استعراض عام لأمر الإمامة
نبئوني بأسماء هؤلآء إن كنتم صادقين ﴾ (7) .
نحن لا نستطيع أن نفهم قضية دولة الإمام المهدي (ع) المنتظرة إلا إذا استعرضنا الأمر منذ البداية , منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الأرض وأراد أن تكون هناك خلافة إلهية على هذه الأرض وحكومة عدل إلهي فيها , فما كان من الملائكة إلا أنهم ظنوا أن هذه الخلافة ستكون منهم , فهم المعصومون من الزلل والخطأ ـ ومن هنا نفهم عظم معنى الخلافة الإلهية وأن مقامها عال جدا ـ وحينما أخبرهم سبحانه أنها ستكون من الجنس البشري كان استغراب الملائكة , لأن هذا المخلوق وحسب طبيعة تركيبه الخلقي وما فيه من غرائز وشهوات لا يمكنه أن يطبق العدل الإلهي ويقوم بأعباء الخلافة ورسالة السماء , وهنا أطلع سبحانه وتعالى الملائكة على أسماء علمها لآدم ، فما هذه الأسماء وما قصتها……..؟
حسب ما نفهمه من الآيات القرآنية في سورة البقرة بأن الملائكة - بعد عرض آدم (ع) للأسماء - اعترفوا بأحقيته للخلافة على الأرض وأنه أهل لذلك ، وأن هذا المخلوق باستطاعته أن يطبق خلافة الله كما ينبغي لها ، وأنه من الممكن أن يكون أفضل من الملائكة في هذا الجانب .
وحسب ما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآيات السابقة ( أنه عرض الخلق ) وعن مجاهد قال : ( عرض أصحاب الأسماء ) , وفي تفسير الجلالين : ( أن الملائكة قالوا في أنفسهم لم يخلق الله خلقا أكرم منا ولا أعلم , فخلق الله آدم وعلمه الأسماء كلها أي أسماء المسميات , وجاءت كلمة )هؤلاء( ـ وهي تخص العقلاء فقط ـ لتغليب العقلاء في هذه المسميات , وأن في ذرية آدم المطيعين لله فيظهر العدل بينهم ) .
وعن الصادق (ع) قال : ( إن الله تبارك وتعالى علم آدم أسماء حجج الله كلها ثم عرضهم - وهم أرواح - على الملائكة ) فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ( بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم (ع) ، قالوا ) سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ( ، قال الله تبارك وتعالى ) يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم ( وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته) (
وعن الإمام العسكري (ع) في تفسير قوله تعالى : ﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ﴾ قال: ( أسماء أنبياء الله وأسماء محمد (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهما، وأسماء خيار شيعتهم وعتاة أعدائهم ) ثم عرضهم ( عرض محمد وعلي والأئمة على الملائكة ـ أي عرض أشباحهم وهم أنوار في الأظلة ـ ) (9)
وهناك أحاديث تحمل دلالات أخرى فعـن أبي العباس عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن قول الله ) وعلم آدم الأسماء كلها ( ماذا علمه ؟ قال (ع) : ( الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال وهذا البساط مما علمه ) (10)
إذن نفهم من هذه التفاسير والروايات أن الله سبحانه وتعالى أخبر الملائكة أن هذا المخلوق لديه من القدرات والعلم بخواص جميع الأشياء والمواد وماهيتها و استخداماتها مما يساعده في العيش على الأرض , وأن في ذريته أشخاصاً هم أهل للخلافة وبإمكانهم تطبيق العدل الإلهي في الأرض والتضحية في سبيل الله والعمل لأجله بحيث يصبحوا أفضل من الملائكة .
بل إن بعض المفسرين قالوا بأن كلمة﴿ هؤلاء ﴾إنما تدل على العقلاء فقط ، وفي بعض الروايات أنها تخص محمد وآل محمد فقط ، وأن الله أخذ على آدم وجميع الأنبياء عليهم السلام الإيمان بمحمد وآل محمد والتبشير بالرسالة الخاتمة وان هذا العهد أو الإيمان هو شرط الخلافة في الأرض , لذلك نجد أن جميع الأنبياء يبشرون بالنبي محمد (ص) وبالمهدي من ولده وهناك الكثير من الروايات الدالة على ذلك .
