موطنٌ تنزل الملائك فيه ومقام يسرّ (نسرّ) فيه الفؤادا هكذا يصفه الشّاعر عبد الغفّار الأخرس الموصلّيّ، ويشعر بذلك كلّ من يزور عتبته المقدّسة، حتّى أنّ شيخ الحنابلة أبا عليّ الخلّال قال: «ما همَّني أمرٌ فقصدتُ قبرَ موسى بن جعفر فتوسّلت به، إلّا سهّل الله تعالى لي ما أحبّ»؛ وكيف لا، وهو باب قضاء الحوائج...
في هذا التّحقيق نَجول في صفحات تاريخ المشهد الكاظميّ لنتلمّس عظمة هذين الإمامَين اللّذين لم تَستطع عاديات الزّمان محوَ آثارهما في تلك البقعة المباركة.
مدينة الكاظميّة المنسوبة إلى الإمام موسى الكاظم عليه السّلام، حيث مقامه المشرّف، هي جزء لا يتجزّأ من مدينة بغداد، ماضياً وحاضراً؛ وفي المحلّة المعروفة بالتّوثة في منتصف القرن الهجريّ الثّاني [محلّة التّوثة تُعرف اليوم بمقبرة الشّيخ جنيد] بالقرب من نهر عيسى بن عليّ الهاشميّ، كانت هناك مقبرة معروفة آنذاك بمقبرة الشّونيزيّ الصّغير، وفيها دُفن عددٌ من الهاشميّين فعُرفت لاحقاً باسم مقبرة قريش، أو مقبرة بني هاشم. قال الأربليّ في (كشف الغمّة): «وكانت هذه المقبرة لبني هاشم»، أمّا الشّيخ المفيد فقال في (الإرشاد): «إنّها لبني هاشم والأشراف من النّاس».
ويقول ابن خلّكان عند ذكر وفاة الإمام الكاظم عليه السّلام: «ودُفن في مقابر الشّونيزيّة..».
تاريخ المشهد الكاظميّ في الخامس والعشرين من رجب عام 183 للهجرة، استُشهد الإمام الكاظم عليه السّلام مسموماً في سجن هارون العبّاسيّ، فحُمل جثمانه الطّاهر إلى مقابر قريش، ودُفن حيث قبره الشّريف الآن، وانفرَد المسعوديّ في كتابه (إثبات الوصيّة) في أنّه دُفن في موضعٍ كان ابتاعه لِنفسه في مقابر قريش بمدينة السّلام.
اسم المشهد قبل استقرار اسمه الحاليّ، عُرف المشهد الكاظميّ، بعد وفاة الإمام الكاظم عليه السّلام، باسم «مشهد موسى بن جعفر»، و«قبر موسى بن جعفر»، و«مشهد باب التّبن»، نسبةً إلى باب التّبن الذي كان شرقيّه ممّا يقرب نهر دجلة. وانفرد الطّبريّ الإماميّ في (دلائل الإمامة) بتسميته أيضاً بـ «مسجد أبي إبراهيم موسى بن جعفر»، ويعلّق على ذلك الشّيخ محمّد حسن آل ياسين في كتابه (تاريخ المشهد الكاظميّ)، ص18: «ولعلّ كلمة "مسجد" تصحيف لـ "مشهد" كما يرجّح الظّنّ، أو أنّ المقصود به مسجد باب التّبن؛ وقد نسبه للإمام لوقوع قبره الشّريف بالقرب منه».
