مناظرة الاِمام الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي في البداء وإرادة الله تعالى
روي عن الحسن بن محمد النوفلي انّه قال: قدم سليمان المروزي(1) متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله ثم قال له : إن ابن عمي علي بن موسى الرضا قدم عليّ من الحجاز وهو يحب الكلام وأصحابه فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته.
فقال سليمان : يا أمير المؤمنين ، إني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم فينتقص عند القوم إذا كلّمني ولا يجوز الانتقاص عليه.
قال المأمون : إنما وجّهت إليه لمعرفتي بقوتك وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط.
فقال سليمان : حسبك يا أمير المؤمنين اجمع بيني وبينه وخلني والذم.
فوجه المأمون إلى الرضا عليه السلام فقال : إنه قدم إلينا رجل من أهل مرو ، وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام فإن خف عليك أن تتجشّم المصير إلينا فعلت.
فنهض عليه السلام للوضوء وقال لنا : تقدموني ، وعمران الصابي معنا فصرنا إلى الباب ، فأخذ ياسر وخالد بيدي فأدخلاني على المأمون فلما سلمت قال: أين أخي أبو الحسن أبقاه اللّه تعالى ؟
قلت: خلّفته يلبس ثيابه وأمرنا أن نتقدم ثم قلت : يا أمير المؤمنين ، إن عمران مولاك معي وهو على الباب.
فقال: ومن عمران ؟
قلت: الصابي الذي أسلم على يدك.
قال: فليدخل فدخل فرحَّب به المأمون ثمَّ قال له: يا عمران لم تمت حتى صرت من بني هاشم.
قال: الحمد لله الذي شرَّفني بكم يا أمير المؤمنين.
فقال له المأمون : يا عمران هذا سليمان المروزي متكلم خراسان.
قال عمران : يا أمير المؤمنين ، انّه يزعم واحد خراسان في النظر ، وينكر البداء.
قال: فلم لا تناظروه ؟
قال عمران: ذلك إليه.
فدخل الرضا عليه السلام فقال: في أي شيء كنتم ؟
قال عمران : يا ابن رسول الله هذا سليمان المروزي.
فقال له سليمان: أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه ؟
فقال عمران: قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني فيه بحجة أحتجُّ بها على نظرائي من أهل النظر.
قال المأمون : يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه ؟
قال : وما أنكرت من البداء يا سليمان ، والله عزّ وجلّ يقول: ( أوَ لاَ يَذْكُرُ الاِِنْسَانُ أنَّا خَلَقْنَاه مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيئاً )(2)ويقول عزّ وجلّ : ( وَهُوَ الَّذي يَبْدَءُ الخَلْق ثُمَّ يُعِيدهُ )(3)ويقول : ( بَدِيعُ السَّمَواتِ وَالاَرْضِ )(4)ويقول عزّ وجلّ : ( يَزِيدُ في الخَلقِ مَا يشاءُ )(5)ويقول : ( وَبَدَأَ خَلْقَ الاِنسانِ من طِينٍ )(6) ويقول عز وجل : ( وَآخَرونَ مُرجَونَ لاََِمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهم وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيهمْ )(7)ويقول عزّ وجلّ: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِن عُمُرهِ إِلاّ في كِتابٍ )(
.
قال سليمان: هل رويت فيه من آبائك شيئاً ؟
قال: نعم رويت عن أبي عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: إنَّ لله عزّ وجلّ علمين علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، وعلماً علَّمه ملائكته ورسله فالعلماء من أهل بيت نبينا يعلمونه.
قال سليمان: أحب أن تنزعه لي من كتاب الله عزّ وجلّ.
قال: قول الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وآله : ( فَتَوَلَّ عَنهُم فَمَا أنتَ بِمَلُومٍ )(9)أراد هلاكهم ، ثمَّ بدا لله تعالى فقال: ( وَذَكِّر فإِنَّ الذِكرَى تَنَفعُ المؤُمِنِينَ )(10).
قال سليمان: زدني جعلت فداك.
