دخل الإمام (عليه السلام) إلى القصر.
ليكون صرخةً صاعقةً في وجه صاحب القصر، ومستشاريه، ووزرائه، وكلمةً ماحقةً لقضاته وضفادعه النقّاقة، وكبرائه.
ومعجزةً ساحقةً لكيدهم ومكرهم.. بما ظهر من أمر انتدابه لحمل كلمة الله.. ومن آياته ومعجزاته التي كانت بأمر الله تعالى وبإذنه!.
وبشيراً ونذيراً.. يمنع الزّيادة في الدّين.. ولا يرضى بالنّقصان فيه..
* * *
(روي في إثبات الوصيّة أنه (عليه السلام)، دخل إلى دار المتوكل مرةً فقام يصلّي. فأتاه بعض المخالفين فوقف حياله فقال له: إلى كم هذا الرّياء؟!.
فأسرع الصلاة وسلّم، صم التفت إليه فقال: إن كنت كاذباً سحتك الله!.
فوقع الرجل ميّتاً، فصار حديث الدار!)(1).
.. ولم يرتح لهذه الظاهرة القاهرة صاحب الدار، ولا من فيه من جزذانٍ تقضم لذائذ الأطعمة فتنتفش كروشها، وتخضم أموال المسلمين التي ستكوى بها جباهها!.
فإن يستفتحوا مع الإمام (عليه السلام) بمثل هذا البادرة المذهلة.. فقد (واستفتحوا وخاب كلّ جبّارٍ عنيدٍ)(2).
وأن ينالوا من (ضيف) القصر الذي قالوا إنهم (مشتاقون) إليه ويؤذوه بعيد وصوله، فليس ذلك من الميسور لهم مهما بلغ بهم الكيد لبني عليّ والزّهراء (عليهما السلام)..
وأن يصبروا على ظهور كراماته ودلالاته، فذلك هو العلقم في لهواتهم.. بل هو (كالمهل يغلى في البطون كغلّي الحميم )(3) ويقطّع أمعاءهم!.
فليبتلعوا الصّبر.. أو ليشربوا البحر.. فليس في اليد - الآن - حيلة.
وهاهو ذا (عليه السلام) - أيضاً - يأتيه رجل من أهل بيته اسمه معروف ويقول له: (جئتك وما أذنت لي.
قال (عليه السلام): ما علمت بك، وأخبرت بعد انصرافك، وذكّرتني بما ينبغي.
فحلف: ما فعلت.. وعلم أبو الحسن (عليه السلام) أنه كاذب فقال: اللّهمّ إنه حلف كاذباً، فانتقم منه!. فمات من الغد)(4).
وانتشر الخبر الثاني وذاع، وانتقل من أسماع إلى ألسنةٍ فأسماع، فسار بين المؤالفين والمخالفين.. فكانت البادرة الثانية ثانية الأثافي!.
فما العمل وقد أخذت ترجح بالإمام - و تشيل بعدوّه - كفّة الميزان، في كلّ مكان!.
أمّا ثالثة الأثافي فلا تستعجل عليها لأنها استمرّت ألفاً وثلاثمائة وخمسين ليلةً وليلة، إذ دامت ثلاثة أعوام وتسعة شهور بين المتوكل و(ضيفه) الذي استقدمه (مشتاقاً) إلى.. الإيقاع به وقتله مهما كلّف الأمر!. فكاد له ودبّر وكاد هو وأعوانه.. ولكنّه سبحانه قال: (إنّهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً)(5) وقد قتل الخليفة (المشتاق) قبل أن يظفر بأمنيّته (وظهر أمر الله وهم كارهون)(6)!.
* * *
وقبل أن ننتقل إلى استعراض آيات الله عزّ وجلّ التي ظهرت على يد سيّدنا أبي الحسن الهادي (عليه السلام) طيلة عشرين عاماً قضاها بين أشرس أعدائه وأشدّهم حقداً عليه، نبقي المتوكل قليلاً في صفوف المشاهدين - المتفرّجين، لنعرض (مناظر) الشريط أولاً، ثم نورد الأحداث العديدة التي جرت له معه؛ فإنّ المتوكل كان أشدّ بني العباس عداوةً للعلويّين، وهو الذي جعجع بالإمام (عليه السلام) وألزمه بهجر وطنه ومنازل الوحي المقدّسة التي ولد وترعرع وشبّ فيها، وأشخصه من الحجاز إلى العراق ليقف في وجه كلمة الحقّ التي يحملها.. وليقتله متى استطاع!.
فمن مناظر تلك التمثيليّة أنّه (نقل بعض الحفّاظ أنّ امرأةً زعمت أنّها شريفة بحضرة المتوكل؛ فسأل عمّن يخبره بذلك، فدلّ على عليّ الرّضا (عليه السلام) - وهذا خطاً سنوضحه لأنه دلّ على ابن الرّضا - .
فجاء فأجلسه معه على السرير، وسأله، فقال: إنّ الله حرّم لحم أولاد الحسنين على السّباع. فلتلق للسّباع.
فعرض عليها ذلك، فاعترفت بكذبها.
ثم قيل للمتوكل: ألاّ تجرّب ذلك فيه؟
فأمر بثلاثةٍ من السّباع، فجيء بها في صحن قصره، ثم دعاه.
فلمّا دخل باب القفص أغلق عليه والسّباع قد أصمّت الأسماع من زئيرها!.
فلمّا مشى في الصّحن يريد الدرجة، مشت إليه وقد سكنت وتمسّحت به ودارت حوله وهو يمسحها بكمّه، ثم ربضت!.
فصعد المتوكل وتحدّث معه ساعةً من وراء قضبان القفص الحديديّ ففعلت معه - أي مع الإمام (عليه السلام) - كفعلها الأول حتى خرج. فأتبعه المتوكل بجائزة عظيمة!.
فقيل للمتوكل: افعل كما فعل ابن عمّك.
فلم يجسر عليه وقال: أتريدون قتلي؟!.
ثم أمرهم أن لا يفشوا ذلك)(7).
(وذكر أنّ ابن الجهم قال: فقمت وقلت للمتوكل: يا أمير المؤمنين، أنت إمام، فافعل كما فعل ابن عمّك.
فقال: والله لئن بلّغني أحد من الناس ذلك، لأضربنّ عنقك وعنق هذه العصابة كلّهم!.
فوالله ما تحدّثنا بذلك حتى مات(
.
لقد خاب ظنّ المتوكل حين حسب أنّ السّباع تفترس الإمام وتريحه منه.. ولذلك أسرع بإحضار السّباع الجائعة على جناح السرعة زعماً بأنّ فرصة الخلاص منه قد سنحت.. فتحطّم أمله وكذبه حلمه الذهبيّ بقتل الإمام بفتوى الإمام نفسه وبحضور شهود الزّور في تلك القصور!.
(ونقل المسعودي أن صاحب هذه الحادثة هو ابن ابن عليّ الرّضا، وهو عليّ العسكريّ، وصوّب - ذلك وهو على حقّ - لأنّ الرّضا (عليه السلام) توفّي في خلافة المأمون اتّفاقاً ولم يدرك المتوكل)(9). فالحادثة وقعت مع المتوكل بلا شك، ولذلك علّق ابن حجر الهيثمي عليها في صواعقه المحرقة - في ترجمة إمامنا (عليه السلام) بقوله:
(ومرّ أنّ الصواب في قضيّة السّباع الواقعة من المتوكل، أنه - أي الهادي (عليه السلام) - هو الممتحن بها، وأنّها - أي السّباع - لم تقربه، وهابته، واطمأنّت لمّا رأته)(10).
