بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، الكوكب الطاهر والبدر الزاهر، والمصطفى الأمجد أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ومنكري فضائلهم من الأوّلين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
اللهم ربنا وفقنا وجميع المشتغلين واجعله خالصاً لوجهك الكريم، إنك أرحم الراحمين.
الحتمية الإلهية:
عندما يريد الإنسان أن يتحدّث عن العقيدة المهدوية ربما يقع أمام ناظر الباحث موضوع مهم يختص بالبحث عن دور حركة الإمام المهدي عليه السلام بالحتمية الإلهية.
ونقصد باصطلاح الحتمية الإلهية البحث عن حلقة التغيير والتكوين الاجتماعي في المجتمع الإنساني، كما يمكن أن يعبر عنه في حلقات فلسفة التأريخ.
ففي الايديولوجية الماركسية وحينما يتحدّثون عن تطور المجتمعات الإنسانية تحت عنوان قانون الحتمية الديالكتيكية التاريخية فهم يتعرضون إلى نقطة مهمة في عملية تطور المجتمع من دور إلى دور حتّى يصلوا بالمجتمع الإنساني في تطوره وارتقائه إلى مرحلة الحتمية التاريخية والتي يتحقق بها المجتمع الشيوعي في نهاية المطاف.
وإننا عندما نقرأ المفهوم الإسلامي للعالم وفلسفة التأريخ نجد أن الإسلام عنده (الحتمية الإلهية) ضمن رؤيته العقائدية التي يفسر بها عملية التغيير الحضاري والتطور الاجتماعي في مجتمعات الإنسان.
وبما إنني لم أقصد من هذا البحث الحديث عن تلك القوانين الاجتماعية المؤثرة في تكوين نوعية الطبقة الاجتماعية وتسلسل تلك الطبقات، وإنما أتحدّث عن حلقة واحدة بشكل إيجازي _ بما يقتضيه ويتحمله الوقت الضيق _ عن دور حركة الإمام المهدي عليه السلام فيلزمنا البحث عن ملامح هذه الحتمية ودور هذه الحركة في تحقيق المستقبل الوادع لتاريخ البشرية.
ملامح الحركة المهدوية:
لو قرأنا كلَّ ما كُتِبَ عن الإمام المهدي عليه السلام سواء في الفكر الإمامي، أو الفكر الإسلامي غير الإمامي بل وحتّى الفكر غير الإسلامي، فإنّ أوضح ما يمكن أن يتحدّثوا عنه هو التغيير الذي سوف يحدث بسبب حركة الإمام عليه السلام ، هذا أوّلاً.
والشيء الثاني من تلك الحركة، هو أن تكون تلك الحركة خاتمة الحركات التغييرية في الأمم والمجتمعات الإنسانية، بما يمكننا أن نقول: إن الحلقة الأخيرة في الحركة التغييرية التاريخية لتطور المجتمع الإنساني ككل سوف تنتهي بحلقة ظهور الإمام المهدي عليه السلام ، وتبعاً لهذه الحقيقة يتضح أنّ حركة الإمام غير مسبوقة _ لا كمَّاً ولا نوعاً _ بحركة تغييرية أخرى، وهو المُعبَّر عنه دينياً بالنص النبوي المأثور والمجمع عليه في الفكر الإسلامي عموماً سواء الشيعي أو السنّي بما رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه يظهر فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.(1)
وموضوع كيفية وتحديد نوع امتلاء الأرض بالعدل الإلهي إضافة إلى موضوع شرح وتوضيح نوع امتلاء الأرض قبل ظهوره عليه السلام بالظلم والجور الإنساني الذي يفعله الإنسان الخاطئ، (سواء الخاطئ عن عمد أو الخاطئ عن غير عمد) يحتاج إلى بحث لسنا الآن بصدد الحديث عنه، لأن هذا موضوع في الواقع بكر ويلزم أن نتطرق إليه بتفاصيله، ويحتاج إلى وقت مفصل للحديث عنه.
