نبي الله شعيب عليه السلام

كان أهل مدين عرباً يسكنون
أرض معان من أطراف بلاد الشام، وكانوا مشركين، عابدين للأيكة: (وهي واحة تغصّ
بالشجر والزرع). كانت لديهم عادة سيئة. ينقّصون المكيال ويتلاعبون بالميزان، فلا
يعطون الحق أصحابه، وهذه عادة تمس نظافة القلب واليد، مثلما تمس كمال المروءة
والشرف، وقد درجوا على هذه الرذيلة وفي ظنّهم أن بخس الناس أشياءهم، وانتقاص حقوقهم
هي أنواع من المهارة والحذق في البيع والشراء، وضروب من الحنكة والدهاء، في الأخذ
والعطاء ..

فبعث الله اليهم نبيّاً
منهم، هو شعيب الذي أعطاه الله ميزة المخاطبة الحسنة، والأسلوب البليغ المقنع، حتى
قيل بأنه خطيب الأنبياء.

وقد دعا قومه، قبل كل شيء،
إلى ترك الوثنية وعبادة الله الواحد الأحد، ثم أوصاهم بإقامة العدل... فلا غش، ولا
تلاعب بالأسعار والموازين، ولا ابتزاز، ولا سرقة بالحق الواضح
المبين.

وذكرهم بفضائل الله ونعمه
عليهم، إذ كثّر عددهم بعد قلة، وأغنى فقيرهم بعد حاجة، وحذّرهم في النهاية من سوء
عاقبة ما يفعلون وخشي عليهم من فداحة الجزاء لما يؤتون. وقال لهم "ولا تبخسوا الناس
أشياءهم".
والأشياء في مقصده
هي كل ما حوت أيديهم من ماديات أو أنفسهم من معنويات يستوي في ذلك منها علاقات
العمل والإنتاج، والمبادلات على اختلافها، والمسالك الفردية والجماعية على تنويعها،
أي أنها تشمل كل ما يمكن أن يقوم به الإنسان في علاقاته العائلية والفردية
والإجتماعية وبصورة مطلقة، ولذا فإن النهي عن بخس الناس أشياءهم إنّما يعني
الإلتزام بالحقوق والواجبات.
وإلاّ ظلّ الظلم قائماً والطغيان مستفحلاً، وانهزام الناس من
الداخل حالاً، مع ما يستتبع ذلك كله من اللاّمبالاة في تقييم المجهودات وإشاعة
الفساد والانحلال، والانهيار التام للعلاقات، وإذ ذاك يتقوّض المجتمع نهائياً.. هذه
النظرة المتكاملة للحياة البشرية شرحها شعيب لقومه، ففسّر مختلف جوانبها، وبيّن
سائر مدلولاتها، وأوضح النتائج التي تترتّب عليها كما دلّ على مغبّة عدم اعتمادها
أو التخلّي عنها.

ولكنّ القوم رأوا فيما
يدلّهم عليه وفيما يدعوهم للعمل به، مدعاة للهزء والسخرية؛ وكان ردّهم التهجّم
والتهكّم، فقالوا له:

أصلاتك تأمرنا أن نعبد غير
ما عبد آباؤنا الأقدمون، وأسلافنا الأوّلون؟!..

أم تعاليمك تسمح لك بالتدخّل
في إرادتنا وفي تقدير تصرّفنا في أموالنا؟

وما هي هذه العلاقة التي
تربط بها بين الإيمان والصلاة من ناحية أخرى؟

هذه العقيدة الفكرية التي
سيطرت على أهل مدين ما تزال تمارس في أوقاتنا الحاضرة، فكثيرون من الناس يعتقدون أن
الدين مجموعة من القضاية المجردة والمفاهيم المحدودة التي ترتبط بأمور غبية لا صلة
لها بجوانب الحياة، وهو اعتقاد قديم خاطئ لأن الدين في جوهره أسلوب للحياة
والتعامل، مع أنّ الفصل بين قضايا التوحيد والألوهية من ناحية، والقيم الأخلاقية
وسلوك الناس في تصرفاتهم اليومية من ناحية ثانية، يعني تجريد الدين من مضمونه،
وتحويله إلى مجموعة من الطقوس التقليدية الجامدة والمراسم
المّيتة.