فعن الجارود بن المنذر العبدي قال : قال لي رسول الله (ص) : ( يا جارود ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله عز وجل إلي أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا على ما بعثوا ؟ فقلت لهم : على ما بعثتم ؟ فقالوا : على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب (ع) والأئمة منكما ) (11) .
وعن المفضل بن عمر عن الصادق (ع) قال : ( سألته عن قول الله عز وجل : ﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن ، قال إني جاعلك للناس إماماً ، قال ومن ذريتي ، قال لا ينال عهدي الظالمين ﴾ (12) ما هذه الكلمات ؟
قال : هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه ، وهو أنه قال : يا رب أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي , فتاب الله عليه أنه هو التواب الرحيم . فقلت يا بن رسول الله : فما يعني عز وجل بقوله ) فاتمهن( قال : يعني فاتمهن إلى القائم اثنا عشرة إماما , تسعة من ولد الحسين ) (13) .
فينبغي أن نلاحظ هنا أن قوله تعالى ﴿ قال إني جاعلك للناس إماما ﴾ جاء مباشرة بعد قوله تبارك وتعالى ) بكلمات فأتمهن ( فإمامة نبي الله إبراهيم إنما كانت بعد اعترافه وتسليمه بالمعصومين من أهل بيت محمد (ص) ، ثم قال سبحانه بعد ذلك ﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ فهذا العهد والميثاق والخلافة لا تكون إلا للمعصومين فقط .
وعن أبي جعفر الباقر (ع) في تفسير قوله تعالى : ﴿ الذين يتبعون الرسول النبيّّّ الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ، فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾ (14) قال : ( يعني النبي والوصي والقائم عليهم السلام ، يأمرهم بالمعروف إذا قام وينهاهم عن المنكر ) ، وعن أبي عبد الله (ع) قال : ﴿ النور ﴾ في هذا الموضع هو أمير المؤمنين و الأئمة عليهم السلام ) (15) .
وعن أبي جعفر الباقر(ع) أيضاً في تفسير قوله تعالى : ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ﴾ (16)
قال (ع) : ( أخذ الميثاق على النبيين فقال ألست بربكم ؟ ثم قال وإن هذا محمد رسولي وإن هذا علي أمير المؤمنين ؟ قالوا : بلى فثبتت لهم النبوة ، وأخذ الميثاق على أولي العزم ألا إني ربكم ومحمد رسولي وعلي أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي ، وإن المهدي أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي وأُعبد به طوعاً وكرها ، قالوا أقررنا وشهدنا يا رب ، ولم يجحد آدم ولم يقر ، فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي ، ولم يكن لآدم عزم على الإقرار به ، وهو قوله عز وجل :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما ﴾ (17) (18) .
وعن أبي عبد الله (ع) في تأويل قوله تعالى : ﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدقٌ لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ، قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ، قالوا أقررنا ، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ﴾ (19) .
قال (ع) : ( ما بعث الله نبي من لدن آدم فهلم جرا إلا ويرجع إلى الدنيا وينصر أمير المؤمنين - أي في الرجعة - وهو قوله تعالى ﴿ لتؤمنن به ﴾ يعني رسول الله ﴿ ولتنصرنه ﴾يعني أمير المؤمنين ، ثم قال لهم في الذر ﴿ ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ﴾ أي عهدي ﴿ قالوا أقررنا ﴾ قال الله للملائكة ﴿ فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ﴾ ) (20) .
وعن كعب الأحبار قال ( إني لأجد المهدي مكتوباً في أسفار الأنبياء ما في حكمه ظلم ولا عنت ) (21) .