قال الرضا: لقد أخبرني أبي عن آبائه : عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبي من أنبيائه أنْ أخبر فلاناً الملك : أني متوفيه إلى كذا وكذا، فأتاه ذلك النبي فأخبره فدعا الله الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير وقال : يا رب ، أجِّلني حتى يشبَّ طفلي وأقضي أمري ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى ذلك النبي أن أئت فلاناً الملك ، فأعلمه انّي قد انسيت في أجله وزدت في عمره إلى خمس عشرة سنة ، فقال ذلك النبي عليه السلام: يا رب إنك لتعلم أني لم أكذب قط ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: إنّما أنت عبدٌ مأمورٌ فأبلغه ذلك ، والله لا يسئل عمّا يفعل.
ثمّ التفت إلى سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب.
قال: أعوذ بالله من ذلك ، وما قالت اليهود ؟
قال: قالت اليهود: ( يَدُ اللهِ مَغلُولةٌ )(11)يعنون أن الله تعالى قد فرغ من الاَمر فليس يحدث شيئاً ، فقال الله عزّ وجلّ : ( غُلَّت أيدِيِهم وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا )(12) ولقد سمعت قوماً سألوا أبي موسى بن جعفر عليه السلام عن البداء ، فقال: وما ينكر الناس من البداء ، وأن يقف الله قوماً يرجيهم لاَمره.
قال سليمان: ألا تخبرني عن ( إنَّا أَنزَلنَاهُ في لَيلَةِ القَدرِ )(13)في أي شيء أنزلت ؟
قال: يا سليمان ، ليلة القدر يقدر الله عزّ وجلّ فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق، فما قدره في تلك الليلة فهو من المحتوم.
قال سليمان : الآن قد فهمت جعلت فداك فزدني.
قال الرضا عليه السلام : إن من الاَمور أموراً موقوفة عند الله عزّ وجلّ يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ، يا سليمان إنَّ علياً كان يقول: العلم علمان فعلم عِلمه الله وملائكته ورسله فما علَّمه ملائكته ورسله فإنّه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ، ويثبت ما يشاء.
قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين ، لا أنكر بعد يومي هذا البداء ولا أكذب به إن شاء الله.
فقال المأمون: يا سليمان ، سل أبا الحسن عما بدا لك ، وعليك بحسن الاستماع والاِنصاف.
قال سليمان: يا سيدي أسألك ؟
قال الرضا عليه السلام : سل عمّا بدا لك.
قال : ما تقول فيمن جعل الارادة اسماً وصفة ، مثل حي وسميع وبصير وقدير.
قال الرضا عليه السلام : إنما قلتم: حدثت الاَشياء واختلفت لاَنّه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت الاَشياء واختلفت لاَنّه سميع بصير ، فهذا دليل على أنّهما ليستا مثل سميع ولا بصير ولا قدير.
قال سليمان: فإنّه لم يزل مريداً.
قال عليه السلام : يا سليمان فإرادته غيره.
قال: نعم.
قال: فقد أثبتَّ معه شيئاً غيره لم يزل.
قال سليمان: ما أثبتُّ.
قال الرضا عليه السلام : أهي محدثة ؟
قال سليمان: لا ، ما هي محدثة.
فصاح به المأمون وقال: يا سليمان ، مثله يعايى أو يكابر ؟ عليك بالاِنصاف أما ترى من حولك من أهل النظر ؟ثمّ قال: كلِّمه يا أبا الحسن فإنّه متكلم خراسان ، فأعاد عليه المسألة.
فقال: هي محدثة يا سليمان ، فإن الشيء إذا لم يكن أزلياً كان مُحدَثاً ، وإذا لم يكم محدثاً كان أزلياً.
قال سليمان : إرادته منه كما أن سمعه وبصره وعلمه منه.
قال الرضا عليه السلام : فأراد نفسه ؟
قال: لا.
قال: فليس المريد مثل السميع البصير ؟
قال سليمان: إنما أراد نفسه وعلم نفسه.
قال الرضا عليه السلام : ما معنى أراد نفسه ؟ أراد أن يكون شيئاً ، وأراد أن يكون حياً أو سميعاً أو بصيراً أو قديراً ؟
قال: نعم.
قال الرضا عليه السلام : أفبإرادته كان ذلك ؟
قال سليمان : نعم.
قال الرضا عليه السلام : فليس لقولك أراد أن يكون حياً سميعاً بصيراً معنى ، إذا لم يكن ذلك بإرادته.