تكامل الأدوار:
أما الذي أردت أن أبيّنه في هذه اللحظات والدقائق هو أن هذه النقاط التي تحدّثت عنها تخصّ عن نوعية هذه الحركة الختامية لمجتمع الإنسان.
يعتمد الإنسان الذي يريد أن يدرس حركة الإمام المهدي عليه السلام ، يعتمد على توضيح وفهم مركّز لكيفية ظهور هذه الحركة، ومدى أممية هذه الحركة، وسعة حركة الإمام عليه السلام.
والشيء الذي يمكننا أن نتحدّث عنه باختصار هو أن التأريخ الإنساني بحلقاته المتقدمة سوف يصل إلى مستوى يؤهل الإنسان النوع _ ولا أقصد الإنسان الفرد _ ليكون أهلاً ومستحقاً ليحكمه العدل المهدوي.
وبتعبير آخر يعطيك جواباً عن سؤال يقول: لماذا لم يظهر الإمام المهدي في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولماذا لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المهدي؟ وهناك سؤال آخر يطرح نفسه شبيه بالسؤال الأوّل بما يتلاءم مع عقائد الشيعة الإمامية وهو: لماذا لم يكن الإمام عليّ وهو سيد الأئمّة وأبو الأئمّة وخير الأئمّة سلام الله عليه، لماذا لم يكن هو الإمام المهدي؟
وهكذا لو أردنا أن نجري السؤال على كل إمام من الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
الواقع أن كل واحد منهم (سلام الله عليه) له دور تأريخي في تطوير حياة الإنسان، وفي تأهيل المجتمع الإنساني لكي يدخل الدور المتقدم الذي يوصله إليه الإمام المتقدم.
وبتعبير أوضح أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم دوره الإلهي في إيصال البشرية إلى مستوى معين ومحدد.
وقلت إن هذا الموضوع مهم ومفصل واني لا أقصد من هذا الحديث دراسة فلسفة التأريخ للرؤية الدينية الإسلاميّة، ولذلك فأنا أشير إشارات عامة إليه فقط من أجل أن أصل إلى النتيجة التي أتحدّث عنها.
إذن كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم دوره الرباني الخاص به وهو تأهيل البشرية لمستوى يمكن أن تتحمل ولاية عليّ بن أبي طالب، ثمّ كان لأمير المؤمنين عليه السلام دوره الذي سلمه للإمام الحسن، وهكذا الأئمّة من بعده، مع التنبيه إن تشخيص هذه الأدوار يحتاج إلى بحث مستقل.
ولكن هناك دور قد اشترك فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأمير والأئمّة الباقون في تأهيل البشرية لتكون مستحقة لتولي الإمام المهدي الدور الكبير الذي هو جامع لجميع أدوار الإمامة، يعني أن من مهمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومهمات الأئمّة الباقين فضلاً وإضافة إلى مهماتهم الخاصة الأخرى التي نبهنا عنها؛ دور آخر هو من أجل أن يتقبلوا ويصلوا إلى مستوى ليس القبول فقط، بل أن يصلوا إلى مستوى الطرح الميداني لإمامة الإمام المهدي عليه السلام.
أي أنه لو لم يكن الأئمّة السابقون يقومون بهذا الدور لما كانت البشرية مؤهّلة لاستقبال دورها في ظل إمامة الإمام المهدي عليه السلام.
على كل حال، فالإمامة بالنسبة للإمام المهدي لم تكن منحصرة بالظهور، وإنما دوره في الظهور وقبل الظهور، والذي أخذ أبعاده عليه السلام من يوم ولادته إلى الغيبتين الصغرى والكبرى، ولذلك نجد كل هذه الخصوصيات المتعلقة في هذه المرحلة من تأريخ الإنسانية هذه قد وردت على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى لسان الأنبياء الذين سبقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى أننا نجد ذكر المهدي عليه السلام بالكناية أو بالأسماء التي قُصّت بالكتب السماوية فإننا لو قرأنا بامعان وتدبر فسوف نجد تلك الأسماء موجودة في كتب السماء في التوراة والإنجيل.