فمن هذه الروايات وهناك من أمثالها الكثير جداً ، نفهم أن الله سبحانه وتعالى أعد مشروعًا إلهيًا متكاملا يكون في نهاية المطاف في هذه الأرض ينتصر فيه الحق والعدل بحيث يبشر به جميع الأنبياء والرسل . . . . . . !
ويقول آية الله السيد محمد صادق الصدر (قدس) في هذا المعنى : ( إن إنكار المهدي (ع) في الحقيقة إنكاراً للغرض الأساسي من خلق البشرية والحكمة الإلهية من وراء ذلك ، مما قد يؤدي إلى التعطيل الباطل في الإسلام .
إذ أن الغرض من خلق البشرية هو إيجاد العبادة الكاملة في ربوع المجتمع البشري بقيادة الإمام المهدي (ع) في اليوم الموعود ، كما قال تعالى : ﴿ وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ﴾ (22) ، ونستنتج من هذه الآية أن الغرض والهدف الوحيد من الخليقة هو الحصول على الكمال العظيم المتمثـل في إيجاد الفرد الكامل والمجتمع الكامل والدولة العادلة التي تحكم المجتمع بالحق والعدل ، وذلك بقرينة وجود التعليل في قوله تعالى ﴿ ليعبدون ﴾ (23) .
ولنعد هنا إلى بداية الخليقة ونكمل استعراضنا للأحداث ، حيث أُهبط آدم إلى الأرض وكان هو خليفة الله في الأرض وحجته على خلقه واستمرت مسيرة الإنسانية والخلافة على الأرض ، وبدأ الصراع بين قوى الخير ورموزه المتمثلة في الأنبياء والأوصياء وقوى الشر ورموزه المتمثلة في الشيطان وجنوده ، وكان هناك الكثير من القتل والقتال والإفساد في الأرض وذلك منذ أن اقتتل ولدا آدم .
وفي كل زمان كان لابد من وجود خليفة وحجة لله على خلقه ، يمثل جانب الحق من الصراع وامتداداً لرسالة السماء ، وكلهم كانوا يبشرون بالشريعة الخاتمة وبدولة العدل الإلهي الموعودة التي سوف تطبق على الأرض في نهاية المطاف .
وكان الأنبياء والرسل يبشرون أصحابهم بأن نهاية الصراع سوف تكون للحق وللمؤمنين ، وأن وراثة الأرض هي لهم لا لغيرهم ، فلقد جاء في العهد القديم في فصل مزامير داوود : ( وسينقرض الأشرار وسيرث الأرض المتوكلون على الله تعالى ) وفيه أيضاً : ( ويرث الصديقون الأرض ويسكنون فيها إلى الأبد ) (24) .
ومما جاء في الكتب السماوية السابقة أيضاً : ( يقيم إله السماء مملكة لن تنقرض أبداً ، وملكها لا يترك لشعب لآخر ، تسحق وتفني كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد ……. طوبى لمن انتظر ) (25) .
وكما قال تعالى في القرآن الكريم :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ (26) .
وقال تعالى : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ﴾ (27) .
وعن الإمام علي بن الحسين (ع) في تفسير الآية السابقة قال : ( هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل الله ذلك بهم على يد رجل منا وهو مهدي هذه الأمة ، وهو الذي قال رسول الله (ص) : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ) (28) .
العودة للصفحة السابقة
- ويتبادر إلى الذهن هنا السؤال التالي وهو: لماذا لم يطبق هذا المشروع الإلهي الكبير منذ أول الوجود الإنساني على الأرض وفي بداية الخليقة ؟
والجواب أن هذا المشروع الإلهي الكبير لجميع الأرض أو دولة العدل الإلهي الموعودة لم يمكن تطبيقها من أول الوجود الإنساني على الأرض لعدة أسباب :-
أسباب تأخر تطبيق دولة العدل الإلهي في الأرض :-
أولاً :- استيعاب النظرية الإلهية :
لأن البشرية في ذلك الوقت لم تستوعب بعد النظرية الإلهية المتكاملة للعدل ، ولم تحدث فيها المفاسد وسفك الدماء وأشكال الظلم والمشاكل والفظائع التي حدثت في التاريخ فيما بعد على مر الدهور والأزمان ، فكيف تُطالب البشرية بتطبيق العدل وهي لا تعرف له معنى ، فهي لم تر الظلم لتعرف الأمر المعاكس له .