قال سليمان: بلى قد كان ذلك بإرادته.
فضحك المأمون ومن حوله ، وضحك الرضا عليه السلام ، ثمّ قال لهم: ارفقوا بمتكلم خراسان ، فقال: يا سليمان فقد حال عندكم عن حاله وتغير عنها ، وهذا ما لا يوصف الله عزّ وجلّ به فانقطع.
ثمَّ قال الرضا عليه السلام : يا سليمان أسألك عن مسألة.
قال: سل جعلت فداك.
قال : أخبرني عنك وعن أصحابك ، تُكلِّمون الناس بما تفقهون وتعرفون، أو بما لا تفقهون ولا تعرفون ؟
قال: بل بما نفقه ونعلم.
قال الرضا عليه السلام : فالذي يعلم الناس أن المريد غير الاِرادة ، وأن المريد قبل الاِرادة ، وأن الفاعل قبل المفعول ، وهذا يبطل قولكم أن الاِرادة والمريد شيءٌ واحدٌ.
قال: جعلت فداك ليس ذلك منه على ما يعرف الناس ولا على ما يفقهون.
قال الرضا عليه السلام : فأراكم ادَّعيتم علم ذلك بلا معرفة وقلتم: الاِرادة كالسمع والبصر ، إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ولا يعقل، فلم يحر جواباً.
ثمّ قال الرضا عليه السلام : يا سليمان ، هل يعلم الله جميع ما في الجنة والنار ؟
قال سليمان: نعم.
قال: أفيكون ما علم الله تعالى أنه يكون من ذلك ؟
قال: نعم.
قال: فإذا كان حتى لا يبقى منه شيء إلا كان ، أيزيدهم أو يطويه عنهم ؟
قال سليمان: بل يزيدهم.
قال : فأراه في قولك قد زادهم ما لم يكن في علمه أنه يكون.
قال: جعلت فداك ، فالمريد لا غاية له.
قال: فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما، إذا لم يعرف غاية ذلك، وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون تعالى الله عزّ وجلّ عن ذلك علواً كبيراً.
قال سليمان إنّما قلت: لا يعلمه لاَنّه لا غاية لهذا لاَن الله عزّ وجلّ وصفهما بالخلود وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً.
قال الرضا عليه السلام : ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم لاَنّه قد يعلم ذلك ثمّ يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم ، وكذلك قال الله عزّ وجلّ في كتابه : ( كُلَّمَا نَضِجَت جُلُودُهُم بَدَّلنَاهُم جُلُوداً غَيرَهَا لِيَذُقُوا العَذَابَ )(14)وقال لاَهل الجنة: ( عَطَاءً غَيرَ مَجذُوذٍ )(15)وقال عزّ وجلّ : ( وَفَاكِهةٍ كثيرَةٍ * لاَّ مَقطُوعةٍ وَلاَ مَمنُوعَةٍ )(16) فهو عزّ وجلّ يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة ، أرأيت ما أكل أهل الجنة وما شربوا ليس يخلف مكانه ؟
قال: بلى.
قال: أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه ؟
قال سليمان : لا.
قال : فكذلك كلما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم ؟
قال سليمان: بلى يقطعه عنهم ولا يزيدهم.
قال الرضا : إذاً يبيد فيها ، وهذا يا سليمان إبطال الخلود وخلاف الكتاب ، لاَنّ الله عزّ وجلّ يقول: ( لَهُم مَّا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَلَدينَا مَزِيدٌ )(17)ويقول عزّ وجلّ
عَطَاءً غَيرَ مَجذُوذٍ )(18)ويقول عزّ وجلّ : ( وَمَا هُم مِّنهَا بِمُخرَجينَ )(19) ويقول عزّ وجلّ : ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبدَاً )(20)ويقول عزّ وجلّ : ( وَفَاكِهةٍ كثيرَةٍ * لا مَقطُوعةٍ وَلاَ مَمنُوعَةٍ )(21).
فلم يحر جواباً ؟!
ثمّ قال الرضا : يا سليمان ، ألا تخبرني عن الاِرادة فعل هي أم غير فعل؟
قال: بلى هي فعل.
قال : فهي محدثة لاَنّ الفعل كله محدث.
قال: ليست بفعل.
قال: فمعه غيره لم يزل.