وصف المشهد قديماً ليست هناك معلومات كافية بخصوص شكل المشهد قديماً وطريقة بنائه، إذ لا تُظهر المصادر كيف كان المقام في العصر العبّاسيّ، سوى الإشارة إلى وجود جدران حوله، والمساجد المحيطة به، وفي هذا رُوي:
عن أحمد بن عبدوس الخلنجيّ، عن أبيه رحيم، قال: «قلت للرّضا عليه السّلام: جعلتُ فداك! إنّ زيارة قبر أبي الحسن، عليه السّلام، ببغداد علينا فيها مشقّة [أي الخوف من بطش السّلطة الحاكمة بالزّائرين]، وإنّما نأتيه فنسلّم عليه وراء الحيطان، فما لمَن زاره من الثّواب؟ قال: فقال له: والله مثل ما لمَن أتى قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله». [كامل الزّيارات، لجعفر بن محمّد بن قولويه]
وعن الحسين بن يسار الواسطيّ قال: «قلت للرّضا عليه السّلام: أزور قبر أبي الحسن عليه السّلام ببغداد؟ فقال: إن كان لا بدّ منه فمن وراء الحجاب». [بحار الأنوار، ج99: 4]
وعن عليّ بن حسّان قال: «سئل الرّضا عليه السّلام في إتيان قبر أبي الحسن موسى عليه السّلام فقال: صلّوا في المساجد حوله». [من لا يحضره الفقيه، للشّيخ الصّدوق]
إذاً، كان المشهد محاطاً بجدران، وكانت الزّيارة من ورائها، والصّلاة في المساجد المحيطة حوله، خوفاً من بطش السّلطة الحاكمة.
وبعد شهادة الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليهما السّلام دفن في (تربة) جدّه الكاظم عام 220 للهجرة، وشيّدت قبّتان فوق قبريهما الشّريفين بعد مدّة قصيرة، بدليل أنّ التّربة لا تطلق إلّا على قبر مختصّ عليه قبّة.
وبعد مدّة وجيزة، أخذت الحجرات والدُّور تكثر حول المشهد، وخصّصت للمرقدَين الشّريفَين غرفة لزيت القناديل، وأخرى للفرش وغير ذلك، وكانت زيارة المرقدَين الشّريفَين تتأرجح بحسب علاقة الحاكم العبّاسيّ بالعلويّين.
المشهد في العهد البويهيّ مع وصول البويهيّين إلى بغداد، ازداد الاهتمام بالمشهد الكاظميّ. ففي عهد معزّ الدّين البويهيّ الذي أصبح الحاكم الفعليّ في ظلّ الخلافة العبّاسيّة، جرى تجديد المشهد الكاظميّ عام 336 للهجرة، ووُضع فوق القبرَين صندوقان من خشب السّاج تعلوهما قبّتان من السّاج أيضاً، وأُحيطا بسُورٍ للحفاظ عليهما، وأفرد معزّ الدّين عمّالاً لخدمة المشهد، وجنوداً للحفاظ على الأمن، الأمر الّذي شجّع النّاس على الإقامة حوله، فأخذَت رقعة العمران تزداد شيئاً فشيئاً، وأقبل النّاس على زيارة الإمامَين عليهما السّلام، وتقديم الهدايا للمشهد، والدّليل على ذلك ما أورده ياقوت الحمويّ في (معجم الأدباء) في ترجمة شاعر أهل البيت عليّ بن عبد الله بن وصيف النّاشئ (ت: 365 للهجرة): «وكان يعمل الصّفر [أي النّحاس] ويخرمه، وله فيه صنعة بديعة ".." ومن عمله قنديل بالمشهد بمقابر قريشٍ مربّع غاية في حسنه».
في العام 367 للهجرة فاض نهرُ دجلة، فأحدث خراباً في الجانب الشّرقيّ من بغداد، من جملتها خراب أصاب مقابر قريش بما فيها المشهد الكاظميّ، الأمر الّذي حدا بأبي شجاع، عضد الدّولة البويهيّ، ببناء سُورٍ متينٍ حوله ليَقيه من الفياضانات المقبلة، وأعاد بناء ما تهدّم منه.
ثمّ أنفق عضد الدّولة الأموال الكثيرة على ما تهدّم واحترق من منازل بغداد وأسواقها ومساجدها إثر الفتنة الّتي ضَربت البلاد، وأوْكَل إلى نقيب العلويّين الإشراف على بناء المساجد الجامعة والمشهد الشّريف.
وفي عهد ابنه شرف الدّولة (376-379 للهجرة)، جُرّت المياه من دجلة إلى المشهد.