وقد ألفت كتب خاصة في ذكر الآيات الإنجيلية والآيات التوراتية التي ذكرت الإمام المهدي عليه السلام.(2)
أي أن هذا الدور لم يبتدئ بالنبي، وإنما كان هذا الدور قد قام به الأنبياء من قبل أيضاً.
فإن جميع الرسالات السماوية قد اهتمت بتربية البشرية من أجل ارتقائها للمستوى الذي تتقبل به العقيدة المهدوية أوّلاً، والحركة المهدوية التي تتعمق وتترسخ عندما يظهر عليه السلام ، ومعنى هذا أننا لدينا مرحلتان؛ مرحلة العقيدة، ومرحلة إجراء العقيدة في الواقع، وتنفيذ تلك العقيدة على أرض الواقع حالياً، وتنفيذها عندما يظهر عليه السلام فيتم بذلك (أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً)، وتتم الخاتمة في حركات الطبقات الاجتماعية لرؤية دينية سواء كانت إسلاميّة أو غير إسلاميّة.
مراحل تأهيل المجتمع:
نلاحظ أيضاً، بعدما وضحنا هذه الحقيقة أن حركة الإمام عليه السلام هي الحلقة الأخيرة لنهضة المجتمع الإنساني وتطوره، فنقول حينئذٍ لا بدّ من تأهيل الإنسانية للحلقة الأخيرة من تطورها. وأريد أن أبين هنا كيفية تأهيل المجتمع، فهناك تصور واضح أن المجتمع الذي يظهر فيه الإمام يختلف عن المجتمعات السابقة عليه. فالمجتمع الذي يظهر فيه الإمام، (ولا أقصد المجتمع الذي يصنعه الإمام، عندنا مجتمع يسبق الإمام، وعندنا مجتمع ينهض فيه الإمام، وعندنا مجتمع يصنعه الإمام عليه السلام).
وهو المجتمع الذي يكون قبل ظهور الإمام، أي المجتمع الأوّل، وهو ممتد بعصر الإنسانية إلى مستوى أن تظهر علامات ظهوره عليه السلام.
وبتعبير آخر: نريد أن ندرس علامات الظهور دراسة أكاديمية واضحة، تحدد الفلسفة الواقعية لحركة الإمام.
إن الإنسانية قبل الظهور تكون بمستوى غير مؤهل لاستقبال حركة الإمام، ولذلك لم يظهر الإمام، ولذلك لم يكن الإمام هو النبي، ولم يكن هو الأمير، ولم يكن الإمام عليه السلام هو أحد آبائه عليهم السلام ، لأن البشرية غير مؤهلة لهذه النهضة لأنها لم تملك الأهلية لهذه النهضة، ولكن الأئمّة عليهم السلام قد سعوا لإيجاد هذا المجتمع الذي يكون مؤهلاً ليظهر فيه الإمام، فعندما يتكامل المجتمع الإسلامي في أطواره الارتقائية في الغيبة الصغرى وما بعدها، وكان أشد تكامل له في الغيبة الكبرى، فإذا تكامل هذا المجتمع في الغيبة الكبرى فحينئذٍ تبدأ المرحلة الثانية، وهي مرحلة الظهور.
ففي مرحلة الظهور يكون المجتمع الإنساني عموماً مؤهلاً بشيئين، وببعدين، وبعنصرين يملكان ويحكمان المجتمع:
العنصر الأوّل: هو العنصر المخطئ، الذي يعبر عنه بالظلم والجور، حيث تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً.
والعنصر الثاني الذي نقرؤه في الروايات أن الإمام المهدي لا يظهر إلاّ بعد أن تتكامل له قواعده التي يتحرك بها في نهضته وحركته.
وقد يتصور البعض أن القواعد محدودة بعددٍ معين، باعتبار أن لدينا روايات وبعضها معتبرة من حيث سند الحديث الروائي، وبعضها يسند تلك الروايات بنوع من الاسناد وتقول جميعها أن عدد الذين ينتظرون ظهوره عليه السلام (313) كعدد أهل بدر.