قال سليمان: الاِرادة هي الاِنشاء.
قال: يا سليمان ، هذا الذي عبتموه على ضرار وأصحابه من قولهم: إن كُلَّ ما خلق الله عزّ وجلّ في سماء أو أرض أو بحر أو بر من كلب أو خنزير أو قرد أو إنسان أو دابة إرادة الله ، وإن إرادة الله تحيى وتموت وتذهب وتأكل وتشرب وتنكح وتلد وتظلم وتفعل الفواحش وتكفر وتشرك ، فيبرأ منها ويعاد بها ، وهذا حدها.
قال سليمان: إنها كالسمع والبصر والعلم.
قال الرضا : قد رجعت إلى هذا ثانية ، فأخبرني عن السمع والبصر والعلم أمصنوع ؟
قال سليمان : لا.
قال الرضا : فكيف نفيتموه ؟ قلتم : لم يرد ، ومرة قلتم: أراد وليست بمفعول له.
قال سليمان: إنّما ذلك كقولنا مرة علم ومرة لم يعلم.
قال الرضا : ليس ذلك سواء ، لاَن نفي المعلوم ليس كنفي العلم ، ونفي المراد نفي الاِرادة أن تكون ؛ لاَن الشيء إذا لم يرد لم تكن إرادة ، فقد يكون العلم ثابتاً ، وإن لم يكن المعلوم بمنزلة البصر فقد يكون الاِنسان بصيراً وإن لم يكن المبصر ، وقد يكون العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم.
قال سليمان: إنّها مصنوعة.
قال: فهي محدثة ليست كالسمع والبصر ، لاَن السمع والبصر ليسا بمصنوعين وهذه مصنوعة.
قال سليمان: إنها صفة من صفاته لم تزل.
قال: فينبغي أن يكون الاِنسان لم يزل ، لاَن صفته لم تزل.
قال سليمان: لا لاَنّه لم يفعلها.
قال الرضا : يا خراساني ، ما أكثر غلطك ! أفليس بإرادته وقوله تكون الاَشياء ؟
قال سليمان: لا.
قال: فإذا لم تكن بإرادته ولا مشيئته ولا أمره ولا بالمباشرة فكيف يكون ذلك ؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فلم يحر جواباً ؟!
ثمّ قال الرضا : ألا تخبرني عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَإذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا )(22)
يعني بذلك أنّه يحدث إرادة.
قال له : نعم.
قال : فإذا حدث إرادة كان قولك إن الاِرادة هي هو أو شيء منه باطلاً، لاَنّه لا يكون أن يحدث نفسه ، ولا يتغير عن حالةٍ تعالى الله عن ذلك.
قال سليمان: إنّه لم يكن عنى بذلك أنّه يحدث إرادة.
قال: فما عنى به ؟
قال : عنى فعل الشيء.
قال الرضا : ويلك كم تردد في هذه المسألة ؟ وقد أخبرتك أن الاِرادة محدثة لاَن فعل الشيء محدث.
قال: فليس لها معنى.
قال الرضا : قد وصف نفسه عندكم حتى وصفها بالاِرادة بما لا معنى له، فإذا لم يكن لها معنى قديم ولا حديث بطل قولكم إن الله عزّ وجلّ لم يزل مريداً.
قال سليمان: إنّما عنيت أنّها فعلٌ من الله تعالى لم يزل.
قال: ألا تعلم أن ما لم يزل لا يكون مفعولاً وقديماً وحديثاً في حالة واحدة ؟
فلم يحر جواباً ؟!
قال الرضا : لا بأس أتمم مسألتك.
قال سليمان : قلت إنّ الاِرادة صفة من صفاته.
قال: كم تردِّد عليَّ أنها صفة من صفاته فصفته محدثة أو لم تزل ؟
قال سليمان: محدثة.
قال الرضا : الله أكبر فالاِرادة محدثة وإن كانت صفة من صفاته لم تزل.
فلم يرد شيئاً.
قال الرضا : إنّما لم يزل لم يكن مفعولاً.
قال سليمان : ليس الاَشياء ارادة ، ولم يرد شيئاً.
قال الرضا : وسوست يا سليمان ، فقد فعل وخلق ما لم يزل خلقه وفعله، وهذه صفة من لا يدري ما فعل ، تعالى الله عن ذلك.
