عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: لَيْسَ حُسْنُ الْجِوَارِ كَفَّ الأَذَى وَ لَكِنَّ حُسْنَ الْجِوَارِ صَبْرُكَ عَلَى الأَذَى. الكافي: ج2 ص667 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آهل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين ..... لقد اهتمت الشريعة الإسلامية بالجار ووضعته في مكانة عالية فالاحاديث تلهج بالاحسان الى الجار وتحث على مداراته وتؤكد على ان حسن الجوار من اخلاق الإسلام وما ذلك إلا معالجة لظاهرة اجتماعية تؤثر على الحياة العامة، فان الاسلام وضع بعض الامور المستحبة التي ترقى بالمجتمع الى افضل المستويات المرجوة ولترفع الإنسان الى أعلى مراتب الكمال. كما إن هذه المسألة واقع نعيشه كلنا يعاني منها المجتمع ويتحسن المجتمع بتحسنها ويسوء تبعا لها، فمسألة حق الجار عنيت باهتمام الشارع بشكل كبير واخذ الله تبارك وتعالى يوصي به بكثرة لكي يعتاد الناس على الخضوع والخنوع لهذه التوصيات ومن ثم تصبح هناك ملكة ـ على الاقل عند المؤمنين ـ احترام الجار وبها يصل المجتمع الى مجتمع انساني قائم على اساس الانسانية والمحبة بين افراده ، فكم من جار اثّر على جاره فغير اخلاقه وكم من جار رأى تصرف جاره وهداه الله على يديه واي هناك العكس ايضا فالتأثيرات السلبية لحق الجوار وصلت الى بعض المتدينين وخرجوا عن طورهم الذي وصاهم الشارع المقدس به ليسيطر الغضب على نفسه ويجعل للشيطان على نفسه سبيلا. ويشير السيد مهدي الصدر في كتابه أخلاق اهل البيت الى ذلك حيث يقول: (لقد جهد الاسلام في حث المسلمين وترغيبهم في التآزر والتعاطف ، ليجعلهم أمة مثالية في اتحادها وتعاضدها على تحقيق أهدافها ، ودفع الأزمات والاخطار عنها . ودأب على غرس تلك المفاهيم السامية في نفوس المسلمين ليزدادوا قوة ومنعة وتجاوبا في أحاسيس الود ومشاعر الإخاء . (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )(الفتح: من الآية29) ،(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة: من الآية2) وكان من ذلك تحريض المسلمين على حسن الجوار ورعاية الجار ، لينشئ من المتجاورين جماعة متراصة متعاطفة تتبادل اللطف والإحسان ، وتتعاون على كسب المنافع ودرء المضار ، ليستشعروا بذلك الدعة والرخاء والقوة على معاناة المشاكل والأحداث)(اخلاق اهل البيت: ص459)
اما القرآن فإنه يؤكد على الاحسان الى الجار حيث يقول تبارك وتعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) (النساء:36) فهنا القرآن يذكر وينبه على الجار والإحسان اليه وما ذلك إلا لعظم هذه المنزلة على الله تبارك وتعالى ويؤيد ذلك كثرة ما وصى به النبي صلى الله عليه وآله بالجار حيث روي عنه انه قال : (ما زال جبرائيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) (من لا يحضره الفقيه:ج4 ص13) . فلا بد وان يكون الجار وحسن الجوار من الأمر بالأهمية بحيث يؤكد عليه هذا الملك الكريم تكرارا ومرارا على قلب الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله. وعنه صلى الله عليه وآله : حسن الجوار يعمر الديار ، وينسئ في الأعمار (الوافي ج 3 ص 96 ) . فهذا الحديث يذكرنا بالأثر التكويني المترتب على حسن الجوار فان به تعمر البلدان وما ذلك الا لزيادة المحبة والروابط بين الناس فيغض كل منهم عن أذى الاخر ويهتم بشؤونه، بل وجعل الإحسان الى الجوار مثل صلة الرحم من حيث الأثر فكما ان صلة الرحم تطيل العمر كذلك الإحسان الى الجار. وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع ، وما من أهل قرية يبيت فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة (الوافي ج 3 ص 96) . فهنا الحديث النبوي ينفي الإيمان ـ نستجير بالله ـ عن الشخص الذي لا يهتم لشؤون جاره فيشبع وجاره جائع بل يشمل العقاب لكل القرية التي فيها جائع، فما بات أهل قرية وفي قريته جائع فان الله تعالى لا ينظر إليهم ( أي لا يرحمهم) يوم القيامة (طبعا مع العلم بان لديه جار جائع). وعنه عليه السلام: من طلب الرزق في الدنيا ، استعفافا