ولما سقط الإمام الحسين ( عليه السلام ) على الأرض خرجت السيدة زينب من باب الخيمة نحو الميدان ، وهي تنادي : وا أخاه ، واسيداه ، وا أهل بيتاه ، ليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل.
ثم وجهت كلامها إلى عمر بن سعد ، وقالت : يا بن سعد ! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟!
فلم يجبها عمر بشيء.
فنادت : ويحكم !! ما فيكم مسلم ؟! (1)
فلم يجبها أحد بشيء.
ثم انحدرت نحو المعركة وهي تركض مسرعةً ، فتارةً تعثر
1 ـ وفي نسخة : أما فيكم مسلم ؟
بأذيالها ، وتارةً تسقط على وجهها من عظم دهشتها حتى وصلت إلى وسط المعركة ، فجعلت تنظر يميناً وشمالاً ، فرأت أخاها الحسين ( عليه السلام ) مطروحاً على وجه الأرض ، وهو يخور في دمه ، ويقبض يميناً وشمالاً ، ويجمع رجلاً ويمد أخرى ، والدماء تسيل من جراحاته ، فجلست عنده وطرحت نفسها على جسده الشريف ، وجعلت تقول :
ءأنت الحسين ؟!
ءأنت أخي ؟!
ءأنت ابن أمي ؟!
ءأنت نور بصري ؟!
ءأنت مهجة فؤادي ؟!
ءأنت حمانا ؟!
ءأنت رجانا ؟!
ءأنت ابن محمد المصطفى ؟!
ءأنت ابن علي المرتضى ؟!
ءأنت ابن فاطمة الزهراء ؟ (1)
1 ـ أقول : يحتمل أن السيدة زينب قالت هذه الكلمات بصيغة السؤال ..
ومن منطلق الإستغراب حيث رأت أخاها العزيز وهو بتلك الحالة المؤلمة ، خاصةً .. وأنها عارفة بعظمته ، وجلالة قدره.
كل هذا ، والإمام الحسين لا يرد عليها جواباً ، لأنه كان مشغولاً بنفسه ، وقد استولى عليه الضعف الشديد بسبب نزف الدم وكثرة الجراحات.
فقالت : أخي ! بحق جدي رسول الله إلا ما كلمتني ، وبحق أبي : علي المرتضى إلا ما خاطبتني ، وبحق أمي فاطمة الزهراء إلا ما جاوبتني.
يا ضياء عيني كلمني.
يا شقيق روحي جاوبني.
فعند ذلك جلست خلفه ، وأدخلت يديها تحت كتفه وأجلسته حاضنةً له بصدرها.
فانتبه الإمام الحسين من كلامها ، وقال لها ـ بصوت ضعيف ـ : « أخيه زينب ! كسرتي قلبي ، وزدتيني كرباً على كربي ، فبالله عليك إلا ما سكنت وسكت ».
فصاحت : « وايلاه ! يا أخي وابن أمي ، كيف أسكن وأسكت ، وانت بهذه الحالة ، تعالج سكرات الموت ؟!
روحي لروحك الفداء ! نفسي لنفسك الوقاء ».
ويحتمل أنها قالت هذه الكلمات لا بصيغة السؤال أو منطلق الإستغراب ، بل من منطلق العاطفة والحنان ، ولعلها تحصل على كلمة جوابية منه ( عليه السلام ) فتعلم أنه لا زال حياً. المحقق
)
فبينما هي تخاطبه ويخاطبها ، وإذا بالسوط يلتوي على كتفها ، وقائل يقول : تنحي عنه ، وإلا الحقتك به ، فالتفت وإذا هو شمر بن ذي الجوشن ( لعنه الله ).
فاعتنقت أخاها ، وقالت : والله لا أتنحى عنه ، وإن ذبحته فأذبحني قبله.
فجذبها عنه قهراً ، وقال : والله إن تقدمت إليه لضربت عنقك بهذا السيف.
ثم جلس اللعين على صدر الإمام ، فتقدمت السيدة زينب إليه ، وجذبت السيف من يده.
وقالت : يا عدو الله ! إرفق به لقد كسرت صدره ، واثقلت ظهره ، فبالله عليك إلا ما أمهلته سويعةً لا تزود منه.
ويلك ! أما علمت أن هذا الصدر تربى على صدر رسول الله وصدر فاطمة الزهراء ؟!
ويحك ! هذا الذي ناغاه جبرئيل ، وهز مهده ميكائيل ... دعني أودعه ، دعني أغمضه ، ... فلم يعبأ اللعين بكلامها ، ولا رق قلبه عليها. (1)
1 ـ كتاب « تظلم الزهراء » للسيد رضي بن نبي القزويني ، ص 232 ، طبع بيروت ـ لبنان ، عام 1420 هـ.
)
ويستفاد من بعض كتب المقاتل أن السيدة زينب ( عليها السلام ) لم تكن هناك حين مجيء الشمر ، بل أسرعت إلى المخيم ، إمتثالاً لأمر الإمام الحسين ( عليه السلام ) حيث أمرها بالرجوع إلى الخيام.
ووقعت الفاجعة العظمى والرزية الكبرى ، ألا وهي : مقتل الإمام المظلوم أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ).
فبدأت الأرض ترتجف تحت أرجل الناس ، وانكسفت الشمس ، وأمطرت السماء دماً عبيطاً (1) وتراباً أحمر.
فاقبلت العقيلة زينب إلى مخيم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وقالت : يا بن أخي : ما لي أرى الكون قد تغير ؟ والشمس منكسفة ؟ والأرض ترجف ؟!
فقال لها : يا عمة : أنا عليل مريض لا أستطيع النهوض إرفعي جانب الخيمة وسنديني إلى صدرك لا نظر ما الذي جرى !
فنظر إلى المعركة وإذا بفرس أبيه الحسين يجول في الميدان خالي السرج وملقى العنان ، ورأي رمحاً عليه رأس الإمام الحسين !
فقال يا عمة : إجمعي العيال والأطفال ، لقد قتل أبي
1 ـ الدم العبيط : هو الدم الطري غير المتخثر.
الحسين ، قتل أسد الله الباسل ، قتل إبن سيد الأوصياء ، قتل إبن فاطمة الزهراء ، ثم غشي عليه وسقط على الأرض مكبوباً على وجهه.
فأخذت السيدة زينب رأسه ووضعته في حجرها ونادت :
إجلس تفديك عماتك.
إجلس تفديك أخواتك.
إجلس يا بقية السلف.
إجلس يا نعم الخلف.
وهو لا يجيب نداها ، ولا يسمع شكواها ، فعند ذلك إنكبت عليه ومسحت التراب عن خديه ونادت : يا زين العباد ، يا مهجة الفؤاد ، ففتح عينيه ... (1)
1 ـ كتاب « تظلم الزهراء » ص 233