قال سليمان: يا سيّدي فقد أخبرتك أنّها كالسمع والبصر والعلم.
قال المأمون : ويلك يا سليمان ، كم هذا الغلط والتردّد ؟ اقطع هذا وخذ في غيره ، إذ لست تقوى على غير هذا الرد.
قال الرضا : دعه يا أمير المؤمنين ، لا تقطع عليه مسألته فيجعلها حجّة، تكلم يا سليمان.
قال: قد أخبرتك أنّها كالسمع والبصر والعلم.
قال الرضا : لا بأس أخبرني عن معنى هذه أمعنى واحد أم معانٍ مختلفة ؟
قال سليمان: معنى واحد.
قال الرضا : فمعنى الاِرادات كلها معنى واحد ؟
قال سليمان: نعم.
قال الرضا : فإن كان معناها معنى واحداً كانت إرادة القيام إرادة القعود، وإرادة الحياة إرادة الموت ، إذا كانت إرادته واحدة لم تتقدم بعضها بعضاً ولم يخالف بعضها بعضاً وكانت شيئاً واحداً.
قال سليمان: إن معناها مختلف.
قال : فأخبرني عن المريد أهو الاِرادة أو غيرها؟
قال سليمان: بل هو الاِرادة.
قال الرضا : فالمريد عندكم مختلف إذا كان هو الاِرادة.
قال: يا سيدي ليس الاِرادة المريد.
قال: فالاِرادة محدثة وإلا فمعه غيره ، إفهم وزد في مسألتك.
قال سليمان: بل هي اسم من أسمائه.
قال الرضا : هل سمَّى نفسه بذلك ؟
قال سليمان: لا ، لم يسمِّ نفسه بذلك.
قال الرضا : فليس لك أن تسميه بما لم يسمِّ به نفسه.
قال: قد وصف نفسه بأنّه مريد.
قال الرضا : ليس صفته نفسه أنّه مريد إخبار عن أنّه إرادة ولا إخبار عن أن الاِرادة اسم من أسمائه.
قال سليمان: لاَن إرادته علمه.
قال الرضا : يا جاهل ، فإذا علم الشيء فقد أراده ؟
قال سليمان: أجل.
فقال: فإذا لم يرده لم يعلمه.
قال سليمان: أجل.
قال: من أين قلت ذاك ؟ وما الدليل على إرادته علمه ؟ وقد يعلم ما لا يريده أبداً ، وذلك قوله عزّ وجلّ : ( وَلَئِن شِئنَا لَنَذهَبَنَّ بِالَّذي أَوحَينا إِليكَ )(23) فهو يعلم كيف يذهب به وهو لا يذهب به أبداً ؟
قال سليمان: لاَنّه قد فرغ من الاَمر ، فليس يزيد فيه شيئاً.
قال الرضا : هذا قول اليهود ، فكيف قال تعالى: ( ادعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم )(24)؟
قال سليمان: إنّما عنى بذلك أنه قادر عليه.
قال: أفيعد ما لا يفي به ، فكيف قال: ( يَزِيدُ في الخَلقِ مَا يشاءُ )(25)وقال عزّ وجلّ : ( يَمحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ )(26)وقد فرغ من الاَمر.
فلم يحر جواباً ؟!
قال الرضا : يا سليمان ، هل يعلم أن إنساناً يكون ، ولا يريد أن يخلق إنساناً أبداً ، وأن إنساناً يموت اليوم ولا يريد أن يموت اليوم.
قال سليمان : نعم.
قال الرضا : فيعلم أنه يكون ما يريد أن يكون ، أو يعلم أنه يكون ما لا يريد أن يكون ؟
قال: يعلم أنهما يكونان جميعاً.
قال الرضا : إذاً يعلم أن إنساناً حي ميت قائم قاعد أعمى بصير في حالة واحدة ، وهذا هو المحال.
قال : جعلت فداك ، فإنه يعلم انّه يكون احدهما دون الآخر ؟
قال : لا بأس ، فأيهما يكون الذي أراد أن يكون أو الذي لم يرد أن يكون؟
قال سليمان: الذي أراد أن يكون.
فضحك الرضا والمأمون وأصحاب المقالات.