فلو قلنا لأحد ما مثلاً لا يجوز لك شرب الخمر وهو لم يرى خمراً أبداً في حياته ولا يعرف له معنى لكان طلبنا هذا غير منطقي .
ولهذا السبب أيضاً تم إدخال آدم (ع) الجنة فترة من الزمن ثم أُخرج منها فكان إدخاله فقط ليتعلم طريقة إغواء الشيطان ويتعرف على تلبيس إبليس عليه اللعنة ، إي فترة تعليمية قبل بدء مرحلة التكليف والمحاسبة على الأعمال .
و لذلك يعتقد الشيعة بعصمة آدم (ع) وأن مخالفته للأمر الإرشادي لم تكن معصية حيث لم يدخل بعد المرحلة العملية ، وإنما قال الله له ﴿ فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ﴾ (29) ، أي بالكد في الدنيا والتعب في العمل لتحصيل الرزق كما نصت على ذلك أكثر التفاسير بدليل قوله تعالى ) فتشقى ( ولم يقل سبحانه فتشقيا لأن الرجل هو الذي تجب عليه النفقة على زوجته وهو الذي يكد على عياله في العادة ، ثم أنه من الواضح من الآيات السابقة في سورة البقرة التي تتحدث عن إخبار الله سبحانه وتعالى الملائكة ﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ أن الله عز وجل خلق آدم من البداية ليعيش في الأرض لا في الجنة .
ثانياً :- ابتلاء البشر واختبارهم :
لأن الله سبحانه وتعالى جعل الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار للإنسان وأعطاه حرية الاختيار للطريق الذي يريد أن يسلكه في الحياة وفي الآخرة يثاب المحسن ويعاقب المسيء ، فلو أجبر سبحانه العباد منذ البداية على الطاعة والإيمان لانتفت الحكمة من هذا الاختبار ، ففي دولة المهدي (ع) تقل فرص الاختيار وتضيق الطرق على الملحدين والمنحرفين ، فإما أن يهتدي الشخص بمحض إرادته - خصوصاً بعد أن يرى دلائل صدق الإمام وعدله - أو يُجبر على الإسلام والطاعة رغماً عن أنفه ، أو عليه أن يختار الموت بسيف الإمام إذا ما أصر على عناده واستكباره ، كما قال سبحانه وتعالى : ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾ (30) .
وقوله تعالى :﴿ وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون ﴾ (31) .
فعن أبي عبد الله (ع) في تفسير الآية السابقة قال : ( إذا قام القائم عليه السلام لا يبقى أرض إلا نودي فيها بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ) (32) .
وعن حذيفة بن اليمان عن رسول الله (ص) قال : ( لو لم يبقى من الدنيا إلا يوم واحد لبعث الله فيه رجلاً اسمه اسمي وخلقه خلقي يكنى أبا عبد الله ، يع له الناس بين الركن والمقام ، يرد الله به الدين ويفتح له فتوحاً ، فلا يبقى على وجه الأرض إلا من يقول لا إله إلا الله ) (33) .
كما أن الله سبحانه جعل الحياة الدنيا مجال للصراع بين الخير والشر فكان لهذا جولة وللثاني جولة أخرى وهكذا ، وحتى الفترات التي انتصر فيها الحق بقيادة بعض الأنبياء عليهم السلام لم تستمر طويلاً إذ أعقبها عصور من الظلم والإفساد ، فكان لابد إذاً أن تكون الخاتمة للحق والعدل والانتصار للخير في نهاية الصراع فلا يقوم بعده للشر قائمه ، فلو كانت دولة الحق في منتصف الطريق ثم انتهت وجاءت بعدها دول الظلم فلا معنى لدولة العدل هذه وحينئذٍ ستكون جولة فقط في هذا الصراع الدائر بين الحق و الباطل .