فمما لا شك فيه أن القصة حصلت مع إمامنا هذا لا مع جدّه (عليهما السلام). وقد روى أبو الهلقام، وعبد الله بن جعفر الحميريّ، والصقر الجبليّ، وأبو شعيب الحنّاط، وعليّ بن مهزيار، قائلين: (كانت زينب الكذّابة تزعم أنّها بنت عليّ بن أبي طالب، فأحضرها المتوكل وقال: اذكري نسبك.
فقالت: أنا زينب بنت عليّ.. وأنّها كانت حملت إلى الشام فوقعت إلى باديةٍ من بني كلبٍ فأقامت بين ظهرانيهم.
فقال لها المتوكل: إنّ زينب بنت عليّ قديمة، وأنت شابّة!.
فقالت: لحقتني دعوة رسول الله بأن يرد إليّ شبابي في كلّ خمسين سنة.
فدعا المتوكل وجوه آل أبي طالب، فقال: كيف نعرف كذبها؟
فقال الفتح - بن خاقان -: لا يخبرك بهذا إلاّ ابن الرّضا.
فأمر بإحضاره، وسأله، فقال (عليه السلام): إنّ في ولد عليّ علامة.
قال: وما هي؟
قال: لا تعرض لهم السّباع. فألقها إلى السّباع فإن لم تعرض لها فهي صادقة.
فقالت: يا أمير المؤمنين: الله الله فيّ، فإنما أراد قتلي!. وركبت الحمار وجعلت تنادي: إلا إنّني زينب الكذّابة!.
وفي روايةٍ أنه عرض عليها ذلك فامتنعت. فطرحت للسّباع فأكلتها)(11).
وقيل: (إنّ أمّ المتوكل استوهبتها منه فوهبها لها)(12).
أمّا ذكر حدوث القصة مع الإمام الرّضا – الجدّ - (عليه السلام) في أيام المأمون، فقد روي أنّه (دخل الإمام الرّضا (عليه السلام) على المأمون وعنده زينب الكذّابة التي كانت تزعم أنها ابنة عليّ بن أبي طالب، وأنّ عليّاً دعا لها بالبقاء إلى يوم القيامة. فقال المأمون للإمام (عليه السلام): سلّم على أختك.
فقال: والله ما هي أختي، ولا ولدها عليّ بن أبي طالب.
فقالت زينب: والله ما هو أخي، ولا ولده عليّ بن أبي طالب.
فقال المأمون للرّضا (عليه السلام): ما مصداق قولك؟
قال: إنّا، أهل البيت، لحومنا محرّمة على السّباع. فاطرحها إلى السّباع، فإن تك صادقةً فإنّ السّباع تغبّ لحمها - أي تقربه مرةً، وتتركه أخرى، وتأنف أن تذوقه.
قالت زينب: ابدأ بالشّيخ.
فقال المأمون: لقد أنصفت.
قال الرّضا (عليه السلام): أجل.
ففتحت بركة السّباع، وأضربت - أهيجت - فنزل الرّضا إليها!. فلمّا أن رأته بصبصت - أي طأطأت رؤوسها، وحرّكت أذنابها - وأومأت له بالسجود، فصلّى ما بينها ركعتين، وخرج منها.
فأمر المأمون زينب لتنزل؛ وامتنعت.. فطرحت إلى السّباع فأكلتها)(13).
* * *
.. وفي كلّ حال طاش سهم المتوكل حين عاش لحظاتٍ سعيدة خاطفةً كان أثناءها يحلم برؤية السّباع تمزّق جسد الإمام الذي أذهب الله تعالى عنه الرّجس وطهّره تطهيراً (وردّ الله الّذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكان الله قويّاً عزيزاً)(14).
وخسئ كلّ من أراد مبارزة الله تعالى في قدرته، وتحدّيه في مشيئته، والاعتراض عليه سبحانه في انتجاب أهل البيت النّبويّ الشريف وجعلهم أمناءه وخلفاءه..
ولكن.. كيف غابت عن ذهن المتوكل فعلة هارون الرشيد - بالأمس - مع أحد أبناء عليّ (عليه السلام)، وفشله في محاولته الخسيسة معه، يوم كان المتوكل شريكه فيها؟!. فقد قال ابن حجر في الصواعق المحرقة. تعليقاً على دخول الإمام (عليه السلام) إلى قفص السّباع ولواذها به، وتمسّحها بأعطافه الشريفة:
(ويوافقه ما حكاه المسعودي وغيره: أن يحيى بن عبد الله المحض بن الحسن المثنّى بن الحسن السّبط (عليه السلام) لمّا هرب إلى الدّيلم ثم أتى به الرشيد وأمر بقتله، ألقي في بركةٍ فيها سباع قد جوّعت، فأمسكت عن أكله، ولاذت بجانبه، وهابت الدّنوّ منه!. فبني عليه ركن بالجصّ وهو حيّ بأمر المتوكل(15) الذي كان إذ ذاك في مقتبل عمره ولم يتربّع بعد على ذلك العرش الظالم الذي لم تنزل أحكامه في قرآنٍ ولا في سنّة.. فلم يتعظ بتلك الآية التي يتّعظ بها من كان على غير الإسلام، بل جرّب مثلها مع إمام الحقّ وسيّد الخلق في زمانه بجرأة الفراعنة المتربّبين!.
آية ذلك أن المتوكل نبت لحمه ونما عظمه على كره العلويّين الذي كان لا يستطيع تبريره حتى فيما بينه وبين نفسه؛ ولذلك دأب على الحطّ من شأن الإمام الهادي (عليه السلام) إبّان عهده الطويل، فما ازداد الإمام إلاّ رفعةً وعزّة.. (ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين)(16).. وأبو الحسن الهادي يومئذٍ هو رأس المؤمنين.. ووليّ الله عليهم.. وإمامهم..
قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره:
(حدّثني أبي، قال: أمر المعتصم أن يحفر بالبطانية بئر، فحفر ثلاثمائة قامةٍ فلم يظهر الماء، فتركه ولم يحفره.
فلما ولي المتوكل أمر أن يحفر ذلك البئر أبداً حتى يظهر الماء. فحفروا حتى وضعوا في كلّ مائة قامةٍ بكرةً، حتى انتهوا إلى صخرةٍ فضربوها بالمعمول فانكسرت، فخرج منها ريح باردة فمات من كان بقربها!. فأخبروا المتوكل بذلك فلم يعلم ما ذاك. فقالوا: سل ابن الرّضا عن ذلك، وهو أبو الحسن عليّ بن محمد العسكري (عليه السلام).
فكتب إليه يسأله عـــن ذلك، فقال أبو الحسن (عليه السلام): تلك بلاد الأحقاف، وهــم قـــوم عادٍ الذين أهلكهم الله بالريـــح الصّرصر)(17).
فالإمام (عليه السلام) هو مرجعهم دائماً وأبداً.. وفي كلّ معضلة.
* * *
ونفتح الستار - بعد انتهاء (المناظر) التي ظهر فيها جانب ممّا كان عليه صاحب القصر في سامرّاء حين كان في مجلس الحكم، وعلى عرش السلطة - ليظهر من كان يلقّب - (بأمير المؤمنين)، وخليفة رسول ربّ العالمين، في مجلسه الخاصّ في منزله وقد تحرّر من عبء السّلطة، وخلع ربقة الإسلام من عنقه لأنه لا يعرف في الدّين قبيله من دبيره.. مبتدئين بما رواه الفحّام، عن المنصوريّ، عن عم أبيه الذي قال:
(دخلت يوماً على المتوكل وهو يشرب، فدعاني إلى الشرب، فقلت: يا سيّدي، ما شربته قط!.
قال: أنت تشرب مع عليّ بن محمد! - يعني بذلك الإمام (عليه السلام)!.
فقلت له: ليس تعرف من في يديك.. إنّه يضرّك، ولا يضرّه!. أي أنّ خليفة المسلمين الذي قعد مقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، والذي يعيش بين الكأس والطّاس، ويجهل شأن الإمام؛ وفريته عليه تضرّه ولا تضرّ الإمام.
