إن أي مفكر أو مثقف ما هو إلا نتاج بيئة معينة وأوضاع فكرية واقتصادية كلها أسهمت بشكل أو بآخر في إنتاجه، ولا يعني هذا أبداً أنني مع المفهوم الماركسي الذي يرى أن أي فكر لا يعدو كونه نتاجاً للطبقة التي ينتمي إليها، هذه نظرة أحادية، كما أنني لا أرى أن لا وجود لأناس فريدين جاد بهم الزمان بين فترة وأخرى اجتازوا حدود الزمان والمكان وتميزوا بفكر خارق للعادة وأفادوا البشرية بنظرياتهم العلمية والفكرية الخلاقة، لكن ما سأتناوله من أمر يعد طفرة لا يمكن تصديقها لا في مجال الفكر والعلم بل ولا في مجال القيادة ومهارة الإبداع .
النبي محمد بن عبد الله ذلك الصبي اليتيم، الذي تربى في أحضان عمه أبي طالب،وعندما كبر أخذ يرعى الأغنام وعمل في التجارة،وسافر إلى الشام مرة أو مرتين، كان يتعبد ويخلد إلى نفسه وينقطع إلى ربه في مجتمع بدوي لا يعدو تفكير أفراده ما يدور حولهم مما سجلوه في أدبهم الجاهلي الذي هو صورة مطابقة للواقع المتخلف الذي كان يعيشه العرب قبل الإسلام، محمد هذا في فترة من الرسل وإذا به يأتي بشيء لم تألفه بيئته ولا هو نتاج طبيعي لفرد عاش في تلك البيئة، المفاهيم التي جاء بها راقية جداً والأخلاقيات التي حاول غرسها في نفوس البشرية تمهد لقيام مجتمع مثالي لا يمكن تصوره في كل الاحتمالات بذلك الجو، أما بعد المفاهيم العقائدية والقيم الأخلاقية التي ناضل وتحمل ما تنوء الجبال عن مثله في سبيل بثها في أبناء قومه، فقد خطا خطو متقدمة جداً بعد أن هاجر إلى المدينة، وهي رسم نظام وأسلوب لإدارة دولة بكل ما تعني هذا الكلمة من معنى بغض النظر عن المفهوم السياسي الحالي وإن كان ذلك لا يتعارض مع ما قلناه، فهذه المرحلة تتسم بالدستوريةـ إذا صح التعبيرـ فكثرة التشريعات والأحكام الشرعية التي عالجت مشاكل الفرد والمجتمع في حالتي الحرب والسلم وفي شؤون الحوار مع الآخر، بغض النظر عن دينه أو قوميته، والمعاهدات والأحلاف العسكرية والسياسية، كل ذلك لا ينبئ أن من جاء بمثل هذا الإبداع هو بشر عادي عاش في القرن السادس الميلادي في مجتمع بدوي متخلف لا تكاد تجتاز ثقافته حدوده البيئية من كلأ ونوق وأغنام وشعر وعبادة الأصنام، بل ستجد أن أعداء النبي الأكرم محمد (ص) يشككون في مصدر تلك المعلومات والخلفية الفكرية التي استند إليها (ص) في دينه "الجديد" لأنهم يعلمون علم اليقين أن بيئته لا يمكنها أن تنجب فرداً له ما له من إمكانات وقابليات، ولا يمكنهم في الوقت نفسه أن يعترفوا بإلهية مصادره وبالتالي بنبوته وكونه مرسلاً من الله لإنقاذ البشرية كافة من الجهل والذل والاستكبار وجميع الأمراض الاجتماعية والأخلاقية.
خلال قرنين من الزمان تحولت الأمة التي أيقظها (ص) من السبات وجعل منها شيئاً بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً، إلى أكبر مجتمع ثقافي وأكبر مصدر للتأليف في ذلك العصر في عهد للتصنيف والكتابة لم تشهده هذه الأمة حتى في قرنها الواحد والعشرين، وأصبح العراق في حاضرتيه العلميتين الكبيرتين الكوفة والبصرة ومن بعدُ بغداد من أرقى الحواضر الفكرية وأنجع مصدر للتقارب والحوار الفكري والحضاري.
يجدر بنا كأمة تنتمي إلى هذا القائد العظيم أن نبعث من جديد جذوة الفكر التي اقتدحها قبل أربعة عشر قرناً، وأن نحمل راية الحوار الفكري والحضاري ونبذ التعصب والتطرف الأعمى والدعوة إلى كلمة سواء بين البشرية أجمع؛إذ إنه جاء رحمة للعالمين، وأن نطرح البديل الإسلامي المشرق لما يُطرَح في الإعلام من صورة مشوهة ومزيفة للإسلام، فالذي يُطرَح في الإعلام هو إسلام ابن لادن والزرقاوي وأبي سياف وغيرهم لا إسلام محمد بن عبد الله القائم على حب البشرية والإشفاق عليها من الضلال والجهل، أليس القرآن وهو ما أنزله الله على قلب النبي يخاطبه
(ولعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين )) هذا إسلام محمد تلتهب رحمة الأخوة والأبوة الإنسانية داخل قلبه الكبير وكأنها تحرق ذلك القلب الرحيم بلهبها بسبب عدم توجه الناس للحق والتحاقهم بركب الباطل، لم يدع إلى قتل الناس وتفخيخ الأسواق والأماكن العامة هذه أفعال الهمجيين الآتين من كهوف قندهار؛بدعم وتمويل الأيادي الخفية التي تسوقهم مرة هنا ومرة أخرى إلى هناك.
روح محمد أروع روح حوارية، لذا كان يخاطبه الرب الكريم بأنك لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك وبما رحمة من الله لنت لهم وإنك لعلى خلقِ عظيم، كان يحاور أهل الكتاب بأروع ما يكون من صورة أليس القرآن يقول
( تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم )) أليس هو من أوجد هذه القاعدة الحوارية الجميلة التي تجمع المتحاورين على قواعد مشتركة، أليس كانت قاعدته المقدسة في الحوار مع أصحاب الديانات السماوية الأخرى: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ))، وأخيراً من يقدر أن يفترض طرح مسلماته في طاولة البحث عن الحقيقة والجدال المنفتح على العلم والموضوعية، هذا هو الرسول كما يخبرنا بذلك الفرقان المبين
) وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ))
في رحاب ذكرى ولادة الإنسان الرسول لا يسعنا إلا أن نتوجه في رحاب ذكرى ولادة الإنسان الرسول لا يسعنا إلا أن نتوجه إلى أبناء هذه الأمة بأن نعبئ كل ما لينا من إمكانات لبعث روح محمد في هذا العالم الممتلئ ظلماً واستكباراً وجهلاً وتخلفاً وتعصباً، هذا ما كان يرجوه ،إذ كنتم خير أمة أخرجت للناس تدعون إلى الخير تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتنفعون البشرية؛لأن خير الناس من نفع الناس