيل ، وهزّ مهده ميكائيل . دعني اُودّعه ، دعني اُغمّضه .
فلم يعبأ اللعين بكلامها ، ولا رقّ قلبه عليها(1) .
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب ( تظلّم الزهراء ) للسيّد رضي بن نبي القزويني / 232 ، طبع بيروت ـ لبنان ، عام 1420 هـ .
----------------------------------
ويُستفاد من بعض كتب المقاتل أنّ السيّدة زينب (عليها السّلام) لم تكن هناك حين مجيء الشمر ، بل أسرعت إلى المخيّم ، امتثالاً لأمر الإمام الحسين (عليه السّلام) حيث أمرها بالرجوع إلى الخيام .
ووقعت الفاجعة العظمى والرزيّة الكبرى ، ألا وهي : مقتل الإمام المظلوم أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ؛ فبدأت الأرض ترتجف تحت أرجل الناس ، وانكسفت الشمس ، وأمطرت السماء دماً عبيطاً(1) وتراباً أحمر .
فأقبلت العقيلة زينب إلى مخيّم الإمام زين العابدين (عليه السّلام) وقالت : يابن أخي ، ما لي أرى الكون قد تغيّر ، والشمس منكسفة ، والأرض ترجف ؟!
فقال لها : (( يا عمّة ، أنا عليل مريض لا أستطيع النهوض ، ارفعي جانب الخيمة ، وسنّديني إلى صدرك لأنظر ما الذي جرى )) .
فنظر إلى المعركة وإذا بفرس أبيه الحسين (ع) يجول في الميدان ؛ خالي السرج وملقى العنان ، ورأى رمحاً عليه رأس الإمام الحسين (ع) ، فقال : (( يا عمّة ، اجمعي العيال والأطفال ؛ لقد قُتل أبي
ــــــــــــــــــــ
(1) الدم العبيط : هو الدم الطري غير المتخثر .
----------------------------------
الحسين ، قُتل أسد الله الباسل ، قُتل ابن سيّد الأوصياء ، قُتل ابن فاطمة الزهراء )) . ثم غُشي عليه وسقط على الأرض مكبوباً على وجهه .
فأخذت السيّدة زينب رأسه ووضعته في حجرها ونادت : اجلس تفديك عمّاتك . اجلس تفديك أخواتك . اجلس يا بقيّة السلف . اجلس يا نعم الخلف .
وهو لا يجيب نداها ولا يسمع شكواها ، فعند ذلك انكبت عليه ، ومسحت التراب عن خدّيه ، ونادت : يا زين العباد ، يا مهجة الفؤاد . ففتح عينيه(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) كتاب ( تظلّم الزهراء ) / 233 ـ 234 .
من كتاب زينب الكبرى (عليها السّلام) من المهد إلى اللحد
بقلم المرحوم السيد محمّد كاظم القزويني