في العام 441 للهجرة، وإثر الفتنة الكبرى الّتي ضربت بغداد، مُنع الشّيعة من إحياء يوم عاشوراء في المشهد الكاظميّ، لكن سرعان ما تصالح السّنّة والشّيعة في العام التّالي، بعد اتّفاقهم على التّخلّص من رئيس شرطة بغداد، وفي ذلك ورد في (النّجوم الزّاهرة) لابن تغري بردي: «".." وسبب ذلك أنّ أبا محمّد النّسويّ وليّ شرطة بغداد وكان فاتكاً، فاتّفقوا على أنّه متى رحل إليهم قتلوه، واجتمعوا وتحالفوا، وأُذّن بباب البصرة بـ (حيّ على خير العمل)، ".." ومضى أهل السّنة والشّيعة إلى مقابر قريش".."».
وعادت الفتنة فضرَبت أطنابها، فدخل الغوغائيّون النّواصب المشهد الكاظميّ، وقال ابن الأثير في (الكامل في التّاريخ): «".." قصدوا مشهد باب التّبن فأُغلق بابه، فنقبوا في سُوره وتهدّدوا البوّاب، فخافهم وفتح الباب، فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضّة وستور وغير ذلك، ونهبوا ما في التّرب والدُّور، وأدركهم اللّيل فعادوا. فلمّا كان الغد كثر الجمع، فقصدوا المشهد ".." وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجرِ في الدّنيا مثله ".."».
في العام 450 للهجرة جدّد البساسيريّ والملك الرّحيم المشهد، ووضعا صندوقَين جديدَين فوق القبرَين، وشيّدا سياجاً للرّوضة نفسها وقبّة عليها، كما شيّدا بهواً واسعاً من جهة الجنوب، وجعلا إلى جنب ذلك مسجداً ومئذنة.
في النّصف الثّاني من القرن الخامس في العام 466 للهجرة، فاضت دجلة فتهدّم سور المشهد الكاظميّ، فتكفّل صاحب الموصل شرف الدّولة مسلم بن قريش بن بدران (قُتل عام 478 للهجرة) بإصلاحه.
في العام 490 للهجرة، جدّد مجد الملك أبو الفضل البراوستانيّ القمّيّ المشهد، وارتفعت فوقه مئذنتان زُيّنتا بالفسيفساء، وُوضع صندوقان جديدان من السّاج، واستُحدث محلّ لاستراحة للزّائرين.
في القرنَين السّادس والسّابع في العام 575 للهجرة، بُني رواقٌ جديد كان له باب يسمّى الباب الأوّل، وكان الدّخول إلى الرّوضة من داخل الرّواق ولها باب خاصّ يسمّى الباب الثّاني؛ وبُني بهوٌ وعددٌ من المآذن، كما جُدّد الصّندوق المطعّم بالذّهب فوق الضّريح، وكُسِيَ المشهد بأبهى حلّة، فبُنيت الحجرات والدُّور قرب المشهد لاستقبال الزّائرين ولإطعام الفقراء عام 604 للهجرة.
وفي مطلع القرن الهجريّ السّابع جُدّدت عمارة القبّة الشّريفة، كما جُدّد الرّواق وتمّ توسعة البهو، وزيد في سعة الحَرَم، ووُضع صندوقان من الخشب الجيّد فوق الضّريحين، كلّ ذلك بإشراف السّيّد ابن طاوس، وتمّ التّجديد عام 624 للهجرة. وما زال صندوق قبر الإمام الكاظم
محفوظاً في الغرفة (16) في دار الآثار العربيّة ببغداد.
بعد سقوط بغداد أحرق المغول المشهد الكاظميّ عندما اجتاحوا بغداد وخرَّبوها، ولمّا استتبّ الأمر أُعيد تجديده. ففي عهد الأمير قراتاي، قام شهاب الدّين بن عبد الله، بعمارة المسجد الجامع والمشهد الكاظميّ، وكان الشّيخ نصير الدّين الطّوسيّ المحرّك الأساس لتجديد المشهد الشرّيف.
وما إن انتهى القرن السّابع الهجريّ «حتّى كان المشهد قد بلغ الغاية في العمارة والزّينة والتّنظيم»، ووصفه الرّحالة الّذين قصدوا بغداد آنذاك.
