سياسته تجاه الظلم والظالمين
لقد تسالمت العقول واتّفقت آراء العقلاء على قبح الظلم ، فهو من أعظم الرذائل ، كما أنّهم لم يجمعوا على تقدير فضيلة كإجماعهم على فضيلة العدل الذي هو أصل كلّ خير، والقلب النابض لجميع الفضائل ، ولا يخرج شيء من الفضائل عنه. فهو اسمى هدف يسعى الإسلام لتحقيقه ، ويأبى أن تهدمه رذيلة حبّ السلطة والتغلّب.
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) ينهى عن الظلم ويحارب الظالمين ، ويأمر بالابتعاد عنهم وعدم التعاون معهم ، وأقواله في ذلك كثيرة ، فأصبحت نوراً تهتدي به النفوس ، ويتردد ذكرها على ألسنة العلماء من أقدم العصور ، وجاء ذكرها في اُمهات الكتب ، فهي نور ساطع في اُفق العقلية البشرية ، وقد سنّ قواعد مشروعة لمقاومة الظالمين ، وهي خير وسيلة لتقويض كيان الظلم ومحو دعائمه.
وكان أهلالبيت (عليهم السلام) يعظّمون على الإنسان إرتكاب العدوان علىالغير والظلم للناس، فقد جاء عن إمام أهل العدل أمير المؤمنين (عليه السلام) : «واللّه لئن أبيت على حسك السعدان مسهّداً أو اُجرّ في الأغلال مصفّداً أحب اليّ من أن القى اللّه ورسوله ظالماً لبعض عباده ، وغاصباً لشيء من الحطام».
ويقول : «واللّه لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ، ما فعلت» (93) الى غير ذلك من تعاليمه وأحكامه.
وقد قام كلّ من أهل البيت (عليهم السلام) بما يجب عليه في نصرة العدل ومحاربة الظلم ، وقد بذلوا أنفسهم لتحقيق ما دعا إليه الإسلام بما يكفل للاُمة السعادة ، لذلك كانوا طعمة لسيوف الظالمين ; لأنّهم كانوا حرباً على الظلم ،وساروا في سياسة سلبية ازاء الحكام الظالمين ، فلم يركنوا إليهم ، ولم يتعاونوا معهم امتثالا لأمر اللّه تعالى : ( ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار )(94) ; وبهذا تحفظ الاُمة كرامتها ، وتكسب قوّة ورفعة ، بينما تضع الحكام الظالمين في مأزق يجعلهم في معزل عن الناس وابتعاد عن الرعية ، وبذلك تكون الاُمة قادرة على إرغام الحكام الظالمين على الاعتدال في السيرة والحكم في العدل.
يحدّثنا صفوان الجمال قال : دخلت على الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، فقال لي : يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ، خلا شيئاً واحداً.
قلت : جعلت فداك أيّ شيء ؟
قال : كراك جمالك من هذا الرجل ـ يعني هارون ـ.
قلت : واللّه ما أكريته أشراً ولا بطراً ، ولا للصيد ، ولا للهو ، ولكن أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكة ـ ، ولا أتولاّه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني.
قال : يا صفوان أيقع كراك عليهم ؟
قلت : نعم جعلت فداك.
قال : أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراك ؟
قلت : نعم.
قال : فمن أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم فهو كمن ورد النار. قال صفوان : فذهبت وبعت جمالي عن آخرها.(95)
وقد قام الإمام الصادق (عليه السلام) بدوره في عصره فأعلن للملأ أضرار الظلم ، لانّ كلّ فساد في الأرض وشق لعصى الطاعة ، واضطراب في نظام العمران إنّما يعود إلى الجور بين الناس ، بل إنّ كلّ قحط وجدب وضيق وضنك ، وجوع وخوف وبلاء وانتقام إنّما هو من ظلم العباد بعضهم بعضاً ، لذلك أمر الإمام الصادق (عليه السلام) بالابتعاد عنهم ، كما أبعد عنه المتقرّب اليه منهم وحرم الولاية لهم، لانّه يرى : «أنّ في ولاية الجائر دروس الحقّ كلّه، واحياء الباطل كلّه، واظهار الظلم والجور» (96) ، كما ورد عنه ذلك ، وكان يقول : العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء.
ودخل عليه عذافر فقال (عليه السلام) : بلغني انّك تعامل أبا أيّوب والربيع ، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟ ونهى يونس بن يعقوب عن معاونتهم حتى على بناء المساجد.(97)
وسأله رجل من أصحابه عن البناء لهم وكراية النهر ، فأجابه (عليه السلام) : «ما اُحبّ أن أعقد لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء ولا مدة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم اللّه بين العباد» (98)
وجاءه مولىً من موالي علي بن الحسين (عليه السلام) فقال له: جعلت فداك لو كلمت داود بن علي أو بعض هؤلاء فادخل في بعض هذه الولايات ; فقال له (عليه السلام): ما كنت لأفعل.فانصرف الى منزله متفكراً ، وقال ما أحسبه منعني إلا مخافة أن أظلم أو أجور ، واللّه لآتينه ولأعطينه الطلاق والعتاق والأيمان المغلظة أن لا أظلم أحداً ولأعدلن. قال فأتيته فقلت : جعلت فداك إنّي فكرت في إبائك عليّ، فظننت أنّك إنّما كرهت ذلك أن أجور أو أظلم ، وإن كلّ امرأة لي طالق وكلّ مملوك لي حرّ وعليّ وعليّ.. إن ظلمت أحداً أو جرت عليه ولم أعدل.