ثم قال: ولم أعد ذلك عليه)(18) أي أنّه لم يعد حديث المتوكل على سمع الإمام (عليه السلام).
قال: فلمّا كان يوم من الأيام، قال لي الفتح بن خاقان: قد ذكر عند الرجل - يعني المتوكل - خبر مالٍ يجيء من قمّ، وقد أمرني أن أرصده لأخبره به. فقل لي من أيّ طريقٍ يجيء حتى أجتنبه.
فجئت إلى الإمام عليّ بن محمدٍ، فصادفت عنده من أحشمه، فتبسّم وقال لي: لا يكون إلاّ خيراً يا أبا موسى. لِم لَم تعد الرّسالة الأوّلة؟!.
يعني: لم لم تذكر لي فرية المتوكل عليّ واتّهامه لي بالشرب؟!
فقلت: أجللتك يا سيّدي.
فقال: المال يجيء الليلة، وليس يصلون إليه، فبت عندي.
فلمّا كان من اللّيل قام إلى ورده. وقطع الرّكوع بالسلام وقال لي: قد جاء الرجل ومعه المال، وقد منعه الخادم الوصول إليّ، فاخرج خذ ما معه.
فإذا معه زنفيلجة فيها المال، فأخذته ودخلت إليه، فقال: قل له: هات الجبّة التي قالت لك القمّية إنّها ذخيرة جدّتها.
فخرجت إليه فأعطانيها.. فدخلت بها إليه فقال لي: الجبّة التي أبدلتها منها، ردّها إليها. فخرجت إليه فقلت له ذلك. فقال: نعم، كانت ابنتي استحسنتها فأبدلتها بهذه الجبّة، وأنا أمضي فأجيء بها.
فقال: أخرج فقل له: إنّ الله تعالى يحفظ ما لنا علينا. هاتها من كتفك!.
فخرجت إلى الرجل فأخرجتها من كتفه، فغشي عليه!.
فخرج الإمام (عليه السلام) إليه فقال له: قد كنت شاكّاً فتيقّنت؟!)(19).
وتستوقفنا هذه الرواية بالأسئلة الكثيرة التي تزدحم حولها، وبالتعجّبات التي تثيرها، ودلائل الإمامة التي تحتويها دون أن تصرف نظرنا عن سكر الخليفة وخمره..
فمن العادة والمألوف أنّ خليفة المسلمين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. ويقيم الحدّ على شارب الخمر فيما يقيم من حدود ما أنزل الله تعالى.. ويقيم الحدّ على شارب الخمر فيما يقيم من حدود ما أنزل الله تعالى.. أما هذا الخليفة فإنه مع الزّيّ الجديد فهو سكّير خمّير، يشربها، ويأمر بها، ويدعو إليها.. ثم يجترح فريةً على الإمام يهتزّ لها عرش الرحمن!. ويكذب على الرجل، ويكذب على نفسه بتلك التّهمة الشّنيعة حين يقول: أنت تشرب مع عليّ بن محمد!.
فدعنا من سكر هذا الخليفة وعهره، ومن خموره وفجوره لئلا ننصرف عن جوهر ما مرّ من الآيات في هذه الرّواية.
لقد كتم الرجل فرية المتوكل على الإمام.. فمن بلّغه إياها حتى قال للرجل: لم لم تعد عليّ الرّسالة الأوّلة؟!.
ثم كان أن جاء الرجل ليخبر الإمام أن الخليفة عرف بالمال القادم إليه من قمّ، وأنه كلّف من يرصده ليصادره ويقبض على ناقله.. ودخل على الإمام ولم يفاتحه بذلك احتشاماً ممّن وجده بحضرته.. فمن عرّف الإمام أن الرّجل قادم بهذا الشأن، حتى تبسّم وقال له: لا يكون إلا خيراً، فاطمئنّ على المال؟!.
ومن أخبره (عليه السلام) أن المال يصل الليلة، وأن (عيون) القصر تعمى عنه؟!.
ولماذا ألزم الرجل بالمبيت عنده؟ وكيف شعر بوصول المال أثناء صلاته في الليل وقبل أن ينصرف منها؟
وكيف علم أنّ الخادم منع ناقل المال من الدخول عليه؟!.
ثم من أخبره بجبّة القمّية؟ وأنّها من ذخيرة جدّتها؟!. وكيف عرف استبدالها بغيرها؟!. ومن دلّه على مخبئها من كتف الرجل، وأنّ الرجل كان غير صادقٍ حين قال: أنا أمضي وأجيء بها؟!
ولماذا - أخيراً - أغشي على الناقل حين استخراجها من كتفه؟!.
وما سبب خروج الإمام (عليه السلام) إليه؟!. و، و، و.. إلخ، فإننا قد نفدت عندنا أدوات الاستفهام وبقيت التساؤلات، وتعبت منّا: لماذا، وكيف، ومن، وماذا وغيرها!.
ورحم الله أبا نواسٍ الذي قال بمدح الإمام الرّضا (عليه السلام) حين عوتب بعدم مدحه:
قيل لي: أنت أشعر الناس طــــرّاً في فنونٍ من الكــــلام النّبــــــيه
لك من جيّــد القريـــــض نظــــام يثـــمر الدّر في يــــدي مجتنيــــه
فعلام تركت مــــدح ابن موسـى والخـــصال التي تجـــمّعن فــيه؟
قلت: لا أستطيع مـــــدح إمـــامٍ كان جبــــــريل خـــــادمـــاً لأبـــيه
فلا عجب أن يأتي الإمام علم ذلك كلّه بواسطة محدّثيه ومسدّديه من الملائكة المسخّرين لخدمته كسفير لله عزّ وجلّ، ولا غرابة أن يأتي الإمام بهذه الآيات ولا بغيرها طالما هو مرفود بعناية الخالق العزيز الجبّار الذي لا يعجزه شيء ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فإنّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد أتعبوا سلاطين عصورهم أكثر ممّا نتعب نحن أدوات الاستفهام حول أقوالهم وأفعالهم و آياتهم و بيّناتهم..
وأولئك السلاطين لم يكونوا عديمي الفهم، ولا قليلي الإدراك، بل كان أكثرهم على جانبٍ كبيرٍ من الوعي، وقسطٍ عظيمٍ من العلم، ولكنّهم كانوا فراعنة ملكٍ استحوذ عليهم حبّ الملك والتسلّط، فقعدوا مقعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وحكموا بغير ما أنزل الله تعالى عليه، وأخافوا ذرّيته وأرعبوهم لئلا يحولوا بينهم وبين دنياهم، ثم قتلوهم ولو يرعوا للنبيّ فيهم إلاًّ ولا ذمّةً متناسين قول الله عزّ وعلا: (قل - يا محمد - لاّ أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى)(20) متصامّين عن قوله سبحانه، وذاهبين في الغيّ كلّ مذهب..
إن حادثةً واحدةً كهذه التي مررت بها، تجد فيها أكثر من عشر آياتٍ بيّناتٍ أتى بها إمامنا العظيم، ثم لم يدعها طيّ الكتمان، بل صرّح بها أمام رجلٍ يتردّد بينه وبين القصر، وأمام رجلٍ آخر جاء من إيران شاكّاً متحيّراً، لم يخبّئ الجبّة ليسرقها، ولا استحسنتها بنته فاستبدلتها، بل أراد أن يبحث عن الحقّ فيتّبعه، لأنه لا ينتمي إلى (تنابل) القصر الذين يرون الآيات ويتغاضون في سبيل فتات الموائد ولحس الصحون وملء الكروش والجيوب!. ممّا صرفهم عن الإيمان، وأنساهم ذكر ربّهم!.
