ثمّ أنّ الإمام
الصادق
( عليه السلام ) قال له : ( إذا فرغت من الطواف فأتنا ) ، فلمّا فرغ ( عليه السلام
) أتاه الزنديق ، فقعد بين يديه ونحن مجتمعون عنده ( عليه السلام ) ، فقال أبو عبد
الله للزنديق : ( أتعلم أنّ للأرض تحتاً وفوقاً ؟ ) .
قال : نعم ، قال : (
فدخلت تحتها ؟ ) قال : لا ، قال : ( فما يدريك ما تحتها ؟ ) قال : لا أدري إِلاّ
أنّي أظن أن ليس تحتها شيء ، فقال ( عليه السلام ) : ( فالظنّ عجز فلِم لا تستيقن
) ، ثمّ قال ( عليه السلام ) : ( أفصعدت إلى السماء ؟ ) قال : لا ، قال : ( أفتدري
ما فيها ؟ ) قال : لا .
قال : ( عجباً لك لم تبلغ المشرق ، ولم تبلغ
المغرب ، ولم تنزل إلى الأرض ، ولم تصعد إلى السماء ، ولم تجز هناك فتعرف ما
خلفهنّ ، وأنت جاحد بما فيهنّ ، فهل يجحد العاقل ما لا يعرف ؟ ) ، قال الزنديق :
ما كلّمني بها أحد غيرك ، فقال ( عليه السلام ) : ( فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو
، ولعلّه ليس هو ) ، فقال الزنديق : ولعلّ ذلك .
فقال ( عليه السلام ) : (
أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم ، ولا حجّة للجاهل ، يا أخا أهل مصر
تفهم عنّي ، فإنّا لا نشكّ في الله أبداً ، أمّا ترى الشمس والقمر والليل والنهار
يلجان فلا يشتبهان ويرجعان ، قد اضطرّا ليس لهما مكان إِلاّ مكانهما ، فإنّ كانا
يقدران على أن يذهبا فلِم يرجعان ؟ وإن كانا غير مضطرّين ، فلِم لا يصير الليل
نهاراً والنهار ليلاً ؟ اضطرّا والله يا أخا أهل مصر إلى دوامهما ، والذي اضطرّهما
أحكم منهما وأكبر ) .
فقال الزنديق : صدقت ، ثمّ قال ( عليه السلام ) : (
يا أخا أهل مصر إِنّ الذي تذهبون إليه وتظنّون أنّه الدهر ، إِن كان الدهر يذهب
بهم فلِم لا يردّهم ؟ وإِن كان يردّهم لِم لا يذهب بهم ؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل
مصر ، لِم السماء مرفوعة والأرض موضوعة ؟ لِم لا تنحدر السماء على الأرض ؟ لِم لا
تنحدر الأرض فوق طباقها ؟ ولا يتماسكان ولا يتماسك مَن عليها ؟ ) .
قال
الزنديق : أمسكهما الله ربّهما سيّدهما ، قال : فآمن الزنديق على يدي الإمام (
عليه السلام ) ، فقال حمران بن أعين : جعلت فداك إِن آمنت الزنادقة على يدك فقد
آمن الكفّار على يد أبيك ، فقال المؤمن الذي آمن على يدي الإمام ( عليه السلام ) :
اجعلني من تلامذتك .
فقال ( عليه السلام ) : ( يا هشام بن الحكم خذه إليك )
، فعلّمه هشام ، وكان معلّم أهل الشام وأهل مصر الإيمان ، وحسنت طهارته حتّى رضي
بها ( عليه السلام ) .
وجاء إلى الإمام
الصادق
( عليه السلام ) زنديقآخر ، وسأله عن أشياء نقتطف منها ما يلي : قال له : كيف يعبد
الله الخلق ولم يروه ؟ قال ( عليه السلام ) : ( رأته القلوب بنور الإيمان ،
وأثبتته العقول بيقظتها إِثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب
وإِحكام التأليف ، ثمّ الرسل وآياتها ، والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على ما
رأت من عظمته دون رؤيته ) .
قال : أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه
فيعرفونه فيُعبد على يقين ؟ قال ( عليه السلام ) : ( ليس للمحال جواب )
.
أقول : إِنّما الرؤية تثبت للأجسام ، وإِذا لم يكن تعالى جسماً استحالت
رؤيته ، والمحال غير مقدور لا من جهة النقص في القدرة بل النقص في المقدور
.
