أتينا فيما سبق على نظرية الإمام الصادق (عليه السلام) بشأن حركة الأرض ودورانها حول نفسها. وربما تراءى للمرء أن يقول أن الإمام جعفراً الصادق (عليه السلام) قد اهتدى إلى هذه النظرية بقوة حدسه أو بمحض الصدفة، إذ كثيراً ما يحدس الإنسان بأمر أو يرجم به، فيصادف حدسه الواقع في ما بعد. ولكن يبقى دائماً سؤال هام هو: لم لم يهتد أحد إلى أن الأرض تدور حول نفسها طوال هذه القرون، وكان الصادق (عليه السلام) وحده صاحب هذا الكشف؟ وأرجح الآراء أن الإمام جعفراً الصادق (عليه السلام) توصل إلى معرفة القوانين الميكلنيكية لحركة النجوم من خلال معرفته لحركة الأرض ودورانها، فلولا معلافته بتلك القوانين لما استطاع التوصل إلى هذه النتيجة، فمثل هذه المعرفة لا تتحصل مصادفة ولا يحدث بها المرء، وإنما تتحصل بمعرفة العلة والمعلول، حتى وإن لم تذكر العلة التي أفضت إلى المعلول، أي النتيجة. وللإمام آراء علمية جريئة في الفيزياء وغيرها من العلوم لا تختلف أبداً عن النظريات العلمية في عصرنا الحديث. ولو قرأ عالم فيزيائي اليوم نظرية الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في موضوع نشأة الكون، في إطار القوانين الكونية بعد، وكل ما قيل في هذا الصدد هو نظريات وآراء تحتمل الصواب والخطأ. على أن نظرية الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قد تميزت بكونها انطلقت قبل اثني عشر قرناً، وأنها مع ذلك تطابق النظريات الفيزيائية الحديثة بشأن نشأة الكون. أما نظرية الإمام الصادق (عليه السلام) الخاصة بنشأة الكون، فلا تختلف عن النظرية العصرية الخاصة بالذرة وأصل الكون. وقد أشار الإمام (عليه السلام) إلى وجود قطبين متضادين، وهو ما يماثل القوتين الإيجابية والسلبية داخل الذرة، ومنهما تتألف الذرة نفسها، وتتولد المادة من الذرة.. وقد مر بنا أن بعض فلاسفة اليونان في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد قد طلعوا بآراء حول نشأة الكون وأصل العالم، منهم ديمقريطس الذي قال بنظرية شبيهة إلى حد بعيد بنظرية الذرة في العصر الحديث. ولا يستبعد أن يكون الإمام الصادق (عليه السلام) قد وقف على نظريات هؤلاء الفلاسفة، وأن نظريته المتعلقة بنشأة الكون قائمة على هذا الأساس. وليس ثمة ريب في أن الإمام جعفراً الصادق (عليه السلام) قد ألم بآراء فلاسفة اليونان ونظرياتهم، وأن هذه الآراء والنظريات كانت تنتقل إلى المدينة عن طريق أقباط مصر، تماماً كما انتقل نموذج الكرة الأرضية من مصر إلى المدينة(1). ولا يستبعد أبداً أن يكون الإمام الصادق (عليه السلام) قد وقف أيضاً على نظريات فلاسفة الإغريق الذين عاشوا قبله بثلاثة عشر قرناً. وهي النظريات المتعلقة بأصل الكون، إلا أن الإمام أضاف إليها ما هدته إليه بديهته الذكية، فأخرج نظرية علمية دقيقة تتفق مع نظرية علماء لفيزياء في هذا القرن، بل إن العلماء المعاصرين لم يضيفوا إليها إضافة جديدة ذات بال. والنقطة المحورية في نظرية الإمام الصادق (عليه السلام) هي موضوع القطبين المتضادين. أما فلاسفة الإغريق من قبله، فلم يتحروا هذه النقطة بمثل ما وضحها الإمام، واقتصروا على القول بأن في الوجود أضداداً، وقال بعضهم بأن الشيء يتميز بضده ويعرف به. وتتجلى بوضوح في نظرية نشأة الكون عند الإمام نظريته الخاصة بالأضداد، بما لا يتضح في نظريات فلاسفة الإغريق القدامى أو فلاسفة الإسكندرية، ناهيك عن أن هؤلاء الفلاسفة قد ساقوا نظرية الأضداد في غير اطمئنان إلى صحتها، وأفسحوا