وهؤلاء الـ (313) يعبر عنهم بأسمائهم في بعض الروايات الموجودة في كتاب بشارة الإسلام، ومختصر كفاية المهتدي وغيرهما بأسمائهم وأوطانهم.(3)
وأنا لديّ ملاحظات على هذا الأمر من كون تلك الأسماء هل هي رمزية أم هي واقعية تعبر عن أشخاصهم، وكذلك المدن هل هي تعبر عن بُعْد رمزي للمناطق التي يظهر هؤلاء بها، أم هي تعبر عن أسماء موجودة في الواقع وموصوفة ومشخصة، هذا الموضوع بنفسه يحتاج إلى وقت.
وإن هذا العدد (313)، وإن هؤلاء الذين قد يعبر عنهم بقادة جند الإمام، فإنّ هؤلاء الأشخاص ليسوا وحدهم هم القاعدة التي ينتظرها الإمام، أو هم الذين ينتظرونه عليه السلام ، وإنما هؤلاء هم قادة المجتمع الإيماني الذي يظهر قبل الإمام، ويقوده هؤلاء القادة الـ (313).
أي أنه كما نقرأ في الروايات فإن الوجود الإنساني الاجتماعي سوف يمتلئ بالظلم والجور، فإنه سوف يكون هناك مساحات واسعة من الإيمان والإنسان المؤمن، ويفترض في هذه المساحات أن توجد بدون تحديد عددي فإن الروايات لم تحدّد سعة هذه المساحة، وإنما ذكرت وجود هذه المساحة التي يقوم فيها الإمام بالتغيير.
وطبعاً فإن عندنا شواهد وروايات كثيرة تنص على هذه الحقيقة، وبعضها كان قد طبق في زمان الأئمّة عليهم السلام مثل الروايات المروية عن الإمام الصادق عليه السلام والتي تقول: إن الإمام لا يظهر إلاّ في مجتمع خاص يكون مؤهّلاً لحكومة الإمام، ولقيادة الإمام.(4)
إذا توفّر هذان العنصران: (العنصر الأوّل القادة، والعنصر الثاني القاعدة التي تحكمها تلك القيادة) فمعناه أنه قد تكوّن مجتمع ما قبل الظهور، ولكيفية تحقق ذلك، وكيف نعرف أنه قد تحقق العنصران المرتقبان المنتظران؟ فإننا نعرف ذلك من خلال تحقق علامات ذكرها الأئمّة عليهم السلام وأن هذه العلامات تدل على ذلك المجتمع الذي سوف يكون على يديه التغيير الإلهي والحتميّة الإلهية.
منبع التغيير:
من الطبيعي في هذه المرحلة عندما نتحدّث عن عملية التغيير لا بدّ أن نتذكر دور الإنسان في التغيير، وهنا بحث سياسي واجتماعي وفقهي على مستوى ثقافي واسع، في أنّ الأهمية في التغيير هل تعود إلى الأمّة؟ أم أن الأهمية تعود إلى القائد؟ يعني من هو الذي يغير؟ هل أن الإمام أو القائد هو الذي يغيّر الأمّة، أم أن الأمّة هي التي تغيّر القائد؟
يعني علينا أن نكثف جهودنا على أي الإثنين؟ لإيجاد أي واحد من الإثنين؟ هل نكثف الجهد في إيجاد الإنسان القائد؟ أم نكثف الجهد في إيجاد الأمّة القائدة؟ هذا الموضوع موضوع مهم جدّاً سواء على المستوى الفكري أو المستوى الميداني والعملي.
فإذا قلنا _ نحن كأناس نعيش في الأمة وكمكلفين _ إن الذي يقود التغيير الإمام، إذن فما هو دور الأمّة؟ وما هو دور الفرد في الأمّة؟ وأما إذا قلنا أن المغير هو الأمّة، فسوف يكون تحركنا تحركاً آخر في التغيير من إيجاد الأمّة القادرة على التغيير.
هذا الموضوع من الأهمية بمكان، لا أريد أن أشخص كل أبعاد هذا الموضوع أيضاً، وإنما قد عنونت من قبل هذه الحقيقة، وقد أوفق في أيام أخرى أو أنتم تبحثون وراء هذه العناوين بالتفتيش عن معرفة الحقائق المغيرة.