عن الناس ، وسعيا على أهله ، وتعطفا على جاره لقي الله عز وجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر (التهذيب : ج6 ص324). ما أروعها من أحاديث فالذي يتعطف على جاره ويحسن إليه يصل إلى درجة إن وجهه في يوم القيامة يكون كالقمر في ليلة تمامه وكماله. وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره (الوافي ج 3 ص 96) . فهنا يؤكد الإمام عليه السلام على ان الاهتمام بالجوار وحقوقه مدعاة لان يكون الانسان من افضل الناس في الدنيا والآخرة ألا وهم أهل البيت عليهم السلام. وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: ان يعقوب لما ذهب منه بنيامين نادى يا رب أما ترحمني ، أذهبت عيني ، وأذهبت ابني . فأوحى الله تعالى إليه : لو أمتهما لأحييتهما لك حتى أجمع بينك وبينهما ، ولكن تذكر الشاة التي ذبحتها ، وشويتها وأكلت ، وفلان إلى جانبك صائم لم تنله منها شيئ (الوافي ج 3 ص 96) . وفي رواية أخرى قال: وكان بعد ذلك يعقوب ينادي مناديه كل غداة من منزله على فرسخ ، ألا من أراد الغداء فليأت إلى يعقوب . وإذا امسى نادى : ألا من أراد العشاء فليأت إلي يعقوب (المصدر السابق) . فانظر الى هذه المسألة البسيطة ماذا اورثت ؟ لقد اورثت حزنا عميقا على قلب نبي الله يعقوب على نبينا وآله وعليه السلام هذا النبي المعصوم الذي لم يرتكب شيئا خلاف العصمة بل نسي ان له جاراً صائماً فاكل ولم يذكره فابتلاه الله بالابتلاءات التي يذكرها ارباب السير حتى عُد من البكائين الخمسة الذين قد ضرب بهم المثل في البكاء. قصة مفيدة في المقام: إن رجلا كان جارا لأبي دلف ببغداد ، فأدركته حاجة ، وركبه دين فادح حتى احتاج إلى بيع داره ، فساوموه فيها ، فسمى لهم الف دينار ، فقالوا له : إن دارك تساوي خمسمائة دينار . فقال : أبيع داري بخمسمائة ، وجوار أبي دلف بخمسمائة ، فبلغ أبا دلف الخبر ، فأمر بقضاء دينه ووصله ، وقال : لا تنتقل من جوارنا .(أخلاق أهل البيت: ص 460 – 461) فهذه القصة تحدثت عن مسألة واقعية حيث يتعارف في بعض البلدان ان الذي يريد ان ينتقل الى محلة ما يسأل عن جاره فيقال ان الجار قبل الدار. من هو الجار: قد يبقى الانسان متحيرا في ان الجار على من يصدق هل هو الملاصق للبيت ام هو في نفس الزقاق ام هو في نفس المحلة فعلى من يصدق الجار؟ يجيب النبي صلى الله عليه وآله على هذا التساؤل حيث يروى عن الامام الصادق عليه السلام في تفسير الآية المتقدمة : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : كل أربعين دارا جيران من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله.(الوسائل : ج12 ص132) واما حقوق الجار : فهي وان كانت كثيرة لكن نذكر منها : مواساته ومعونته في الشدة وان لا يبيت شبعانا وجيرانه جائع ( كما ورد في الحديث) فيعرض الطعام له وان كان غير مسلم ، ونصيحته وعيادته في مرضه وتعزيته في المصائب وكف الاذى عنه بل الصبر على أذاه كما ورد في الحديث في مقدمة المحاضرة واعانته ماديا ... الى غير ذلك مما يعد احسان للجار . ويذكرها الإمام زين العابدين في صحيفته المباركة حيث يقول سلام الله عليه: وأما حق جارك : فحفظه غائبا ، وإكرامه شاهدا ، ونصرته إذا كان مظلوما ولا تتبع له عورة ، فإن علمت عليه سوء سترته عليه ، وأن علمت أنه يقبل نصيحتك نصحته في ما بينك وبينه ، ولا تسلمه عند شدائده ، وتقبل عثرته ، وتغفر ذنبه ، وتعاشره معاشرة كريمة ، ولا قوة إلا بالله . (الصحيفة الكاملة صفحة629-630). فمن يرى كل هذه الاحاديث والروايات المباركة في الطلب للاحسان الى الجار فلا بد ان يحصل له نوع من الشعور باهمية هذا الامر والسير على نهجه. فعلينا ان ننتبه لعظم هذه المسألة ونكون دعاة الى الله بغير السنتنا بل بأخلاقنا وتصرفاتنا لعل ذلك فيه هداية لجيراننا ـ وان لم يكونوا مسلمين ـ لينهلوا من منهل أهل البيت العذب فيصلوا الى رحمة الله الواسعة . اللهم وفقنا لما تحب وترضى واجعل اعمالنا مقبولة عندك وأحسن عواقب امورنا يا ارحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين. |