فلابد إذاً أن تكون دولة العدل الإلهي هذه في نهاية المطاف وخاتمة للصراع وقبل قيام الساعة كما قال تعالى ﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ﴾ (34) .
وعن مقاتـل بن سليمان في تفسير قوله تعالى﴿ وإنه لعلمٌ للساعة ﴾ (35) قال : ( هو المهدي يكون في آخر الزمان وبعد خروجه يكون إمارات ودلالات الساعة وقيامها ) (36) وعن ابن عباس ومجاهد وقتاده قالوا : ( هو عيسى بن مريم حينما ينزل من السماء في آخر الزمان ويصلي خلف المهدي ، لأن ظهوره (ع) يُعلم به مجيء الساعة لأنه من أشرا طها ) (37) .
ولقد حرصت أكثر الأحاديث التي تكلمت عن الإمام المهدي (ع) على التأكيد بأنه لا يكون إلا في آخر الزمان وبعضها بالقول لو لم يبقى إلا آخر يوم من الدنيا وبعضها بالقول قبل قيام الساعة .
فعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (ص) قال : ( ابشروا بالمهدي فإنه يأتي في آخر الزمان على شدة وزلازل يسع الله له الأرض عدلاً وقسطاً ) (38) .
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري عن الرسول الأكرم (ص) قال : ( المهدي يخرج في آخر الزمان ) (39) .
وعنه أيضاً (ص) قال : ( يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته ككنيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، فذلك هو المهدي ) (40) .
وعنه أيضاً (ص) قال : ( لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت قبله ظلماً يكون سبع سنين ) (41) .
ثالثاً :- النضج الفكري :
لأن البشرية في ذلك الوقت لم تصل بعد لمرحلة النضج الفكري وكانت تسير نحو التكامل الإنساني في تطور مستمر في الفكر والثقافة وتحصيل العلوم وحصول التجارب وغير ذلك من التطور البشري .
ولذلك كانت رسالة كل نبي من الأنبياء أو الرسل أكثر شمولاً لمتطلبات الحياة ومتطلبات العصر من الرسول السابق له ومكملة لرسالته ، إلى أن جاء النبي محمد (ص) حينما وصلت البشرية لمرحلة من التطور الفكري بحيث تستطيع أن تستوعب هذا المشروع الإلهي الكبير فوضع الدستور المتكامل للحياة والذي يمثل أيضاً دستور الدولة الإلهية الموعودة ، ونزلت هذه الآية ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ (42)
وبذلك أُكملت الرسالات السماوية ووضعت النظرية المتكاملة لأهل الأرض وجاءت رسالة النبي محمد (ص) خاتمة لجميع الرسالات وناسخة لها جميعاً .
ولعل هناك من يتساءل مادام الدين قد اكتمل ، والبشرية وصلت لمرحلة النضج الفكري عندما جاء النبي محمد (ص) فلماذا لم تطبق هذه الحكومة الإلهية في حينها على كل الأرض ؟ ومادام قد وُضع الدستور المتكامل لكل البشر فلماذا لم يوضع موضع التنفيذ الفعلي في جميع المعمورة ؟ ولماذا يبشر النبي بالمهدي من ولده في آخر الزمان وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملأت ظلماً وجوراً ؟ ولماذا لا يكون النبي محمد (ص) هو المنفذ لهذه الحكومة الموعودة ؟
والجواب أن البشرية في ذلك الوقت واقعاً وصلت لمرحلة النضج الفكري بحيث تستطيع فهم هذا المشروع الإلهي الكبير ، إلا أنها لم تصل بعد لإمكانية التطبيق العملي لهذا الدستور الكامل في جميع الكرة الأرضية ولم تصل بعد لمرحلة الاستعداد الحقيقي للتطبيق الفعلي لهذا المشروع .