هذا الطرح والاستفهام له واقع أيضاً، وليس هو على مستوى النظريّة فقط، وإنّما هو من جانب الواقع أيضاً، فالأمّة الإسلاميّة أمّة مكلفة، والإمام هو المغير، ولكن الإمام قبل الظهور وفي عصر الغيبة هو غير الإمام في عصر المعصوم، والإمام في عصر المعصوم، هو غير الإمام بعد الظهور.
وهذا موضوع مهم جدّاً ويحتاج إلى وقت مفصّل لأجل توضيح جميع خصوصيّاته، لا أخالني أملك الوقت الكافي لأتّعرض لكل أبعاد هذه النظريّة، وإنما أشير إليها إشارة لأجل إعطاء البُنى الأساسية لنظرية حتميّة ظهور الإمام عليه السلام بتكامل الإنسان من أجل أن يأخذ الإنسان موقعه الأصلي في الحياة، فيتم قوله تعالى (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً).(5)
يعني أن الإنسان الخليفة إذا أراد أن يجسد الحقيقة الغائية للخلقة في الأرض، فإنما يتم له ذلك عندما تتم الغاية القصوى لظهور المجتمع المؤهل لاستلام قيادة الإمام عليه السلام.
عصر الظهور:
إن هذا العصر الذي نتحدّث عنه هو عصر أو مرحلة الظهور، وقد ذكرت له علامات تحدّثت عن هذه المرحلة، ثمّ بعد ذلك وعندما تنتهي هذه المرحلة التي نعيش _ ولله الحمد _ أبعادها في عصورنا المتأخرة، وهي مرحلة علامات الظهور أو مرحلة بداية الظهور إنما هي مرحلة مهمّة، أمّا متى تبتدئ وإلى أين تنتهي فهذه تحتاج أيضاً إلى وقفة، لنعرف هل هي بالفعل بدأت، فمتى بدأت؟
بعضهم ممن كتب عن الإمام يعتبر أنّ هذه المرحلة بدأت منذ العبّاسيين مع ظهور الحركة العباسيّة ضد الأمويين، والبعض الآخر يعتبر أنّ هذه الحركة بدأت في عصور متأخّرة، كالعلامة المجلسي التي يعدّها بظهور الدولة الصفوية في إيران.(6)
ولست الآن بصدد تشخيص بداية المرحلة فإنني قلت: إنّها تحتاج إلى أرقام تخصيصيّة تحتاج إلى تفاصيل كاملة من أجل أن نضع النقاط على الحروف، ولكني أقول بضرس قاطع إنّها سوف تنتهي هذه المرحلة بظهور الإمام عليه السلام ، وأقول أيضاً بضرس قاطع إنّنا نعيش هذه المرحلة وفي وسط هذه المرحلة، ونحن الآن نعيش مرحلة التمهيد وتأهيل المجتمع لظهور الإمام عليه السلام.
طبعاً لست الآن بصدد تحديد الوظيفة الشرعية لكل من حضر، أو أريد أن أحدّد الوظيفة الشرعية للمكلّف المسلم في هذه المرحلة، وإنّما يعتمد في ذلك على ما كتبه كثير من علمائنا في تحديد الوظيفة، هناك كتاب اسمه (وظيفة الأنام في غيبة الإمام)(7) للسيد التقي الموسوي.
عصر التكامل:
المرحلة الأخرى، وهي المرحلة العظمى في تأريخ الإنسانية، وهي الحتميّة أو نهاية الحتميّة، أو نهاية البداية لتطوّر الإنسانية، فإنها سوف تتم وتتكامل بظهور الإمام عليه السلام ، وعلينا أن نلاحظ المجتمع الذي يقوده الإمام والذي يصنعه الإمام فإنه سوف يكون غير المجتمع الذي نحن فيه، فهناك عدّة جوانب بارزة في مجتمع الإمام، مثل التغيّر الكوني، وليس التغيّر الإنساني فقط الذي يحدث في مجتمع الإمام، بل إن بعض هذا التغيير يصنعه الإمام، والبعض الآخر تصنعه ملائكة الله، أو التكوين الإلهي.