ومن هنا كانت دعوة شعيب،
كسائر النبّين والمرسلين، إلى تقويم السلوك البشير، بعد الإيمان بالله الواحد
الأحد، لأن الدين يعني التدخل في جميع نواحي الحياة، ويعني التدخل في سلوك سائر
الأفراد والجماعات، تجاه ربهم وتجاه بعضهم البعض بصورة
خاصة...

ولكن قوم شعيب ألفوا عادتهم
البالية، وتقاليدهم الرثة، أجابوه: أتنهانا يا شعيب عن تعامل أحببناه، وطريق
اتبعناه، وفيه نشأنا وعليه درجنا؟ وكيف ندع ما كثر من أموالنا؟ بل كيف تجرؤ أنت على
دين ألفناه، وشرع ورثنا، أنت الراجح عقلاً، والسديد رأياً، والواسع
حلماً؟...

واستمر شعيب بجدالهم بلطف،
مؤثراً استمالتهم باللين، واجتذابهم بالرفق، فذّكرهم بما يربطه بهم من صلات،وما
تقوم بينه وبينهم من وشائج القربى والمودّة. ولفتهم إلى أنّه لا يطلب أجراً على
هداهم، ولا جزاءً على إرشادهم. وجل همّه وما يصبو إليه، إصلاح أمرهم، لأن فيه
صلاحهم في الدنيا والآخرة.

وظنّ أنّ اذان القوم تفتّحت
لسماع قوله، وقلوبهم اهتدت لنصحه، فأعلن وهو يجهد في دعوته ما استطاع إلى ذلك
سبيلاً، أن الله أوحى إليه بالهدى، وأرسله بالحقّ وأتاه من الرحمة والرّشد، ما لم
يهتدوا هم إليه، وأنّه يدعوهم إلى اتّباعه، والسير على دربه ليكونوا من الناصحين
المفلحين.

ثم لم يلبث بعد حين أن وجد
بأن كل أقواله صيحة في واد، تتمزّقُ أصداؤها لمجرّد خروجها من فمه، وقد بدا له
جليّاً نفور القوم منه، وميلهم إلى مخالفته.. وأحزنه ما يفعلون، مع أنّه لم يترك
حجّةً إلاّ وأبداها، ولم يُبق شبهة إلا وأزالها. وفكّر مليّاً:هل إن هؤلاء القوم
يأنفون من مُتابعته، ويميلون عن دعوته حسداً منه، أم بُغضاً له وكبراً
عليه؟!..

وأراد أن يسلك معهم طريقاً
اخر، فراح يُعرفهم بأس الله وعذابه، ويبيّن لهم مغبّة اقتراف المعاصي وارتكاب
الإثم. ويخوّفهم من هول ما سوف يلقون إذا استمرّوا في ضلالتهم وغيّهم؛ ثم يعود من
جديد إلى دعوتهم للإيمان بالله، والاهتداء به، وطلب المغفرة والتوبة، حتى ينجوا من
العذاب ويتخطاّهم العقاب..

وطرق شتّى السُبُل، وسلك
مختلف الطرق، علّ القوم يثوبون إلى رشدهم فيزيلون عن أبصارهم الغشاوة التي تغطّيها،
ويزيحون عن قلوبهم الضلالة التي تحتويها.. وآن لهم أن يهتدوا، وقد سمعوا قوله
مؤيّدا ًبالحجّة البالغة ورأوا فعله مدعماً بالآية البيّنة..فشعيب- عليه السلام-
يحبّ هؤلاء الناس. ولا عجب في ذلك فهُم بنو بلدته؛ ويجهد في إنقاذهم من مهاوي
الوثنية والجهل ولا غرابة فهو رسول الله إليهم. وكانت تلوح له أحياناً بارقة أمل
وهو يراهم يصغون إليه، وينتعش فؤاده عندما يُحاجّونه ويجادلونه، فلعلّ في ذلك تفتّح
فكر، واستنارة ضمير، ولكن هذه الأماني كانت لا تلبث أن تذهب أدراج الرياح ، فقد بدا
واضحاً أن القوم يسلكون سبيلاً شططاً.. فهاهم يلجأون إلى الغباوة في القول
والمراوغة في الحديث، وها هم يعمدون إلى صدّ الحجّة؛ بالشتم والإهانة. فيجاهرونه
غير مستنكرين:

-إنّنا لم نفقه ما تقول..
ثمّ إنّك يا شعيب وأنت المستضعف الذليل، تحاول أن تنقُض عقائدنا وعاداتنا..؟ ألم
تعلم أنه لم يمنعنا عن أذيّتك إلاّ مكان عشيرتك، وحرمة
قبيلتك؟