فقل لصاحب القصر وأعوانه ومشيريه ومخبريه: قد (فتنتم أنفسكم وتربّصتم وأرتبتم وغرّتكم الأماني..)(21) أفأمنتم مكر الله حين استسلمتم للشهوات، وكدتم لعترة نبيّكم ومكرتم بهم. أم كنتم على غير ملّة الإسلام؟!! إن نطقكم بالشهادتين لا يغرّ إلاّ الجهلة.. فقد آمنتم ببعض الدّين وكفرتم ببعض، وعبدتم الله على حرفٍ!. ومن فعل ذلك فلا إيمان له ولا أمان على أبناء رسول الإسلام منه، ولو كانوا من أكرم خلق الله عليه، ومن آذاهم فقد أذاه ومن آذاه فقد آذى الله!.
أجل، قد منع هؤلاء أئمّة المسلمين من إيصال كلمة الحقّ إلى المسلمين.. وبزعمي أن تبرير أذيّتهم من قبل الأمويّين الموتورين، أسهل من تبرير أذيّة العباسيّين لهم وأيسر، لما كان بين أولئك وأولئك من تراتٍ وذحول، ولما كان بين هؤلاء وهؤلاء من قربى وإفضال.
فكأيّن من هناتٍ وهناتٍ كانت للمتوكل مع إمامنا الشابّ (عليه السلام) !. وكم له معه من تصرّفاتٍ يندى منها جبين الإنسانية خجلاً، لما كان عنده من جرأةٍ على الله، ومن استهانةٍ بأوليائه وأصفيائه وحملة دعوته!!! فإنك إذا راقبت أفعاله معه، تظنّ أن هذا الخليفة التّعيس كان متفرّغاً لأذيّته (عليه السلام)، راصداً قسطاً كبيراً من وقته لمحاولة انتقاص قدره، إذ ظلّ أكثر وقته يتعمّد الحطّ من شأنه، وما فتئ يضيّق عليه إلى أن بتر الله تعالى عمره.. إذ لمّا حاول قتله فعلاً، قتله الله تعالى شرّ قتلةٍ فاختلطت أشلاؤه المقطّعة إرباً إرباً بأشلاء وزيره قبل أن ينال بغيته اللّئيمة كما سترى.
نعم، قد تحدّاه كثيراً ليوقعه في فخاخ مكائده فأنجاه الله!. وأراد مراراً أن يزلّ لسانه بكلمةٍ فيأخذه بها أخذاً ظالماً، فجلّ لسان المعصوم عن أن يزلّ، وجلّت قدرة الله سبحانه عن أن تخذل عبده الناطق بلسان توحيده، الصادع بأمره بين عباده!.
* * *
قال عليّ بن يحيى بن أبي منصور:
(كنت يوماً عند المتوكل، ودخل عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى (عليهم السلام). فلمّا جلس قال له المتوكل: ما يقول ولد أبيك في العباس بن عبد المطلّب؟
قال: ما يقول ولد أبي، يا أمير المؤمنين، في رجلٍ فرض الله طاعة نبيّه على خلقه، وفرض طاعته على نبيّه (صلّى الله عليه وآله)؟!)(22).
فجاء الجواب مسكتاً.. بليغاً غاية البلاغة، لا ذكر فيه للعباس لمن دقّق النظر، ولا ممسك فيه على الإمام (عليه السلام)، وإن كان يحتمل أكثر من وجهٍ حين يفسّر حسب مشيئة المفسّر؛ فإنّ إمامنا سلام الله عليه و تحياته وبركاته قد قصد: أن الله تعالى فرض طاعة النبيّ على الخلق، ثم فرض طاعته - أي طاعة الله سبحانه - على نبيّه، ولم يقصد العباس في الضمير الواقع في آخر لفظة (طاعته).
وإذا فرضنا أن ذلك لم يخف على المتوكل، فإنّ المتوكل رضي الجواب و(أراد) أن يفهم الكلام على أساس أن الله تعالى فرض طاعة العباس على النبيّ، أمام الناس؛ وكانت بغيته أن يقول الإمام (عليه السلام) قولاً لا يحتمل الجدل.. فه يفتح المتوكل على نفسه باباً مغلقاً ويطلب التفسير؟!. لا، قطعاً.
ومع ذلك فإن مزوّري الحقائق التاريخية من عملاء السلطان والزمان، لمّا أدركوا النّكتة الخفيّة عمدوا إلى اللّعب باللّفظ لتغيير المعنى الذي أراده الإمام سلام الله عليه، ولينزعوا عن هذا الجواب الكريم بلاغته الفائقة وعمقه العجيب، فامتدّت أيديهم الآثمة إليه فجعلته على لسان محمد بن يزيد المبرّد هكذا:
(قال المتوكل لأبي الحسن، عليّ بن محمد، بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب، رضي الله عنهم: ما يقول ولد أبيك في العباس بن عبد المطلب؟!.
قال: وما يقول ولد أبي، يا أمير المؤمنين، في رجل افترض الله طاعة نبيه على خلقه، وافترض طاعته على بنيه؟
فأمر له بمائة ألف درهم!.
وإنّما أراد أبو الحسن طاعة الله على بنيه، وقد عرّض)(23) أي أنه (عليه السلام) نبّه بني العباس إلى وجوب طاعة الله..
ويظهر تزويق الكلام في أول هذه الرواية المكذوبة الموضوعة، حيث بدأها الراوي بذكر نسب الإمام إلى جدّه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).. وهي ظاهرةً والوضع لأن الله تعالى لم يفرض طاعة بني العباس على الخلق، ولا هو نصّبهم خلفاء له على عباده من جهة، ثانية، ولأن الإمام (عليه السلام) لا يشتغل في القصر بالأجرة ككذبة الرّواة ومزوّر روايته من جهةٍ أخرى.
فقد تلاعب الراوي بتبديل لفظة (نبيّه) بلفظة (بنيه) فغيّر المعنى، وجعل الجواب منطوياً على ممالأة سافرةٍ يبعد الإمام عنها بعداً لا متناهياً لأنه من الّذين (لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً..)(24) ولا يقول بغير علمه الصحيح الذي تلقّاه عن الوحي الّذي نزل على جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله).
أما العبارة التي ذيّل بها الراوي المزوّر روايته حين قال: وإنّما أراد أبو الحسن طاعة الله على بنيه، وقد عرّض، فإنها (رقعة) فاقع لونها جاءت من غير جنس الثوب المرقوع بها، وفضحت الكذب والتعمّل والدّس!. والرواية الأولى هي الصحيحة جزماً، لأنها تنمّ عن عقيدة الإمام الذي لا يقول إلاّ الحق ولا يخاف في القول إلاّ الله جلّ وعلا، وهو لا يشتري رضى أحدٍ من المخلوقين بسخط الخالق، ولا يداري ولا يرائي ولا يهاب في الصّدق لوماً ولا يخشى غرماً.
.. وفي كل الأحوال لاحظ هذا الإحراج المفاجئ الذي زجّ المتوكل فيه الإمام حين فاجأه بهذا السؤال المحرج فور جلوسه، تر أنّ اللّؤم يسيل على لسانه، والحقد يتفجّر من قلبه، إذ أراد أن يحرجه فيخرجه لينتقم منه، فلقّاه الله سبحانه الجواب الذي يلجم الخصم ولا يغيّر من الحقّ حرفاً.
* * *
وكذلك تحرّش المتوكل بالإمام (عليه السلام) في سؤاله عن جدّه أبي طالب، كما في رواية عليّ بن عبد الله الحسني الذي قال:
(ركبنا مع سيّدنا أبي الحسن (عليه السلام) إلى دار المتوكل في يوم السلام - يوم العيد - فسلّم سيّدنا أبو الحسن (عليه السلام)، وأراد أن ينهض فقال له المتوكل:
تجلس يا أبا الحسن، إنّي أريد أن أسألك.