المجال أمام الباحثين في إثباتها أو دحضها، وطبيعي أن النظرية كانت غير مكتملة الدقة، وكانت تحتمل الطعن في سلامتها. فإذا انتقلنا إلى نظرية الإمام الصادق (عليه السلام)، ألفيناها واضحة العرض والتعليل. فقد جزم بها واستغنى بذلك عن استخدام أي عبارة توحي بمعنى التحفظ أو الاحتياط، فهو قد كان واثقاً من سلامة رأيه ولا يعتوره أدنى شك في صحة نظريته. وكما سبق القول، فإن الشيعة ترى أن اهتداء الإمام إلى أسرار الكون والنجوم وعلوم الفيزياء والرياضيات وما إليها إنما هو من خصائص الإمامة، أي من مقتضيات العلم اللدني الباطني الذي يهبه الله لأئمته، ولا يكتسبه المرء بالتجربة والاختبار. أما المؤرخ الباحث عن الحقيقة المجردة، فلا بد له من متابعة مجريات الأحداث وتعليلها واستقصاء الأسباب والوصول إلى النتائج، وليس من ديدنه القول باللدنية أو العلم الباطني. وقد عرف المؤرخ وغير المؤرخ أن الإمام جعفراً الصادق (عليه السلام) كان يحصل العلم بحضوره درس أبيه الباقر، وكان يشتغل بالتدريس والتعليم، فلا سبيل إذن إلى القول بأن علمه لدني، ناله دون دراسة أو اجتهاد أو إمعان فكر(2). والعلماء الذين سطروا تاريخ الإمام الصادق (عليه السلام) قد رأوا فيه عالماً فذاً يأخذ بمناهج العلماء الأفذاذ، وكانت قدرته الفكرية الألمعية تفوق قدرة جميع معاصريه من العلماء والباحثين، وقد استطاع باستثمار هذه القدرة الإتيان بما تحقق له من نظريات علمية وكشوف لم يسبقه إليها أحد(3). وإن نظرية القطبين المتضادين التي طلع بها الإمام الصادق (عليه السلام) قد ظهرت أهميتها في القرن السابع عشر الميلادي، عندما أثبت علم الفيزياء وجود هذين القطبين. والذين عاصروا الإمام ظنوه قائلاً بما قالت به الفلاسفة من قبله من أن الشيء يعرف بضده، ولهذا لم يعوا كلامه، ولا احتفوا به الحفاوة الخليقة به، ولكن ما نعرفه اليوم من علوم الذرة والكهرباء والالكترونيات قد قطع بسلامة هذه النظرية، وأكد أن هناك قطبين متضادين في المغناطيس وفي الكهرباء وفي نواة الذرة وفي غير ذلك من ميادين العلوم. وقد استوفينا القول في علم الإمام الصادق (عليه السلام) بالجغرافيا وعلم الهيئة والنجوم، وها نحن نفيض الآن في الحديث عن إسهامه في موضوع نشأة الكون وأصل العالم، وننتقل بعد ذلك إلى دوره في علوم الفيزياء وغيرها من العلوم. وسنرى أن الإمام جعفراً (عليه السلام) قد تعرض في مباحث الفيزياء لمسائل لم يتعرض لها أحد، لا قبله ولا بعده إلى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي. ومن ذلك مثلاً قانون الأجسام الصلبة، فقد صنف تلك الأجسام إلى أجسام كدرة وأخرى مصقولة شفافة، إذ قال: كل جسم صلب جامد يكون كدراً، وكل جسم جامد دافع يكون لماعاً وشفافاً. وقال في الرد على سؤال: ما الذي يجذب؟ إن الحرارة هي التي تجذب. وقد أصبحت هذه النظرية في يومنا الحاضر قانوناً علمياً في الكهرباء والفيزياء. أفليس مما يدهش أن يكون القائل بهذه النظرية منتمياً إلى منتصف القرن السابع الميلادي؟ ولعلنا في يومنا هذا، لو سألنا مائة شخص كيف أن من الأجسام الصلبة ما هو لماع وما هو كدر، لما استطاع أحد منهم أن يجيء بالجواب الصحيح، أي أن يقول لنا سبب كون الحديد كدراً والبلور أو الألماس لماعاً وشفافاً؟ ونعرف في قوانين الفيزياء الحديثة أن كل جسم كدر تصدر عنه أمواج وأشعة حرارية، فيكون موصلاً جيداً للحرارة وللأمواج الالكترونية. وأن الأجسام التي لا تنتقل الحرارة منها بسهولة، أي غير الموصلة للحرارة الجاذبة لها أو الناقلة الأمواج الالكترونية، تعتبر أجساماً عائقة، وتكون شفافة لماعة(4). والإمام الصادق (عليه السلام) لم يتحدث عن أمواج كهرطيسية (كهربائية مغنطيسية)، ولكنه تحدث عن الحرارة، وجاءت أقواله مطابقة لقوانين الفيزياء في يومنا هذا. وبعبارة أخرى، أن الأجسام الكدرة كالحديد تنقل الأمواج الكهرطيسية وتنقل الحرارة وتجذب، في حين أن الأجسام التي لا توصل الحرارة أو توصلها ببطء وتحول دون انتقال الأمواج الكهرطيسية تعتبر أجساماً عائقة، وتكون لماعة شفافة. وتقوم نظرية الإمام الصادق (عليه السلام) في كدر الأجسام أو صفائها على أساس الجاذبية والقدرة على الشد والقبض. ولما سئل عن سبب كدر الأجسام أو صفائها قال: إن الجسم القابض للحرارة كدر، والأجسام التي لا تمتص الحرارة شفافة على اختلاف مراتبها. ولا تقل نظرية الجاذبية عند الإمام الصادق (عليه السلام) في أهميتها عن نظريته القائلة بوجود قطبين متضادين، وهي تطابق قوانين الفيزياء الحديثة من حيث تعليل أسباب كدر الأجسام الصلبة أو صفائها. ولا ريب في أن العقلية التي اكتشفت الأسباب الكامنة وراء صفاء الأجسام الصلبة أو كدرها منذ اثني عشر قرناً هي عقلية سبقت جميع معاصريها، وليس من الغلو في شيء القول بأنها عقلية عبقرية فريدة في ميادين العلوم. ولم ينته علم الإمام الصادق (عليه السلام) عند هذه النظرية وما سبق له كشفه من نظريات، بل إن له في العلوم نظريات أخرى لا تقل أهمية عما أوردناه. ولا بد من الإشارة هنا إلى ناحية هامة، وهي أن الصادق (عليه السلام) يشرح نظرياته شرحاً مبيناً واضحاً، ويعرضها عرضاً علمياً سهل الفهم والإدراك، بحيث تستطيع الأذهان تقبله واستيعابه. فالقوانين العلمية التي أتى بها قد ساقها بأسلوب واضح، وصاغها بعبارات لا تحتمل اللبس، إدراكاً منه لحقيقتين، هما أن انتشار العلم رهن بالقدرة على فهمه، وأن قوانين العلوم تبقى للدهر، ولا تنتهي بوفاة واضعيها. وهذا القول يصدق أيضاً على الحكم والأمثال السائرة، ولا بد لسهولة تقبلها من الناس وسريانها على الألسنة من أن تكون سلسلة العبارة سهلة المأتى بليغة التعبير. وهكذا تدخل الأمثال إلى المعاجم، وتبقى جزءاً من الثقافة العامة للناس جميعاً، يستشهدون بها ويتناقلونها. وللإمام الصادق (عليه السلام) حكم وكلمات قصار شاعت بين الناس، وتقبلتها أقوال كثيرة قبولاً حسناً بل منهم من رواها دون أن يفطن إلى واضعها ومنشئها. ومن الحكم التي ساقها الإمام الصادق (عليه السلام) قوله مثلاً: (الإنسان إذا مرض أو وجع عرف نفسه). ولئن قال الصادق (عليه السلام) هذه الحكمة في المدينة، فقد شاعت عند أمم كثيرة في آسيا وإفريقيا وأوروبا ثم أمريكا، ومن سمعها عرف أن قائلها أصاب كبد الحقيقة. وها نحن في عصرنا هذا نرى العالم النفسي الكندي (مارشال ماك لوهان) يعد هذه الحكمة من قوانين علم النفس، فيقول أن الإنسان لا ينسى نفسه فقط عندما يحل به ألم، إذ أنه كثيراً ما ينسى نفسه ووجوده في غياب الألم وتوافر الصحة. ومما ساعد على انتشار هذه الحكمة الجعفرية في العالم وحمل الأقوام على تقبلها، أنها حكمة صحيحة وسهلة الفهم في آن واحد. وفي وسع كل منا أن يتحقق من صدقها، فيعرف أن الإنسان لا ينسى نفسه أو ينسى أنه حي إذا ما أصابه ألم أو مرض. فمهما تكن قدرة الإنسان على الصبر والتحمل، فلا يسعه في حالة المرض أن ينسى نفسه، لأن الألم يشعره طول الوقت بأنه حي، ويصدق هذا أيضاً في حالة إصابة الإنسان بألم روحي يزيد من شعوره بأنه حي يتأمل. |