قال الرضا : غلطت وتركت قولك: إنّه يعلم أن إنساناً يموت اليوم وهو لا يريد أن يموت اليوم ، وأنه يخلق خلقاً وأنه لا يريد أن يخلقهم ، وإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون فإنّما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون.
قال سليمان: فإنّما قولي أن الاِرادة ليست هو ولا غيره.
قال الرضا : يا جاهل ، إذا قلت: ليست هو فقد جعلتها غيره وإذا قلت: ليست هي غيره فقد جعلتها هو.
قال سليمان: فهو يعلم كيف يصنع الشيء؟
قال: نعم.
قال سليمان: فإن ذلك إثبات للشيء.
قال الرضا : أحلت ؛ لاَن الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن ، ويحسن الخياطة وإن لم يخط ، ويحسن صنعة الشيء وإن لم يصنعه أبداً، ثمّ قال له : يا سليمان هل تعلم أنّه واحد لا شيء معه ؟
قال: نعم.
قال الرضا : فيكون ذلك إثباتاً للشيء ؟
قال سليمان: ليس يعلم أنّه واحد لا شيء معه.
قال الرضا : أفتعلم أنت ذاك ؟
قال : نعم.
قال: فأنت يا سليمان أعلم منه إذاً.
قال: سليمان: المسألة محال.
قال : محال عندك أنّه واحد لا شيء معه ، وأنّه حي سميع بصير حكيم قادر؟
قال: نعم.
قال: فكيف أخبر عزّ وجلّ : أنّه واحد حي سميع بصير حكيم قادر عليم خبير وهو لا يعلم ذلك ، وهذا رد ما قال وتكذيبه ، تعالى الله عن ذلك.
ثمّ قال له الرضا : فكيف يريد صنع ما لا يدري صنعه ولا ما هو ؟ وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشيء قبل أن يصنعه فإنّما هو متحيّر ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قال سليمان: فإن الاِرادة القدرة.
قال الرضا : وهو عزّ وجلّ يقدر على ما لا يريده أبداً ولا بدَّ من ذلك، لاَنّه قال تبارك وتعالى : ( وَلَئِن شِئنَا لَنَذهَبَنَّ بِالَّذي أَوحَينا إِليكَ )(27)فلو كانت الاِرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته.
فانقطع سليمان.
فقال المأمون عند ذلك: يا سليمان ، هذا أعلم هاشمي ، ثمّ تفرّق القوم(28)
____________
(1) سليمان المروزي ، متكلم خراسان ، مشتبه فيه ، ولم يميز على وجه الدقة ، إذ احتمل بعضهم انّه سليمان بن حفص المروزي الذي نقل المحقّق الداماد عن الشيخ أنّه من أصحاب الهادي ، واحتمل أخر أيضاً أنه سليمان بن داوود المروزي المعدود من أصحاب الهادي ، وقول لثالث : أنه سليمان بن جعفر المروزي من أصحاب الكاظم والرضا ، ومنشأ هذه الاختلاف، إنّ سليمان المروزي الذي ذُكر في مناظرة الاِمام الرضا لم يذكر اسم أبيه ، فمن هنا نشأ هذا الاختلاف في ما بينهم ، ولذا صعب تمييزه ، وخصوصاً إنه يوجد بهذا الاسم أكثر من واحد في زمن واحد ، فإن كانت هناك قرائن تميّزه عن غيره وإلاّ يبقى مجهولاً ، قال الشيخ علي النمازي : والاَظهر أن سليمان المروزي المتكلّم الباحث مع الرضا ليس أحد هؤلاء الثلاثة ، ولا يجري ما قيل فيهم عليه ، فراجع كتاب العلامة المامقاني في ترجمة هؤلاء الثلاثة حتى يتضح لك الحال والاشكال فيما توهموه وبطلان تطبيق ما ذكر في الروايات من دون ذكر اسم الاَب على المعنون في أول الترجمة حتى تقوم حجة على التطبيق ، ومما ذكرنا ظهر عدم الاطمئنان في تطبيق المضمر في الروايات على المعنون ، وقال أيضاً ـ عليه الرحمة ـ : ومن هذه المحاجة يظهر ذمُه ولجاجُه ، فراجع حتى ترى ذمه ، وتعرف فساد توهم من زعم حسنه ، وأنّه ما رجع إلى الحق. انتهى كلامه رفع في علو مقامه.