فقال له: سل.
فقال له: ما في الآخرة شيء غير الجنّة والنار يحلّون به الناس؟
فقال أبو الحسن (عليه السلام): ما يعلمه إلاّ الله.
فقال له: فمن علم الله أسألك.
قال: ومن علم الله أخبرك.
قال: يا أبا الحسن، ما رواه الناس أنّ أبا طالبٍ يوقف إذا حوسب الخلائق بين الجنّة والنار وفي رجله نعلان من نارٍ يغلي منها دماغه، ولا يدخل الجنّة لكفره، ولا يدخل النار لكفالته رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وصدّه قريشاً عنه، وأيسر على يده حتى ظهر أمره؟!.
قال له أبو الحسن (عليه السلام): ويحك!. لو وضع إيمان أبي طالب في كفّةٍ، ووضع إيمان الخلائق في الكفّة الأخرى، لرجح إيمان أبي طالبٍ على إيمانهم جميعاً.
قال له المتوكل: ومتى كان مؤمناً؟
قال له: دع ما لا تعلم، واسمع ما لا يردّه المسلمون جميعاً ولا يكذّبون به..
فأطرق المتوكل.. ونهض عنه أبو الحسن (عليه السلام)(25).
ولا جرم أن يطرق هذا المتوكل على غير ربّه، أمام تسفيه الإمام، ومقابل زجره له، فإن إيمان أبي طالب (عليه السلام) يدلّ عليه شعره، وقوله، وفعله، لأنه كان الحامي الوحيد للرسالة والرسول مدة حياته الكريمة التي لاقى فيها المصاعب الشاقة دفاعاً عن ابن أخيه (صلّى الله عليه وآله) وعن دعوته.
* * *
وفي الواقع لم يعرف أن يقف مع المتوكل موقف ثأرٍ لنفسه إلاّ ذاك الحنفيّ(26) الذي روى محمد بن العلا السّراج قصته - نقلاً عن البختريّ – فقال:
(قال البختريّ: كنت بمنبج - بلدة قرب حلب - بحضرة المتوكل، إذ دخل عليه رجل من أولاد محمد بن الحنفية، حلو العينين حسن الثياب، قد قرف عنده بشيء - أي اتّهم بجرم - . فوقف بين يديه والمتوكل مقبل على الفتح - بن خاقان - يحدّثه.
فلما طال وقوف الفتى بين يديه وهو لا ينظر إليه قال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أحضرتني لتأديبي، فقد أسأت الأدب!. وإن كنت قد أحضرتني ليعرف من بحضرتك من أوباش الناس استهانتك بأهلي، فقد عرفوا.
فقال له المتوكل: والله يا حنفيّ، لولا ما يثنيني عليك من أوصال الرحم، ويعطفني عليك من مواقع الحلم، لانتزعت لسانك بيديّ، ولفرّقت بين رأسك وجسدك ولو كان بمكانك محمد أبوك!.
قال: ثم التفت إلى الفتح فقال: أمّا ترى ما نلقاه من آل أبي طالب؟!. إمّا حسنيّ يجذب إلى نفسه تاج عزّ نقله الله إلينا قبله، أو حسينيّ يسعى في نقض ما أنزل الله إلينا قبله، أو حنفيّ يدلّ بجهله أسيافنا على سفك دمه.
فقال له الفتى: وأيّ حلم تركته لك الخمور وإدمانها، أمّ العيدان وفتيانها؟!. ومتى عطفك الرحم على أهلي وقد ابتززتهم فدكاً إرّثهم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فورثها أبو حرملة؟!.
وأما ذكرت محمداً، أبي، فقد طفقت تضع من عزّ رفعه الله ورسوله، وتطاول شرفاً تقصر عنه ولا تطوله!. وأنت كما قال الشاعر:
فغضّ الطّرف، إنّك من نميرٍ فلا كعباً بلغت، ولا كلابا
ثم ها أنت تشكو إلى علجك هذا - أي الفتح بن خاقان الذي هو تركي لا عربيّ - ما تلقاه من الحسنيّ والحسينيّ والحنفيّ.. فـ(لبئس المولى ولبئس العشير)(27)! - أي بئس الوزير وزيرك - .
ثم مدّ رجليه، ثم قال: هاتان رجلاي لقيدك، وهذه عنقي لسيفك!. فبؤ بإثمي، وتحمّل ظلمي، فليس هذا أول مكروهٍ أوقعته أنت وسلفك بهم!.
يقول الله تعالى: (قال لاّ أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى)(28).. فوالله ما أجبت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن مسألته، ولقد عطفت بالمودّة على غير قرابته، فعمّا قليل ترد الحوض فيذودك أبي، ويمنعك جدّي صلوات الله عليهما.
قال: فبكى المتوكل، ثم قام فدخل إلى قصر جواريه.. فلمّا كان من الغد أحضره وأحسن جائزته وخلّى سبيله)(29).
حقّاً إنّ قول هذا الحنفيّ رضوان الله عليه يفشّ الخلق.. وإن كان لا يوصل إلى حق!.
ولك أن تسألني: لم لا يقف الإمام (عليه السلام) من الخلفاء والظّلمة مثل هذا الموقف.. فأجيبك فوراً أنّ مثل هذا الموقف ليس من وظيفة الإمام، ولا هو يرضاه من أحد مقرّبيه، لأنّ واجبه يتلخّص بحفظ الدّين وبالمحافظة على المتديّنين وينحصر بدفع أذى الظّلمة من السلاطين عنهم ليبقي من يعبد الله في الأرض حقّ عبادته ويعتنق شريعته السماويّة المقدّسة التي أنزلها دون زيادةٍ ولا نقصان. ومثل هذا الموقف يضرّ بالإمام وبأتباعه وأشياعه فيستأصل الظالم شأفتهم ويقطع دابرهم، ولذا كان مأموراً بالصّبر على أذاهم ليبقى حرّاً في إعلان كلمة الله تعالى في عهدٍ قاسٍ ضالٍّ لا يتورّع السلطان فيه عن قتل النبيّ والوصي في سبيل ملكه!. فصبره على تجرّع الغصص التي كان يعانيها في زمانه مفروض عليه، وملازم لوظيفته السماويّة..
* * *
هذا، وإنّ المتوكل كان يرى من دلائل إمامة هذا الشابّ السّريّ صلوات الله عليه، ما يحار به لبّه. ولكن، إذا أطاع الإنسان شيطانه مرةً، فانتظر له أن يجري الشيطان منه مجرى الدّم والنفس في كلّ مرة.. وحينئذٍ ترى لحيته مع لحى (التّيوس).. في قبضة إبليس.. وتراه يتولّى كبره ويغلق قلبه دون الكلمة المنصفة، ولا يتحكّم بأذنيه إلاّ الصارفون له عن الحق!.
فالآيات كانت تصابح المتوكل وتماسيه؛ ومعاجز الإمام (عليه السلام) كانت تسدّ منافذ بصره.. ولكنّه كان على ضلاله: لأنّ الإيمان بالإمام يقضي بزوال ملكه.. وبزواله!.
قال أبو هاشم الجعفريّ رحمه الله:
(كان للمتوكل مجلس بشبابيك كيما تدور الشمس في حيطانه، وقد جعل فيه طيوراً مصوّتةً، فإذا كان يوم السلام جلس في ذلك المجلس، فإذا دخل إليه أحد لم يسمع ولم يسمع ما يقول لاختلاف أصوات تلك الطيور!. فإذا وافاه عليّ بن محمدٍ الرّضا (عليه السلام) سكنت الطّيور جميعاً.. فإذا خرج من باب المجلس عادت في أصواتها!.