وبقي نهر دجلة يفيض ويخرِّب ما حوله، ثمّ يعاد بناء ما تهدّم. ففي العام 769 للهجرة، جدّد السّلطان أويس الجلايريّ المشهد، فبنى قبّتَين ووَضع صندوقين من الرّخام فوق الضّريحين الشّريفين، وزَيّن الحرم بالطّابوق الكاشانيّ مزداناً بالآيات القرآنيّة، وعمَّر الرّواق والرّباط في الصّحن، وصرف الأموال للخدّام والسَّدَنَة.
في العهدَين الصّفويّ ثمّ القاجاريّ * عام 914 للهجرة، دخل الشّاه إسماعيل الصّفويّ بغداد فاتحاً، وبعد مدّة، زار المشهد الكاظميّ، فأنعم على مَن كان هناك بأنواع الإنعام، وعيَّن الرّواتب لخدّام المشهد، وأصدر أمرَه بقلع عمارة المشهد من أساسها وتجديدها تجديداً يشتمل توسيعَ الرّوضة وتبليط الأروقة بالرّخام، ووضعَ صندوقَين خشبيَّين على القبرَين الشّريفَين، وتزيين الحرم وأطرافه الخارجيّة بالطّابوق الكاشانيّ ذي الآيات القرآنيّة والكتابات التّاريخيّة، كما أَمر بأن تكون المآذن أربعاً بعد أن كانت اثنتَين، وبتشييد مسجدٍ كبيرٍ في الجهة الشّماليّة للحَرَم متّصل به، وأحال أمر تنفيذ ذلك إلى أمير الدّيوان خادم بيك، وعاد إلى إيران.
كذلك أمر الشّاه إسماعيل أيضاً بتنظيم شؤون الصّحن المحيط بالمشهد، وكان فيه رباط للحيوانات الّتي تُقِلّ الزّائرين إلى المشهد ومنه، فأمر بإبعاده وجعله خلف الصّحن.
كما أمر بتقديم ما يحتاجه المشهد من فرش وقناديل، وعيّن للمشهد عدداً من الحفّاظ والمؤذّنين والخدّام. ويظهر من تاريخ الطّابوق أنّ الأعمال العمرانيّة قد تمّت في عهد الشّاه طهماسب عام 936 للهجرة.
* وفي عام 1032 للهجرة، أعاد الشّاه عبّاس الصّفويّ حكم الصّفويّين في بغداد بعد غياب دام 92 عاماً إثر الاحتلال العثمانيّ سنة 941 للهجرة. وبعد استتباب الأوضاع واستقرارها زار الشّاه المشهد، وأمر بإعادة تشييد ما خرَّبته الحروب والفتن وما سبّبته من إهمال، وأمرَ بصنعِ ضريحٍ ضخمٍ من الفولاذ يوضع على الصّندوقين الخشب ليقيهما غوائل النّهب والسّلب أثناء معارك الفوضى أو هجوم العشائر على البلدة. وبالنّظر إلى سوء العلاقات السّياسيّة بين إيران وتركيا، فقد تأخّر إرسال هذا الضّريح حيناً طويلاً من الدّهر استمرّ حتّى عام 1115 للهجرة، فوصل إلى الكاظميّة في شهر جمادى الثّانية من تلك السّنة وفدٌ كبيرٌ يضمّ لفيفاً من علماء الدّين والوزراء والوجهاء الإيرانيّين، وفي مقدّمتهم شيخ الإسلام الشّيخ جعفر الكمرئيّ ومعهم هذا الضّريح الفولاذ، وأُقيم لنصبه على المرقد احتفالٌ عظيمٌ حَضَرَه الآلاف من العراقيّين والإيرانيّين. وهذا الضّريح كان يشتمل على كتاباتٍ كثيرة من جملتها سورة (الدّهر) وآياتٍ أُخرى من القرآن المجيد، مضافاً إلى بعض الأبيات والمقطّعات الشّعريّة.