فقال (عليه السلام) : كيف قلت؟ فأعدت عليه الأيمان ، فرفع رأسه الى السماء فقال : تناول السماء أيسر عليك من ذلك(99)
وقد وردت عن أهل البيت أحاديث بجواز الولاية إذا كان فيها صيانة العدل واقامة حدود اللّه ، والإحسان الى المؤمنين ، والسعي في الاصلاح ، ومناصرة المظلومين ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر. فهناك أحاديث عن الأئمة(عليهم السلام) توضّح النهج الذي ينبغي أن يجري عليه الولاة والموظفون ، كما ورد في رسالة الإمام الصادق الى النجاشي أمير الأهواز(100).
وقوله (عليه السلام) : «إنّ لله في أبواب الظلمة من نوَّر اللّه به البرهان ، ومكّن له في البلاد ، فيدفع به عن أوليائه ، ويصلح به اُمور المسلمين» (101)
وقد أشرنا لنهجه الذي وضعه في سياسته التي سار عليها مدة حياته ، وهي السياسة السلبية التي أرادها للاُمة ، وقد مرّ تقسيمه للولاية : ولاية عدل ، وولاية جور ، وسن تلك القاعدة المشروعة في معاملة ولاة الجور في عصره.
يقول أحد رجال القانون(102) في بيان تلك القاعدة عند تعرّضه لرأي الإمام السياسي في عدم المعاونة مع اُمراء عصره :
إنّ الإمام (عليه السلام) قد سنّ قاعدة مشروعة للسياسة السلبيّة ، وهي ما يسمّونها اليوم باللغة السياسية بالعصيان المدني أو سياسة عدم التعاون مع حكومة أو دولة لا تحترم الحقوق ، أو تسيء التصرّف ، فتعبث بحرمة قانونية المعاهدات والمواثيق ، أو تتحدّى قدسية الدساتير ، وحقوق الاُمة المشروعة ، الى غير ذلك من وسائل الظلم ، وذرائع الباطل التي تتوسل بها الحكومات الغاشمة والدول القوية المستعمرة ، وحكام الاستبداد والفساد في سبيل الغايات الخبيثة الدنيئة.
فالإمام الصادق (عليه السلام) قد أوجب على الأفراد عدم التعاون مع ولاتهم الجائرين على اختلاف درجاتهم ومناصبهم من أعلاهم الى أدناهم ، وحرّم عليهم العمل لهم والكسب معهم ، وحذّر وأوعد الفاعل لذلك بالعذاب لارتكابه معصية كبيرة من الكبائر ، لأنّ في بذل المعونة للوالي الجائر إماتة الحقّ كلّه واحياء الباطل كلّه ، وفي تقويته اظهار الظلم والجور والفساد وسحق السنن وطمس الشرائع ـ والعياذ باللّه ـ ولا نريد أن نكثر القول في شرف هذه القاعدة للسياسة السلبية وفي فوائد حكمتها ، وهذه القاعدة الوحيدة الناجعة لعلل السياسة الفاسدة واوبائها المهلكة. وليس للأحرار المصلحين في كلّ أمة قاعدة اُخرى يلجأون اليها في إكراه المستبدين والمستعبدين والمستهترين بحقوق الاُمة للخضوع الى إجابة رغبات الشعب وتحقيقها وتطبيق القوانين وخدمة العدل واحترام الحقّ، إلا اتباع هذه القاعدة المثالية في السياسة السلبية. ولا يقوى على انتهاج هذه الخطّة القويمة إلاّ أصحاب القلوب العامرة بقوّة الإيمان ، وأرباب النفوس الملتهبة بحرارة العقيدة الصحيحة الصلبة ، وأهل الصبر على تقديم القرابين الغالية من أرواحهم الطاهرة في سبيل حريّات الرعية وصيانة حقوقهم من جور الجائرين واعتسافهم. فهل بعد هذا العلاج الشافي من علاج يستعمله الإمام الصادق (عليه السلام) لمداواة السياسة الاُموية والعباسيّة المريضة في روحها ودماغها ؟ ـ اللّهم لا ـ حتى إذا وجد المعين والنصير ، فكيف إذا لم يكن هذا وذاك؟
والظلم في جميع أنواعه قبيح عقلا وشرعاً ، ولم ينحصر الظلم في الولاية بل هو عامّ لجميع أنواع المعاملات التي تقع خلاف الحقّ، وفي ذلك أحاديثكثيرة.
روي عن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قال : «أما إنه ما ظفر بخير من ظفر بالظلم ، أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم» ثم قال : «من يفعل الشر بالناس فلا ينكر الشر إذا فعل به» (103)
وقال : «من أكل من مال أخيه ظلماً ولم يردّه اليه ، أكل جذوة من النار يوم القيامة» (104)
وكان يوصي أصحابه بقوله : إيّاكم أنّ تعينوا على مسلم مظلوم فيدعو عليكم فيستجاب له فيكم، فإنّ أبانا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول : إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة وليعن بعضكم بعضاً ، فإنّ أبانا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول : معونة المسلم خير وأعظم أجراً من صيام شهر ، واعتكافه في المسجد الحرام ، وقال : من أعان ظالماً على مظلوم لم يزل اللّه عليه ساخطاً حتى ينزع عن معونته(105).. إلى غير ذلك من تعاليمه وإرشاداته.