قال الزنديق : فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً ؟ قال ( عليه السلام ) : (
إِنّا لمّا أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا ، وعن جميع ما خلق ، وكان
ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا أن يلامسوه ، ولا أن يباشرهم
ويباشروه ، ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أنّ له سفراء في خلقه وعباده ، يدلّونهم على
مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فناؤهم .
فثبت الآمرون
والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أنّ لهم معبّرين ، وهم الأنبياء
وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم
على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة
والدلائل والبراهين والشواهد ، من إِحياء الموتى ، وإِبراء الأكمة والأبرص )
.
ثمّ قال الزنديق : من أيّ شيء خلق الأشياء ؟ قال ( عليه السلام ) : ( من
لا شيء ) ، فقال : كيف يجيء شيء من لا شيء ؟
قال ( عليه السلام ) : ( إِنّ
الأشياء لا تخلو : إِمّا أن تكون خلقت من شيء ، أو من غير شيء ، فإن كانت خلقت من
شيء كان معه ، فإنّ ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثاً ، ولا يتغيّر ، ولا
يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهراً واحداً ولوناً واحداً ، فمن أين جاءت هذه
الألوان المختلفة ، والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى ؟
ومن أين جاء الموت إِن كان الشيء الذي أُنشئت منه الأشياء حيّاً ؟ أو من
أين جاءت الحياة إِن كان ذلك الشيء ميّتاً ؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميّت قديمين
لم يزالا ، لأنّ الحيّ لا يجيء منه ميّت ، وهو لم يزل حيّاً ، ولا يجوز أيضاً أن
يكون الميّت قديماً لم يزل لما هو به من الموت ، لأنّ الميّت لا قدرة به ولا بقاء
) .
أقول : إِنّ هذا الأمر على دقّته قد أوضحه الإمام بأحسن بيان ،
وردّده بين أُمور لا يجد العقل سلواها عند الترديد ، وحقّاً إِن كان الشيء الذي
خلقت الأشياء منه قديماً لزم أن يكون مع الله تعالى شيء قديم غير مخلوق له ، ولو
فرض أنّه مخلوق له عاد الكلام الأوّل ، أنّه من أيّ شيء كان مخلوقاً ؟ هذا غير أنّ
القديم لا يكون حادثاً ، والميّت لا يكون منه الحي ، والحي لا يكون منه الميّت ،
والحياة والممات لا يتركّبان ، ولو تركّبا عاد الكلام السابق .
فإنّ الموت
لا يصلح أن يكون في الأشياء الحيّة ، ولا بقاء ولا دوام ليكون باقياً إِلى أن خلق
الله منه الأشياء الحيّة ، فلا بدّ إِذن من أن يكون تعالى قد خلق الأشياء من لا
شيء .
ثمّ قال الزنديق : من أين قالوا : إِنّ الأشياء أزلية ؟ قال : ( عليه
السلام ) : ( هذه مقالة قوم جحدوا مدبّر الأشياء فكذّبوا الرسل ومقالتهم ،
والأنبياء وما أنبأوا عنه ، وسمّوا كتبهم أساطير ، ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم
واستحسانهم ، وإِنّ الأشياء تدلّ على حدوثها من دوران الفلك بما فيه ، وهي سبعة
أفلاك ، وتحرّك الأرض ومن عليها ، وانقلاب الأزمنة ، واختلاف الحوادث التي تحدث في
العالم من زيادة ونقصان ، وموت وبلى ، واضطرار الأنفس إلى الإقرار بأنّ لها صانعاً
ومدبّراً ، ألا ترى الحلو يصير حامضاً ، والعذاب مرّاً ، والجديد بالياً ، وكلّ
إلى تغيّر وفناء ) .
أقول : إِنّ الاستدلال بانقلاب الأزمنة ودوران الفلك
من أدقّ الأدلّة العلمية على حدوث العالم ، الذي قصرت عنه إفهام كثير من الفلاسفة
العظام ، كما أنّه جعل الفلك الدائر فلكاً واحداً ، ثمّ تفسيره بالأفلاك السبعة ،
لا ينطبق إِلاّ على نظرية الهيئة الحديثة ، إِذ يراد به النظام الشمسي ، ومثله
تصريحه بحركة الأرض التي لم يكن يحلم بها أحد من السابقين ، وهي من مكتشفات العلم
الحديث