قال: وكان عنده عدّة من القوابج - الحجل والكروان - في الحيطان - أي في الحدائق - فكان يجلس في مجلس له عال، ويرسل تلك القوابج تقتل وهو ينظر إليها ويضحك منها.. فإذا وافى عليّ بن محمدٍ (عليه السلام) ذلك المجلس، لصقت القوابج بالحيطان فلا تتحرك من مواضعها حتى ينصرف. فإذا انصرف عادت في القتال)(30).
فما أحرى الإنسان بأن يتعلّم الأدب من مثل هذا الحيوان.. يا خليفة الزمان!.
أما كان الأليق بالعاقل أن يتفكّر، ويتدبّر.. بدل يحقد، ويتكبّر؟!.
وحقيق بمن كان يملك رشداً أن يختار لنفسه الأولى والأحجى.. ومن يدّع بأنّك لم تدرك هذه الظواهر الغريبة من الطّيور أثناء وجود الإمام (عليه السلام)، نقل له: أخطأت في ادّعائك وغمست لقمتك خارج الصّحن، لأنّ الطيور المتقاتلة الصاخبة لم يكن ليهدأ صخبها إلاّ بحضرة الإمام الذي هو حجّة الله على مخلوقاته من الإنس والجنّ وجميع ذوات الأرواح.. وبمرأى من خليفة المسلمين الذي لم يكن عديم الفهم ولا قليل الإدراك.. والذي هو من أسرةٍ استعدت لبني عليّ (عليه السلام).. والعدوّ لا يكون صديقاً بوجهٍ من الوجوه!. ولكن لم لا يكون مسلماً مسلّماً بمشيئة الله وتقديره في خلقه؟! وإذا استعدى لعليّ وبنيه فلم استعدى لله ولتقديره في مخلوقاته؟!.
إنه خليفة خائب يريد أن ينزع عن الإمام (عليه السلام) ما ألبسه الله تعالى من سربال عظمته وهيبته ووقاره، ويحاول كإنسان أن يقف بوجه إرادة ربّ.. فانقلب حسيراً، بقيت غصّته في صدره كما بقيت أحقاد آبائه مدفونةً معهم في صدورهم.. وقبورهم!.
* * *
وإليك مكيدةً دبّرها الخليفة وأعوانه في ليلٍ، ليمكروا بالإمام (عليه السلام) فتجلّى فيها سرّه الإلهيّ وقلب مكرهم على رؤوسهم صاعقةً ما حقةً بمعنى المحق الواقعيّ. فإنّ زرافة - حاجب المتوكل - قال:
(وقع رجل مشعوذ يلعب بالحقّة لم ير مثله - والحقة علبة من خشبٍ يضعون فيها شيئاً يراه الناس ويغلقونها، ثم يفتحونها فلا يجدون شيئاً - .
وكان المتوكل لعّاباً - كثير اللعب - فأراد أن يخجل عليّ بن محمدٍ ابن الرّضا (عليهم السلام)، فقال لذلك الرجل: إن أنت أخجلته فلك ألف دينارٍ زكيّة.
قال - المشعوذ - فتقدّم - أي أعط أوامرك - أن يخبز رقاق خفاف تجعل على المائدة، وأقعدني إلى جنبه.. ففعل.
وأحضر عليّ بن محمد ٍ(عليهما السلام) للطعام، وجعل له مسورة - متّكأ من جلد - عن يساره كان عليها صورة أسد. وجلس اللاعب إلى جنب المسورة.
فمدّ عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام) يده إلى رقاقةٍ - من الخبز - فطيّرها اللاعب في الهواء.. ومدّ يده إلى أخرى، فطيّرها.. فتضاحك الناس.
فضرب عليّ بن محمد (عليهما السلام) يده على تلك الصورة - صورة الأسد التي على المسورة وقال: خذ عدوّ الله!.
فوثبت تلك الصورة من المسورة فابتلعت الرجل اللاعب، وعادت إلى المسورة كما كانت!.
فتحيّر الجميع.. ونهض عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام) ليمضي، فقال المتوكل: سألتك بالله إلاّ جلست ورددته.
فقال: والله لا يرى بعدها! أتسلّط أعداء الله على أوليائه؟!!
وخرج من عنده، ولم ير الرجل بعد ذلك(31).
وقد رويت هذه الحادثة في مشارق الأنوار، عن البرسي، عن محمد بن الحسن الجهنّي الذي قال:
(حضر مجلس المتوكل مشعبذ هنديّ، فلعب عنده بالحقّ فأعجبه، فقال: يا هندي، الساعة يحضر مجلسنا شريف، فإذا حضر فالعب عنده ما يخجله.
قال: فلمّا حضر أبو الحسن (عليه السلام) المجلس، لعب الهنديّ، فلم يلتفت إليه، فقال له: يا شريف ما بعجبك لعبي؟ كأنّك جائع؟ ثم أشار إلى صورةٍ مدوّرةٍ في البساط على شكل الرغيف، وقال: يا رغيف، مرّ على هذا الشريف.. فارتفعت الصورة.
فوضع أبو الحسن (عليه السلام) يده على صورة سبع في البساط، وقال: قم فخذ هذا؟ فصارت الصورة سبعاً وابتلع الهنديّ وعاد إلى مكانه في البساط!.
فسقط المتوكل لوجهه، وهرب من كان قائماً)(32).
فسبحان من تجلّت عنايته بعبده الصالح الذي اختاره لأمره وقضيّته، وجعله حجةً علي بريّته، ونصره على من أراد أن ينال من قدسيّته الربّانيّة وينتقص من قدره في مجالس لهوه وطيشه!.
وقد قال جحا لزوجته: تقولين إنّ القطّ أكل اللحم الذي اشتريته. وقد وزنت القطّ فكان وزنه بوزن اللحم!. فإذا كان هذا القط، فأين اللحم؟. وإذا كان هذا اللّحم، فأين القط؟!.
ونحن نقول للمتوكل: وضع الإمام (عليه السلام) يده المباركة على صورة الأسد وقال له: قم فخذ هذا!. فانبعثت الصورة أسداً هائجاً ابتلع صاحبك الهنديّ وعاد إلى مكانه في الصورة.. فإذا كانت هذه الصورة، فأين هنديّك بجسده ولحمه وعظمه وهامته؟!! وكيف ابتلعته صورة مرسومة على مسندك وغيّبته بما فيه وبما معه، وجعلته طيّ العدم، ثم عادت صورةً كما كانت؟!!. وإذا كان الهندي قد تحوّل إلى صورةٍ على بساطك فأين الأسد الزائر الذي أسقطك على وجهك هلعاً؟!!.
أفلم يظهر لهذا العابث اللاهي الذي تسمّى (خليفة المسلمين) أنّ عمل الإمام (عليه السلام) لم يكن سحراً ولا شعوذة، بل هو آية صدرت عنه بإذن ربّه لمّا تحدّى الخليفة إرادة ربّه؟!. وإنّ من نصّب نفسه لإمارة المؤمنين، وقعد مقعد سيّد المرسلين، لا ينبغي له أن يتنقّص من آل الله وصفوته وخلصائه!. فإنّ قدرة الله عز اسمه لا يقوم لها شيء.. ولن تلهينا فاجعتك بالهنديّ، يا أمير المسلمين، عن أن نسألك - عمّا هو أهمّ من فاجعتك به. ذلك أنه كيف تدفع للمشعوذ ألف دينارٍ زكيةً من بيت مال المسلمين وحولك الألوف والألوف من الجوعى والمحرومين من المسلمين؟!.
ثم تنتقل بنا آلة التصوير إلى فعل الله عزّ وجلّ مع المتوكل نفسه حين أراد أن يفتري على الإمام وينسب إليه السوء. فقد قال فارس بن حاتم بن ماهويه:
(بعث يوماً المتوكل إلى أبي الحسن (عليه السلام): أنا راكب فاخرج معنا إلى الصّيد لنتبرّك بك.
