بسم الله الرحمن الرحيم
الرحمن على العرش استوى
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} تأتي كلمة الرحمن لتخفف من تأثير الصفة العظيمة التي تضغط على المشاعر، في ما توحي به من رهبة وروعة وقوة، عندما يقف الإنسان أمام خالق السماوات والأرض، لتكون صفة الرحمة موحية بالانفتاح الحميم على الله، بحيث يحس الإنسان أمام الله بالقرب من رحمة الله ولطفه ورضوانه.
والاستواء على العرش، كناية عن الاستيلاء على السلطة، في ما تمثله كلمة العرش من الموقع الأرفع والمقام الأعلى الذي يجلس عليه صاحب السلطان ليحكم من خلاله، وهذا رمز للملك. وهذا المعنى ليس مقصوداً بذاته في معناه المادي حتى بالنسبة إلى صاحب الملك في الدنيا، فإذا قيل إن الملك قد جلس على العرش، فإنهم يريدون به استيلاءه على السلطة، كما أن ذلك مستحيل بالنسبة إلى الله، باعتبار أنه ليس كمثله شيء، فلا يمكن أن يكون جسماً، أو يحتويه مكان، وهذا ما ورد به الحديث عن الإمام جعفر الصادق
في ما رواه عنه الصدوق في كتاب التوحيد، قال في حديث طويل: «قال السائل: فقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال أبو عبد الله
: بذلك وصف نفسه، وكذلك هو مستولٍ على العرش، بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملاً أو حاوياً له، ولا أن يكون العرش محتازاً له، لكنّا نقول: هو حامل للعرش وممسك العرش، ونقول في ذلك ما قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّموَاتِ وَالأرْضَ}»[3] [البقرة:255].
وإذا كان العرش يمثل في مضمونه الكنائي الموقع الذي يطل على الكون كله، فإن الاستواء عليه يمثل الإشراف على مواقع السلطة كلها، من صغير الأمور وكبيرها، وقريب الأشياء وبعيدها، فليس شيء أقرب إليه من شيء، وكانت نسبة الأشياء إليه على حد سواء. وقد لا يكون هناك منطقة كونية تسمى بالعرش، ولكن ليس من الضروري أن تكون الآية ناظرة إليها، لأنها تلتقي بالجانب المعنوي منها، لا بالجانب المادي.
ولعل مثل هذا الاستيحاء الكنائي في الآية لا يدخل في باب التأويل الذي يذهب بعض الناس إلى ضرورة إبعاد القرآن عنه، لأن ذلك يؤدي إلى جواز تأويل جميع معارف الدين وأحكام الشرع، وهو قول الباطنية، بل إن ذلك يندرج في الفهم البلاغي القرآني الذي لا يقتصر على حمل الألفاظ على معانيها اللغوية الحقيقية، بل يتسع للمعاني المجازية الواردة على طريقة الكناية والاستعارة، على أساس وجود بعض القرائن العقلية واللفظية التي تصرف اللفظ عن ظاهره، فتكون المسألة من باب رد المتشابه إلى المحكم.. فإذا كان العقل يحيل فكرة جسمية الله وخضوع أفعاله لما يخضع له خلقه في أوضاعهم المادية، وإذا كان القرآن يؤكد أنه ليس كمثله شيء، سبحانه وتعالى عما يصفون، فإن ذلك يؤكد المعنى الكنائي الجديد، في إرادته من اللفظ، والله العالم.
* * *
[color:e8a0=rgb(85, 107, 47)]الله المسيطر المطلق على الكون
{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} ولعل هذه الآية تُفصِّل امتداد هذه السلطة المطلقة وسعتها وعمقها، فإذا كان الله يملك كل الموجودات الحية والجامدة في السماوات والأرض وفيما بينهما، وفي أعماق الثرى، فإن ذلك يعني سيطرته المطلقة على ذلك كله، ويفرض على الخلق الذين حمّلهم المسؤولية، أن يعيشوا الخضوع لسيطرته فيطيعوه في ما أمرهم به، وينتهوا عمّا نهاهم عنه.
{وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وهكذا يتمثل حضور سلطته الإلهية المطلقة في كل موقع من مواقع وجود خلقه، بحيث يشرف عليه إشرافاً مباشراً من دون أن يغيب عنه شيء من أمورهم، في ما يفعلون ويتكلمون، فليس هناك شيء أقرب إليه من شيء، لأن الأشياء تتساوى لديه في جميع شؤونها. وهذا ما يجعل مسألة الجهر بالقول أو الإسرار به، واحدة في علمه، لأنه يعلم السر وأخفى ويسمع وساوس الصدور، ولا يفوته شيء من كلام عباده مهما كان خفياً في مواقع السر العميقة الهامسة.
{اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} فهو وحده الإله الذي يملك الأمر كله، فلا أمر في حركة الوجود إلا أمره، وهو الذي يملك الكون كله، فليس هناك أحد إلاّ هو مملوك ومربوب ومخلوق له.. وتلك هي النتيجة الطبيعية لما تقدمت به الآيات السابقة من شمول القدرة والملك، والربوبية المطلقة.
{لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَى} بكل دلالتها في صفات الكمال والجلال المطلقة، في ما يمثله التصور الصحيح للعقيدة الإلهية التوحيدية التي توحي بالتفرُّد المطلق بالربوبية في كل شؤونها، بعيداً عن مماثلة المخلوقين في أي شيء من صفاتهم وأوضاعهم.
وهذا هو الأسلوب القرآني الذي يحرك الإيمان بالله في كل موقع من المواقع التي يمكن أن يطل منها الإنسان على الله، سواء في الحديث عن وحيه، أو عن مخلوقاته، بحيث يستحضر ذكر الله في جوانب عظمته، أو في امتداد ربوبيته، أو في الانفتاح على عظمته في ذاته المقدسة. فنحن نلاحظ أن الحديث قد انطلق في البداية عن النبي في مسؤوليته الرسالية عن الدعوة إلى الله بما أنزل عليه من القرآن الذي كان تنزيلاً من الله، وهكذا بدأ الحديث عن الله في ما يراد له من تأكيد التصور التوحيدي في أكثر من موقع، لئلا يغيب عن الوجدان في جميع الحالات.
ـــــــــــــــــــــ
(1) نقلاً عن تفسير الميزان، ج :14، ص:125.
(2) انظر: الدر المنثور، ج:5، ص:549.
(3) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج :14، ص:128.