أنا أذكر النقاط التالية بشكل مجمل، وهي تبيّن كيف أنّ الإمام في نهاية المطاف التاريخي لمسيرة الإنسان التكاملية يغير كينونة الإنسان:
أوّلاً: إن الإنسان كإنسان، وكنوع _ سواء أكان مسلماً أم غير مسلم _ سوف يصل في دولة الإمام المهدي عليه السلام إلى مستوى تتشخّص وتتميز فيه قوى الخير من قوى الشر، ولا يبقى في الأرض إنسان وسط، بل يكون الإنسان إما إنساناً خيّراً مطلقاً، وإما إنساناً شريراً مطلقاً.
هذا الحد لم يكن متوفراً قبل هذه المرحلة، فلم تكن البشرية قد وصلت إلى هذه المرحلة من الحدّية بين الخير والشر قبل مرحلة ظهور الإمام عليه السلام ، وإنما سوف تصل البشرية إلى هذه الحدّية عندما تؤهل فتدخل آخر مرحلة من مراحل تغيير الإنسان للمجتمع الإنساني في ظهور الإمام عليه السلام.
ولذلك فسوف تتغير قوانين التحكّم، سواء أكانت تشريعة أم تنفيذية، حتّى أنها ستشمل بعض التشريعات السماويّة ويتغير وينقلب كثير من الموازين إلى ألوان أخرى، وبعض تلك التغييرات يشخصها الإمام عليه السلام نفسه ويتحرك بها الإمام بشخصه المقدس عليه السلام.
وأعطيك مثالاً لما يفعله الإمام، سواء فسّرناه على نحو الإعجاز أو فسرناه بأحد التفسيرات المعيّنة، تلك هي الروايات المتعددة في تغيير أصحاب الإمام، فقد جاء في إحدى تلك الروايات المرويّة عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: (إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم).(
ويستخدم لغوياً (كمال الحلم) بمعنى العقل أيضاً، وهذا الكمال هو الكمال العقلي الذي سيصل إليه العباد وهم أفراد المجتمع الإنساني. هل كانت الرواية ترمز إلى أنّ تلك الحركة من يد الإمام عليه السلام يقصد بها يده الظاهرية المقدّسة؟ أم أن المقصود من يده مؤدى المجاز وجاء اللفظ على التعبير المجازي؟ فاليد مجازاً تعني القوة والسطوة التي يستخدمها الإمام، ومعنى هذا أن القوّة هي التي تكون السبب المركزي لكمال العقول، وتكامل العقل الإنساني.
نحن الآن مبهورون بما وصلت إليه الإنسانية من التكنلوجيا والتطوّر الذي نشاهده، لكن الانبهار الأعظم يكون عند ظهور الإمام عليه السلام فسوف يتكامل العقل الإنساني، ويتحقق هذا التكامل في كل أبعاده الجغرافية، أو أبعاده العملية بما يعبر عنه بالعقل النظري والعقل العملي، ويعني هذا أن طريقة الإدراك البشري سوف تتكامل في عصره.
كما أنه سوف تتكامل الوسائل الممهّدة للعقل الإنساني التي من جملتها التطور التكنلوجي الذي يكون في عصره، وهكذا فسنجد في زمانه عليه السلام أن كل واحد من أصحابه يكلم مَنْ في المشرق وهو في المغرب، ويكلم مَنْ في المغرب مَنْ هو في المشرق، ربما كان تصور هذا التقدم التكنلوجي سابقاً في زمان الأئمّة عليهم السلام يعدّ نوعاً من أنواع الإعجاز، ولكنّه حالياً صار من الأمور العادية والبديهية ببركة التقدم التكنلوجي.
وهذا التطور الذي يحدث في عصر الإمام يخاف منه الغرب، وتوجد حالياً دراسات غربية _ قرأت عنها منذ عشرات السنين _ تتحدّث عن التطوّر التكنلوجي في عصر الإمام عليه السلام ، وكيف يخافون من هذا التطور الذي يرهب التطور الغربي، فالغرب يحسب حساباً لهذا التطور التكنلوجي المهدوي الذي سوف يكون في زمان الإمام عليه السلام.