فقال - أي الإمام (عليه السلام) - للرسول: قل له: إنّي راكب.
فلمّا خرج الرسول قال - الإمام - لنا: كذب، ما يريد إلاّ غير ما قال.
قلت: يا مولانا، فما الذي يريد؟
قال: يظهر هذا القول - أي التبرّك به - فإنّ أصابه خير نسبه إلى ما يريد بنا ممّا يبعده من الله، وإن أصابه شرّ نسبه إلينا. وهو يركب في هذا اليوم ويخرج إلى الصّيد، فيرد هو وجيشه على فتزلّ رجله وتتوهّن يداه ويمرض شهراً.
قال فارس: فركب سيّدنا وسرنا في المركب معه، والمتوكل يقول: أين ابن عمّي المدني؟ أي الإمام (عليه السلام) الذي لم يدر اسمه على لسان الخليفة فقال: المدنيّ.
فيقال له: سائر يا أمير المؤمنين في الجيش.
فيقول: ألحقوه بنا.
ووردنا النّهر والقنطرة، فعبر سائر الجيش وتشعّشت القنطرة وتهدّمت ونحن نسير في أواخر الناس مع سيّدنا، ورسل المتوكل تحثّه.. فلمّا وردنا النّهر والقنطرة امتنعت دابته أن تعبر، وعبر سائر دوابّنا. فأجهدت رسل المتوكل عبور دابّته فلم تعبر. وعبره المتوكل فلحقوا به. ورجع سيدنا.
فلم يمض إلاّ ساعات حتى جاءنا الخبر أنّ المتوكل سقط عن دابّته، وزلّت رجله وتوهّنت يداه، وبقي عليلاً شهراً.. وعتب على أبي الحسن (عليه السلام)، وقال: إنّما رجع عنّا لئلاّ يصيبنا هذه السقطة فنشأم.
فقال أبو الحسن (عليه السلام): صدق الملعون، وأبدى ما في نفسه)(33).
فيا أيّها الملعون على لسان إمامنا الهاشميّ القرشيّ المدنيّ (عليه السلام)، والملعون معك راوي هذه الحادثة الذي أمر الإمام بقتله لكفره فيما بعد - إنّنا نقول لك: (ومن النّاس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدّنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين)(34).
فقد انقلبت على وجهك عن ظهر فرسك، وبؤت بعار هذه الآية الكريمة وشنارها بعد أن توهّنت يداك ومرضت شهراً كاملاً كما قال أبو الحسن (عليه السلام) حين علم ما في نفسك.. وإنّه لقذى في عينك وشجاً في خلقك!. وقد رجع من رحلتك المشؤومة بسلامٍ بعد أن صدق قوله فيك!.
وأنت هو ذاك الذي يعبد الله على حرف.. إذ أضمرت إن أصبت خيراً أن تتزلّف وترائي وتقول للإمام: هذا ببركتك، وإن أصابك شر أن تتشأم به..
ولأنت كالمعاندين لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذين وصفهم سبحانه بقوله الكريم: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيّئة يقولوا هذه من عندك..)(35).
* * *
قال محمد بن مسعود:
(قال يوسف بن السخت: كان عليّ بن جعفر - عمّ جدّ الإمام - وكيلاً لأبي الحسن صلوات الله عليه. وكان رجل من أهل همينيا - قرية من سواد بغداد - قد سعى به إلى المتوكل فحبسه فطال حبسه. واحتال - أي قبلت حوالته كإخلاء سبيل له - من قبل عبد الرحمن بن خاقان بمالٍ ضمنه عنه: ثلاثة آلاف دينار.
وكلّم - الضامن - عبيد الله بن يحيى بن خاقان - وزير المتوكل، فعرض حاله على المتوكل فقال: يا عبيد الله لو شككت فيك لقلت إنّك رافضي. هذا وكيل فلانٍ - أي الإمام (عليه السلام) - وأنا على قتله - أي مصمّم على قتله - .
قال: فتأدّى الخبر إلى عليّ بن جعفر - المحبوس - فكتب إلى أبي الحسن (عليه السلام): يا سيّدي الله الله فيّ، فقد والله خفت أن أرتاب.
فوقّع رقعته: أمّا إذا بلغ بك الأمر ما أرى، فسأقصد الله فيك.
وكان هذا في ليلة الجمعة، فأصبح المتوكل محموماً.. فازدادت عليه حتى صرخ عليه يوم الاثنين - أي أعلن قرب احتضاره - . فأمر بتخلية كلّ محبوس عرض عليه اسمه، حتى ذكر هو عليّ بن جعفر وقال لعبيد الله - وزيره -: لم لم تعرض عليّ أمره؟!.
فقال: لا أعود لذكره أبداً. - خوف اتّهامه بكونه رافضيّاً - .
قال: خلّ سبيله الساعة وسله أن يجعلني في حلّ.
فخلّى سبيله، وصار إلى مكة بأمر أبي الحسن (عليه السلام) مجاوراً بها.. وبرئ المتوكل من علّته)(36).
وقال عليّ بن جعفر بهذه المناسبة:
(عرضت أمري على المتوكل فأقبل على عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقال: لا تتعبنّ نفسك بعرض قصة هذا وأشباهه، فإنّ عمّك أخبرني أنه رافضيّ وأنه وكيل عليّ بن محمد.. وحلف أن لا يخرج من السجن إلاّ بعد موته. فكتبت إلى مولانا: إنّ نفسي قد ضاقت، وإنّي أخاف الزّيغ.
فكتب إليّ: أمّا إذا بلغ الأمر منك ما أرى، فسأقصد الله فيك.
فما عادت الجمعة حتى أخرجت من السّجن)(37).
فهلاًّ أتّعظ بها الخليفة الغاضب الذي بات ليلته مصمّماً على قتله، وأفاق على معاناة الحمّى التي كادت تؤدي بحياته؟!! قطعاً، لا.. ومن لم يكن له من نفسه واعظ، لا تنفعه المواعظ.. وما أبعد أرباب الممالك عن ترك جبروتهم الذي يوردهم المهالك!.
* * *
وحدّث أبو الحسين، سعيد بن سهل البصريّ الذي كان حاجياً للمتوكل، وكان يلقّب بالملاّح، فقال:
(دلّني أبو الحسن، وكنت واقفيّاً - وغير قائل بإمامته - فقال: إلى كم هذه النّومة؟ أما آن لك أن تنتبه منها؟!. فقدح في قلبي شيئاً، وغشي عليّ، واتّبعت الحق)(38).
وروي مثل هذا الخبر عنه نفسه، فقال:
(كان جعفر بن القاسم الهاشميّ البصريّ يقول بالوقف - أي لا يعترف بإمام زمانه - وكنت معه بسرّ من رأى إذ رآه أبو الحسن (عليه السلام) في الطريق، فقال: إلى كم هذه النّومة؟ أما أن تنتبه منها؟!.
فقال لي جعفر: أما سمعت ما قال لي عليّ بن محمد؟!. قد والله وقع في قلبي شيء - أي قد تأثّر بقول الإمام له، لأنه علم ما في نفسه من الوقف، رغم أنه لم يصرّح بذلك.
فلمّا كان بعد أيام، حدث لبعض أولاد الخليفة وليمة، فدعانا إليها، ودعا أبا الحسن معنا. فدخلنا، فلمّا رأوه أنصتوا إجلالاً له.
وجعل شابّ في المجلس لا يوقّره، وأخذ يتحدّث، ويلغط، ويضحك.
فأقبل - الإمام - عليه فقال له: يا هذا، أتضحك بملء فيك، وتذهل عن ذكر الله وأنت بعد ثلاثة أيام من أهل القبور؟!.