فعلى سبيل المثال لا الحصر إذا راجعنا الروايات التالية نفهم أنه في زمن المهدي (ع) لن يكون هناك غني وفقير ...! فحينما يطبق العدل على الجميع سيكون الكل غنياً ولا وجود للمحتاجين في ذلك المجتمع المثالي .
فعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله (ع) : ( يخرج المهدي حكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ويطاف بالمال في أهل الحواء – أي أهل الحي – فلا يوجد أحد يقبله ) (43) .
وعنه (ع) قال : ( أبشركم بالمهدي يقسم المال صحاحاً بالسوية ويملأ الله قلوب أمة محمد غنى ، ويسعهم عدله حتى يأمر منادياً فينادي : من له في مال حاجة ) (44) .
وعن أبي عبد الله (ع) قال : ( فحينئذٍ تُظهر الأرض كنوزها وتُبدي بركاتها ، فلا يجد الرجل منكم يومئذٍ موضعاً لصدقته ولا لبره لشمول الغنى جميع المؤمنين ) (45).
إذاً فلنا أن نسأل من الذي سوف يعمل في الأعمال الشاقة والمتعبة في ذلك الزمان ، ومن الذي سيعمل في بعض الأعمال الدنيئة كمهنة الزبال مثلاً أو خلافه مادام الكل غنياً ولديه المال الكافي ..…؟
والجواب أنه بعد أن ترى البشرية من الظلم والفجائع مالا تطيقه ، وبعد امتلاء الأرض جوراً وظلماً ، وبعد تجربة جميع الأطروحات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وبعد فشلها جميعاً ، ستصل البشرية لحالة من اليأس بحيث تطلب فيها إقامة دولة العدل الإلهي الموعودة .
وستطالب البشرية بتطبيق هذا المشروع الإلهي الكبير في الأرض مهما كلفها الأمر ، وسيعمل الجميع حينئذٍ لإنجاح هذه الحكومة العادلة وحتى إذا استدعى الأمر للعمل في الأعمال الشاقة طلباً للأجر والثواب من الله فقط .
ولقد جاء في بعض الأخبار أنه في زمان الإمام المهدي (ع) لن يكون هناك أجر مالي للبضائع في أثناء البيع وإنما الصلاة على محمد وآل محمد فقط ..!
وحتى إذا قلنا بعدم صحة هذه الأخبار إلا أنه لن يكون هناك مانع عند أحد ما من العمل في الأعمال الشاقة والدنيئة مادام في ذلك قيام الدولة الإسلامية وبقاؤها وديمومتها .
ولذلك كان بعض من مهام الأئمة المعصومين عليهم السلام من بعد النبي (ص) هو إيصال الأمة إلى هذه المرحلة من الاستعداد والجاهزية .
فعن بريد العجلي قال : ( قيل لأبي جعفر الباقر (ع) إن أصحابنا بالكوفة جماعة كثيرة فلو أمرتهم لأطاعوك واتبعوك ، فقال (ع) : يجيء أحدهم إلى كيس أخيه فيأخذ منه حاجته ؟ فقال : لا ، فقال (ع) : فهم بدمائهم أبخل ، ثم قال : إن الناس في هدنة نناكحهم ونوارثهم ونقيم عليهم الحدود ونؤدي أماناتهم حتى إذا قام القائم جاءت المزاملة ويأتي الرجل إلى كيس أخيه فيأخذ حاجته لا يمنعه ) (46) .
وكان كل إمام من الأئمة عليهم السلام يقوم بمهام تتناسب مع مرحلة التطور في الأمة والوضع الاجتماعي الذي يعاصره ، فنرى الإمام الحسين (ع) يقوم بثورة ضد يزيد ، بينما الإمام زين العابدين يركز على جانب التربية بالدعاء والعبادة ، بينما نرى الإمامين الباقر والصادق يركزان على المجال العلمي والفقهي .