* وفي عام 1045 للهجرة أمر الشّاه صفيّ بن عبّاس الصّفويّ بإجراء بعض الإصلاحات في المشهد.
* في العام 1207 للهجرة، أمَرَ أقا محمّد شاه القاجاريّ بإكمال ما بَدَأه الصّفويّون في هذا المشهد، فأُنشئت المنائر الثّلاث الكبرى الّتي رفع الصّفويّون سمكَها إلى حدّ السّطح، وكانت الرّابعة مشيّدة منذ أكثر من مائتي سنة -ولكنّها بلا سقف من فوق رأس المؤذّن- فشُيِّد لها سقف.
وتمّ إنشاءُ صحن واسع يحفّ بالحرم من جهاته الثّلاث: الشّرقيّة والجنوبيّة والغربيّة، ويتّصل الجامع الكبير بالحرم من جهته الشّماليّة. وتمّ تخطيط الصّحن بمساحته الموجودة اليوم.
وأكمل فتح عليّ شاه التّجديدات؛ فنَقَش باطن القبّتَين وسقف الرّوضتين بماء الذّهب والميناء وقِطَع الزجاج الملوّن، وزيّن جدران الرّوضة كلّها بقطع الزّجاج الجميل المثبّت على الخشب. ثمّ ذهَّب القبّتَين والمنائر الصّغار الأربع عام 1229 للهجرة.
* وفي العام 1255 للهجرة، غُشّي الإيوان الصّغير بالذّهب، بنفقة منوجهر خان الملقّب «معتمد الدّولة» أحد رجال الحكومة الإيرانيّة (توفّي نحو سنة 1260 للهجرة).
* وفي العام 1270 للهجرة، أرسل ناصر الدّين شاه القاجاريّ الشّيخ عبد الحسين الطّهرانيّ المشتهر بلقبه «شيخ العراقَين» إلى العراق للإشراف على تنفيذ مخطّطٍ عمرانيٍّ واسعٍ للعتبات المقدّسة، من تجديد وإصلاح وتجميل؛ وبدأت الأعمال العمرانيّة في المشهد الكاظميّ سنة 1281 للهجرة بعد انتهاء أعمال العمران في كربلاء وسامرّاء. فجُدّدت العمارة في الدّاخل والخارج، وجرى بناء مداخل لإيداع الزّائرين أحذيتَهم وأماناتهم فيها. وانتهى العمل في كلّ ذلك عام 1285.
* وفي القرن الثّالث عشر الهجريّ، أصبح المشهدُ آيةً في الفنّ والجمال والإبداع والإحكام، لكن لم يكن فيه موضع يُستفاد منه للصّلاة سوى دكّة كبيرة في شماليّ الجهة الشّرقيّة تُقام فيها صلاة الجماعة. وكان الوصول إليه يختلط بالوحل، فتطوّع الأمير فرهاد ميرزا القاجاريّ، عمّ ملك إيران ناصر الدّين شاه، بتجديد العمارة وتوسعتها وبناء سراديب منظّمة لدفن الموتى في ساحة الصّحن وإيواناته وحجراته، وبدأ العمل في عمارة الصّحن عام 1296 للهجرة، وانتهى عام 1301 للهجرة.
وها هو اليوم بعمارته الشّامخة، يحتضن، بالقرب من الإمامَين عليهما السّلام، ثلّة من العلماء، منهم الشّيخ المفيد قدّس سرّه.