قال جعفر بن القاسم الهاشمي: فأمسك الفتى، وكفّ عمّا هو عليه، وطعمنا وخرجنا.. فلمّا كان بعد يوم اعتلّ الفتى؛ ومات في اليوم الثالث من أول النهار، ودفن فيه!)(39).
وقبل أي تعليقٍ على هذه الآية الكريمة الصادرة عن إمامنا العظيم صلوات الله عليه، نورد للقارئ آيةً مشابهةً لها، رواها سعيد بن سهل البصريّ - أيضاً - فقال:
(اجتمعنا في وليمةٍ لبعض أهل سرّ من رأى، وأبو الحسن (عليه السلام) معنا. فجعل رجل يعبث ويمزح ولا يرى له جلالة - أي لا يوقّر الإمام - .
فأقبل الإمام على جعفر - بن القاسم الهاشمي - فقال: أمّا إنّه لا يأكل من هذا الطعام. وسيرد عليه من خبر أهله ما ينغّص عليه عيشه.
قال: فقدّمت المائدة، وقال جعفر - الواقفيّ -: ليس بعد هذا خبر. قد بطل قوله! - أي لم يتحقّق ما قاله الإمام، وقد رأى جعفر ذلك بنفسه.. والرجل لا يزال يعبث - فوالله قد غسل الرجل يديه وأهوى إلى الطعام، فإذا غلامه قد دخل من باب البيت يبكي وقال له: الحق أمّك، فقد وقعت من فوق سطح البيت، وهو في الموت!.
قال جعفر: والله لا وقفت بعد هذا!. وقطعت عليه)(40). اعترف بإمامته (عليه السلام).
فتبارك ربّك الذي اجتباك لعزائم أمره يا أبا الحسن، واصطفاك لحمل الكلمة العظمى والدّعوة الكبرى!.
وكم هي ساهرة عينه سبحانه على كرامتك يا وليّه في أرضه!.
فكثيراً ما حاولوا النّيل من جاهك عند الله، فتلقّاهم ربّك بقاصمةٍ قطعت منهم حبل الوريد، ولوت عنق كلّ جبّارٍ عنيد!.
وخسئ شاب غرّ، أو رجل عابث، أن يتطاولا إلى سامي المرتبة التي رتّبك الله تعالى فيها. وخسر من ناواك خسراناً عظيماً، وضلّ من ضلّ عن عيبة علمك وجزيل فضلك ضلالاً مبيناً..
وبقيت أنت أنت في سموّ معناك وفي سموّ ذاتك.. سفيراً لله، محصّناً من لدنه... يسند ظهره إلى ركن ركين..
* * *
وروى الفحّام، عن أبي الحسن محمد بن أحمد، عن عمّ أبيه، قائلاً:
(قصدت الإمام (عليه السلام) يوماً فقلت: يا سيّدي، إن هذا الرجل - أي المتوكل، لأن العمّ المذكور من حجّابه - قد اطرّحني وقطع رزقي، وملّني. وما أتّهم في ذلك إلاّ علمه بملازمتي لك. وإذا سألته شيئاً منه يلزمه القبول منك، فينبغي أن تتفضّل عليّ بمسألته.
فقال: تكفى إن شاء الله.
فلمّا كان في اللّيل طرقني رسل المتوكل رسول يتلو رسولاً، فجئت والفتح بن خاقان على الباب قائم، فقال: يا رجل ما تأوي في منزلك بالليل؟!. كدّني هذا الرجل - أي المتوكل - ممّا يطلبك.
فدخلت وإذا المتوكل جالس على فراشه، فقال: يا أبا موسى، نشغل عنك وتنسينا نفسك؟ أيّ شيءٍ لك عندي؟
فقلت: الصّلة الفلانيّة والرّزق الفلانيّ. وذكرت أشياء فأمر لي بها وبضعفها!.
فقال: لا.
فقلت: كتب رقعه؟!.
فقال: لا.
فولّيت منصرفاً، فتبعني فقال لي: لست أشكّ أنك سألته دعاء لك. فالتمس لي منه دعاءً.
فلما دخلت إليه (عليه السلام)، قال لي: يا أبا موسى، هذا وجه الرّضا.
فقلت: ببركتك يا سيّدي. ولكن قالوا لي: إنّك ما مضيت إليه، ولا سألته!.
فقال: إنّ الله تعالى علم منّا أنّا لا نلجأ في المهمّات إلاّ إليه، ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه، وعوّدنا إذا سألناه الإجابة، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا.
قلت: إنّ الفتح قال لي كيت وكيت - أي طلب التماس دعاء - .
قال: إنّه يوالينا بظاهره، ويجانبنا بباطنه. الدّعاء لمن يدعو به - أي تابع لحال الداعي - إذا أخلصت في طاعة الله، واعترفت برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبحقّنا أهل البيت، وسألت الله تبارك وتعالى شيئاً لم يحرمك.
قلت: يا سيّدي، فتعلّمني دعاءً أختصّ به من الأدعية؟
قال: هذا الدعاء كثيراً ما أدعو الله به، وقد سألت الله أن لا يخيّب من دعا به في مشهدي بعدي، وهو هذا:
يا عدّتي عند العدد، ويا رجائي والمعتمد، ويا كهفي والسّند، ويا واحد يا أحد، يا قل هو الله أحد، أسألك اللّهمّ بحقّ من خلقتهم من خلقك ولم تجعل في خلقك مثلهم أحداً، أن تصلّي عليهم وتفعل بي كيت وكيت)(41).
فمذ أراد أبو الحسن (عليه السلام) الفرج لصاحبه المظلوم الذي يتولاّه، قضى الله تعالى له المراد!. فقد عوّده سبحانه الجميل لأنه لا يصانع غير وجهه الكريم - أكرم الوجوه - ولا يطرق إلاّ بابه، ولا يلجأ في مهمّاته وملمّاته إلاّ إلى حضرة قدسه التي لا ينطق إلاّ بأمرها، ولا يعمل إلاّ بوحيها وإلهامها.
أفرأيت أيّها المتوكل.. كيف يديل الله تعالى أولياءه من أعدائه؟!. وشعرت كيف بدّل سبحانه غضبك وسخطك على الرّجل باعتذار منك له عن تقصيرك بحقّه فاندفعت تضاعف له عطاياه وصلاته؟!. غيرك يحسّ، ويتدبّر.. وأنت سادر في نشوة الحكم والمكث في قصر (إمارة المؤمنين) الذي انقلب بوجودك إلى ماخورٍ تنبعث منه روائح الخمر، والفسق، والدّعارة، والفجور..
* * *
وفي المعتمد في الأصول، قال عليّ بن مهزيار:
(وردت العسكر وأنا شاكّ في الإمامة؛ فرأيت السلطان قد خرج إلى الصّيد في يوم من الربيع إلاّ أنه صائف، والناس عليهم ثياب الصيف، وعلى أبي الحسن (عليه السلام) لبّادة وعلى فرسه تجفاف لبود، وقد عقد ذنب الفرس والناس يتعجّبون ويقولون: ألا ترون إلى هذا المدنيّ وما قد فعل بنفسه؟!.
فقلت في نفسي: لو كان هذا إماماً ما فعل هذا.
فلمّا خرج الناس إلى الصحراء، لم يلبثوا إلاّ أن ارتفعت سحابة عظيمة هطلت فلم يبق أحد حتى غرق بالمطر، وعاد (عليه السلام) وهو سالم من جميعه!. فقلت في نفسي: يوشك أن يكون هو الإمام.. ثم قلت: أريد أن أسأله عن الجنب إذا عرق في الثوب: فقلت في نفسي! إن كشف وجهه فهو الإمام.
فلمّا قرب منّي كشف وجهه ثم قال: إن كان عرق الجنب في الثوب وجنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه، وإن كان جنابته من حل