وحينما وصلت الأمة في زمان الإمام العسكري (ع) لمرحلة من التطور بحيث تستطيع تحمل أعباء غيبة الإمام عنها حدثت الغيبة الصغرى ومن بعدها الغيبة الكبرى بالتدريج حيث سبق ذلك انقطاع الأئمة السابقين للمهدي ( من بعد الإمام الرضا ) عن الاتصال المباشر بالأوساط الاجتماعية لوضعهم تحت الإقامة الجبرية في دورهم وتحت الملاحظة الدائمة من قِبل السلطات الحاكمة آنذاك ، وكذلك اتخاذ الأئمة نظام الوكلاء بينهم وبين عامة شيعتهم ومواليهم تمهيداً لغيبة الإمام المهدي عليه السلام .
العودة للصفحة السابقة
(7) سورة البقرة (30- 31)
(
كمال الدين وتمام النعمة ص 14 ، بحار الأنوار ج 26 ص 283 ح38
(9) تفسير الإمام العسكري (ع) ص 217
(10) بحار الأنوار ج 11 ص 147 ح 18 ، مجمع البيان ج 1 ص 152
(11) كنز الفوائد ص 256 , مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 287
(12) سورة البقرة ( 124)
(13) الخصال ص 340 ح 84 ، المهدي في القرآن ص6 ، إلزام الناصب ج1 ص 179
(14) سورة الأعراف( 157)
(15) تفسير البرهان مجلد 2 ص 593 ، أصول الكافي ج 1 ص 194
(16) سورة الأعراف (172)
(17) سورة طه ( 115)
(18) الكافي ج 2 ص 8 ح 1 ، بصائر الدرجات ص 70 ح 2 ، بحار الأنوار ج 26 ص 279 ح 22
(19) سورة آل عمران (81)
(20) بحار الأنوار ج 11 ص 25 ، معجم أحاديث الإمام المهدي ج 5 ص 58
(21) عقـد الدرر في أخبار المنتظر ص 108
(22) سورة الذاريات (56)
(23) تاريخ الغيبة الكبرى ص 203 , 289
(24) المزمور السابع والثلاثين- كتاب المزامير ، أصول العقائد للشباب ص 179
(25) كتاب حجار – الإصحاح الثاني
(26) سورة الأنبياء ( 105)
(27) سورة النور (55)
(28) ينابيع المودة ج 3 ص 245 ، معجم أحاديث الإمام المهدي ج 5 ص 281
(29) سورة طه (117)
(30) سورة التوبة (33)
(31) سورة آل عمران ( 83 )
(32) تفسير العياشي مجلد 1 ص 182 ، المهدي في القرآن ص 15
(33) المنار المنيف ص 148 ، الحاوي للسيوطي ج 2 ص 63
(34) سورة القصص ( 5)
(35) سورة الزخرف (61)
(36) البيان في أخبار صاحب الزمان ص 528 ، كشف الغمة ج 3 ص 280 ، ينابيع المودة ص 301
(37) تفسير التبيان مجلد 9 ص 211 ، مسند أحمد ج 1 ص 317 ، الدر المنثور ج 6 ص 20
(38) دلائل الإمامة ص 467 ، إثبات الهداة ج 7 ص 147
(39) غيبة الطوسي ص 178 ، منتخب الأثر ص 168 ، إثبات الهداة ج 3 ص 502
(40) تذكرة الخواص ص 363 ، منتخب الأثر ص 182 ح 1 ، إثبات الهداة ج 3 ص 607
(41) فرائد السمطين ج 2 ص 324 ، دلائل الإمامة ص 251 ، كشف الغمة ج 3 ص 258
(42) سورة المائدة (3)
(43) عقد الدرر في أخبار المنتظر ص 241 ح 276
(44) معجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 92
(45) الإرشاد للمفيد ج 2 ص 384 ، كشف الغمة ج3 ص 265
(46) بحار الأنوار ج 52 ص 372 ح 164 ، درر الأخبار ص 404 ح 17