لم يهب شعيب هذا التهديد،
ولم يطأطىء الرأس أمام إعلان القوّة، أو يضعف حيال الجبروت الذي تغنّوا به، بل على
العكس من ذلك، هبّ يدفعُ باطلهم بحقّهِ ويمحقُ زورهم ببيّنته، وها هو، وقد تملّكه
الإعزازُ بنصرة الله، وامتلأ قلبه بالفخر بمؤازرته، يعلن لهم بكل صراحةِ ووضوح:أن
رهطه ليسوا أرفع قدراً، ولا أشدّ قوّة، ولا أمنع جانباً من الله عزّ وجلّ. فهو الذي
منحهم هذه القوّة، وأفاض عليهم تلك النعمة... وأن كلّ تهديدهم ووعيدهم لا قيمة له
في نظره، فهو واثقٌ من نصر الله، ومتأكّد من عاقبته الحميدة عنده، لأن الله عليمٌ
بما يعلمون وسميعٌ لما يقولون، وخبير بما يفعلون...

عظم موقف شعيب في بعض النفوس
التي أعطاه أصحابها آذان صاغية، ومنحوه قلوباً واعيةٌ، فامن به نفرٌ قليل.. فهلع
القوم خيفةً من أن يعظم أمره، ويشتدّ ساعده، وتكثر جماعته، فينتشر دينه الذي إليه
يدعو ويحيق بديانتهم البلاء والاندثار، فراحوا يتوعدّونه ومن آمن معه بإخراجهم من
قريتهم إن لم يبرؤا من الوهم الذي هم فيه، ويعودوا إلى ملّتهم. ولكن شعيباً كان لهم
بالمرصاد، فأنبأهم أن الذين اتّبعوه استرقّ الإيمان قلوبهم، فملك عليهم مشاعرهم،
وخالط نفوسهم فأبعدهم عن حمأة الرذيلة، ولن يعودوا إليها طائعين، ولن يرجعوا إليها
مكرهين..

لقد زيّن الله الطاعة في
قلوبهم، وكّره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فأصبحوا من الراشدين
المهتدين..

ولكن القوم ظلّوا في الضلال
ممعنين، وفي الغواية سابحين؛ لأنهم عن الحقّ لاهون، وعلى الدنيا مقبلون، وعمّا
يخبّىء لهم القدر منصرفون، فأقبلوا على المؤمنون ممعنين بالكيد لهم، وبالتضييق
عليهم، تهديداً ووعيداً. أو أن يعودوا إلى سالف تقليدهم، وسابق عادتهم، فلا يكيلون
بالصدق، ولايزنون بالحقّ. وراحوا ينسبون إلى شعيب الشعوزة والسحر، ويتحدّونه بأن
يسقط عليهم كسفاً من السماء، وأن ينزل عليهم العذاب إن كان من
الصادقين...

ولم يجد شعيب بدّاً من الرد
على القوم الكافرين فدعا ربّه:"ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير
الفاتحين".

واستجاب الله دعاءه، آزره
بالنصر... فابتُلي القوم بالحرّ الشديد... لا يروي ظمأهم ماء، ولا تقيهم ظِلالٌ،
ولا تمنعهم تلالٌ أو جبال، ففرّوا هاربين، ومن ديارهم خارجين.. ورأوا سحابة ظنّوها
مظلة لهم من وجه الشمس وحسبوها ستاراً من شدة الحرّ، فاجتمعوا تحتها وهم يأملون
استراحة في فيئها.. ولكن ما ان اكتمل عددهم، واجتمع شملهم، حتى بدأت الغمامة التي
اعتصموا بها، ترميهم بأسراب من الشرّ ولهب، وجاءتهم الصيحة وعذاب الظّلّة من
السماء، وزلزلت الأرض تحت أقدامهم.. ولم يكادوا يحسّون بما يحيق بهم حتى أزهقت
أرواحهم وهلكت نفوسهم.

ورأى شعيب ما حلّ بقومه،
فأعرض عنهم، يثقله الحزن، ويضنيه الأسى.. ولكنّه تذكر كفرهم، وهزأهم به وبمن آمن
معه، وعاودته مخالفتهم لنصائحه وإرشاده، فتأسّى من وجده، وقال: لقد أبلغتكم رسالات
ربي، ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم
كافرين؟!...