وهناك الروايات الأخرى التي تحدّثت عن تغيّر في قوى الإنسان، وهناك أكثر من رواية تتحدّث عن هذا التغير في قوى الإنسان، ومن جملة هذه التغيرات التي تحدث في الإنسان المهدوي أنه عليه السلام إذا ظهر مسح بيده على رؤوس العباد فلا يبقى مؤمن إلاّ صار قلبه أشدّ من زبر الحديد، وأعطاه الله قوّة أربعين رجلاً.(9)
كما تعرفون أن هذا العدد _ وهو ثلاثون وأربعون وسبعون _ يستخدم للمبالغة وللكثرة، يعني تصل قوّة الرجل إلى ما لا نهاية من القوى البدنية والجسمية، والله أعلم بالتغير الفسلجي الذي سوف يحدث في إنسان عصر الإمام المهدي عليه السلام.
هذا التكامل للإنسان ليس على مستوى الإدراك والعقل فقط، وإنّما يشمل التكامل الجسماني أيضاً في القوى الأخرى التي يتمتع بها. ثمّ إن هناك تغيراً وتكاملاً كونياً في القوى التي تحكم هذه الدنيا فإنها سوف تغير الدنيا، وتبدل الدنيا، ويكتفى بنور الإمام عن ضوء الشمس والقمر.(10)
وعندما يتحدّث علماء الفلك حالياً ويضعون مدّة سنويّة تخمد الشمس أضواءها وتنطفئ الشمس، فإننا نحس بأهمية هذه المرحلة من تأريخ البشرية.
ولكن هل بانطفاء الشمس تنتهي الحياة في الأرض؟ كما قد يقال حالياً ولذلك فهم يريدون أن يسبقوا التغير الكوني لما يحتملونه من وجود حياة سابقاً في المريخ انتهت لمثل هذه الأسباب؟
أم أن هناك حياة ما بعد انطفاء الشمس التي يقرها علماء الفلك حالياً إلى مرحلة الله أعلم كم مداها؟ وقد تحدث عن هذه المرحلة الإسلام العظيم بتشخيصه التطور، أو التغير الكوني في عصر الإمام عليه السلام.
الهوامش
(1) راجع سنن أبي داود، ج 2: 309، ح 4282، المستدرك للحاكم، ج 4: 465، مسند أحمد، ج 3: 27، كمال الدين للصدوق: 256، باب 24، ح1 و2.
(2) راجع: كتاب بشارات العهدين للدكتور محمّد الصادقي، كتاب المصلح المنتظر في أحاديث الأديان لمحمّد أمين زين الدين العاملي، الإمام المهدي في كتب الأمم السابقة والمسلمين لمحمّد رضا حكيمي.
(3) راجع الملاحم والفتن لابن طاووس: 147، عن كتاب الفتن للسليلي.
(4) بعكس بعض الروايات التي تحدّثت عن السيوف المشرعة في زمان الإمام الصاديق عليه السلام حيث قال عليه السلام: (ما أنت من رجالي ولا الزمان زماني) مثل رواية الخراساني والخلال... وغيرها. راجع: الملل والنحل/ الشهرستاني 1: 154؛ ينابيع المودة/ القندوزي 3: 161.
(5) البقرة (2): 30.
(6) البحار للمجلسي 52: 243.
(7) طبع الكتاب من قبل مركزنا تحت سلسلة التراث المهدوي.
(
الكافي للكليني 1: 25/ ح 21/ كتاب العقل والجهل.
(9) كمال الدين: 653/ ح 17، و673/ ح 26؛ دلائل الإمامة: 457/ ح 41.
(10) تفسير القمي 2: 253، عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى (وَأَشْرَقَتِ الأَْرْضُ بِنُورِ رَبِّها) قال: (رب الأرض يعني إمام الأرض)، فقلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: (إذاً يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزون بنور الإمام).
الموضوع الأصلي: حركة الإمام المهدي عليه السلام والحتمية الإلهية || الكاتب: امير||