من كرامات العتبة الكاظميّة ورد في دلائل الإمامة للطّبريّ: «".." أبو الحسين محمّد بن هارون بن موسى التّلعكبريّ، قال: حدّثني أبو الحسين بن أبي البغل الكاتب (من وزراء المقتدر العبّاسيّ توفّي مسجوناً في حدود سنة 299 للهجرة) قال: تقلّدتُ عملاً من أبي منصور بن الصّالحان، وجرى بيني وبينه ما أوْجَب استتاري، فطلَبني وأخافَني، فمكثتُ مُستتراً خائفاً، ثمّ قصدتُ مقابر قريش ليلة الجمعة، واعتمدتُ المبيت هناك للدّعاء والمسألة، وكانت ليلة ريح ومطر، فسألتُ ابن جعفر القيّم أن يغلق الأبواب وأنْ يجتهد في خلوة الموضع، لِأَخلو بما أريده من الدّعاء والمسألة، وآمَن من دخول إنسانٍ ممّا لم آمنه، وخفتُ من لقائي له، ففعل وقفل الأبواب وانتصف اللّيل، وورد من الرّيح والمطر ما قطع النّاس عن الموضع، ومكثتُ أدعو وأزور وأصلّي. فبينما أنا كذلك، إذ سمعتُ وطأة عند مولانا موسى عليه السّلام، وإذا رجلٌ يزور، فسلَّم على آدم وأُولي العزم عليهم السّلام، ثمّ الأئمّة واحداً واحداً إلى أن انتهى إلى صاحب الزّمان عليه السّلام [فلم يذكره]، فعجبتُ من ذلك وقلت: لعلّه نَسي، أو لم يعرف، أو هذا مذهب لهذا الرّجل. فلمّا فرغ من زيارته صلّى ركعتَين، وأقبلَ إلى عند مولانا أبي جعفر عليه السّلام، فزارَ مثل الزّيارة، وذلك السّلام، وصلّى ركعتين، وأنا خائفٌ منه، إذ لم أعرفه، ورأيته شابّاً تامّاً من الرّجال، عليه ثياب بِيض، وعمامة محنّك بها بذؤابة، ورداء على كتفه مُسبل، فقال لي: يا أبا الحسين بن أبي البغل، أين أنت عن دعاء الفرج؟ فقلت: وما هو يا سيّدي؟ فقال: تُصلّي ركعتين، وتقول: يا مَن أظهر الجميل، وسَتر القبيح ".." وتدعو بعد ذلك بما شِئت وتسأل حاجتك ".." [إلى آخر الدّعاء والذّكر]. فلمّا شغلتُ بالصّلاة والدّعاء خرج، فلمّا فرغتُ، خرجتُ لابن جعفر لأسأله عن الرّجل وكيف دخل، فرأيتُ الأبواب على حالها مغلقة مقفلة، فعجبتُ من ذلك، وقلت: لعلّه باب ها هنا ولم أعلم، فأنبهتُ ابن جعفر القيّم، فخرج إليّ من بيت الزّيت، فسألته عن الرّجل ودخوله، فقال: الأبواب مقفلة كما ترى ما فتحتُها. فحدّثته بالحديث، فقال: هذا مولانا صاحب الزّمان، صلوات الله عليه، وقد شاهدتُه دفعات في مثل هذه اللّيلة عند خلوِّها من النّاس. فتأسّفتُ على ما فاتني منه، وخرجتُ عند قرب الفجر، وقصدتُ الكرخ إلى الموضع الّذي كنتُ مُستتراً فيه، فما أضحى النّهار إلّا وأصحاب ابن الصّالحان يلتمسون لقائي، ويسألون عنّي أصدقائي، ومعهم أمانٌ من الوزير، ورقعة بخطّه فيها كلّ جميل، فحضرتُ مع ثقة من أصدقائي عنده، فقام والتزمني وعامَلني بما لم أعهده منه، وقال: انتَهَت بك الحال إلى أن تشكوني إلى صاحب الزّمان، صلوات الله عليه، فقلت: قد كان منّي دعاء ومسألة. فقال: ويحك! رأيتُ البارحة مولاي صاحب الزّمان، صلوات الله عليه، في النّوم -يعني ليلة الجمعة- وهو يأمرُني بكلّ جميل، ويجفو عليّ في ذلك جفوة خفتها. فقلت: لا إله إلا الله، أشهد أنّهم الحقّ ومنتهى الصّدق، رأيت البارحة مولانا عليه السّلام، في اليقظة، وقال لي كذا وكذا، وشرحتُ ما رأيتُه في المشهد، فعجب من ذلك، وجرَت منه أمورٌ عظامٌ حسانٌ في هذا المعنى، وبلغت منه غاية ما لم أظنّه ببركة مولانا صاحب الزّمان صلوات الله عليه». د. أليس كوراني