أقول : والذي يظهر لكل من يراجع مناظراته مع الاِمام أن سليمان هذا من أهل العناد ، وإلاّ لم يجلبه المأمون لمحاجة الاِمام ، إذ أن المأمون العباسي كان يجلب العلماء لمناظرة الاِمام ليظهروا عليه.
ويريد أن يبين للناس عجزه : ( ويأبى الله إلاّ أن يُتم نوره ولو كره الكافرون) ولذا قال المأمون لسليمان : وليس مرادي إلاّ أن تقطعه عن حُجة واحدة فقط ، فهذا ما كان يسعى إليه المأمون ومن مشى في ركابه واستجاب له.
وبما أن سليمان المروزي الواقع بهذا الاسم قد تُرجم له في كتب رجال السنة ولم يغفلوه ، كما تدلّ فحوى ترجمتهم له على رقعته عندهم وأنّه من أهل الحديث الذين حفظوا أحاديث لم تقع في الكتب ، كما أن هذا المترجم له كان أيضاً في زمان الاِمام الرضا إذ أن الاِمام توفي في سنة 203 هـ وتوفي سليمان هذا قبل سنة 210 هـ ، كما أنّه لم يذكر بهذا الاسم في كتب الرجال عند السنة غيره ، وإلاّ كيف يغفله أهل السنة في الوقت الذي ذكروا من الرجال من هو أقل منه في نظرهم ، فمن المحتمل القريب جداً أن يكون هو نفس المذكور في مناظرة الاِمام الرضا ، والله العالم بحقائق الاُمور ، كما عده أيضاً العطاردي من رواة الاِمام الرضا تحت رقم : 149 ، وإليك ترجمته كما جاءت في كتب التراجم عندهم هو : سليمان بن صالح ، مولاهم ، أبو صالح المَرْوَزيُّ المعروف بسلمويه ، صاحب «وقائع خراسان» ويقال : اسمهُ سليمان بن داود ، قيل انّه سمع من ابن المبارك نحو ثماني مئة حديث ممَّا لم يقع منه في الكتب ، مات قبل سنة عشر ومئتين ، وكان قد جاوز مئة سنة.
راجع ما جاء في هذه الترجمة : تهذيب الكمال : ج 11 ص 453 ترجمة رقم : 2529 ، تهذيب التهذيب لابن حجر : ج 4 ص 199 ترجمة رقم : 338 ، مستدركات علم رجال الحديث للشيخ علي النمازي الشاهرودي : ج 4 ص 146 ترجمة رقم : 6608 ، منتهى المقال في أحوال الرجال للمازندراني : ج 3 ص 387 ترجمة رقم : 1363 ، مسند الاِمام الرضا للعطاردي : ج 2 ص 534.
(2) سورة مريم : الآية 67.
(3) سورة الروم : الآية 27.
(4) سورة البقرة : الآية 117.
(5) سورة فاطر : الآية 1.
(6) سورة السجدة : الآية 7.
(7) سورة التوبة: الآية 106.
(
سورة فاطر: الآية 11.
(9) سورة الذاريات : الآية 54.
(10) سورة الذاريات : الآية 55.
(11) سورة المائدة : الآية 64.
(12) سورة المائدة : الآية 64.
(13) سورة القدر: الآية 1.
(14) سوره النساء : الآية 56.
(15) سورة هود: الآية 108.
(16) سورة الواقعة : الآية 32 و 33.
(17) سورة ق : الآية 35.
(18) سورة هود: الآية 108.
(19) سورة الحجر: الآية 48.
(20) سورة النساء: الآية 57.
(21) سورة الواقعة : الآية 32 و 33.
(22) سورة الاِسراء : الآية 16.
(23) سورة الاِسراء: الآية 86.
(24) سورة غافر : الآية 60.
(25) سورة فاطر : الآية 1.
(26) سورة الرعد: الآية 39.
(27) سورة الاسراء: الآية 86.
(28) عيون أخبار الرضا للصدوق: ج2 ص 159 ـ 168 ب 13، التوحيد للصدوق: ص441 ـ 454 ب 66 ح 1، بحار الاَنوار للمجلسي : ج10 ص 329 ـ 338 ح 2.