... وَانْهَجْ لي إلى مَحَبَّتِكَ سَبيلاً ...
.....
المحبة في قلوب البشر هي طبيعة فطرية وتختلف مراتب المحبة من شخص لآخر، في زمننا الحالي حيث أصبحت المادة هي الشاغل الأكبر لفئة كبيرة من الناس وهي مصب اهتمامهم فقد غفلوا عن المحبوب الحقيقي وابتعدوا عنه وهذا ما يترتب عليه آثار ليست ببسيطة تؤثر عليهم في الدنيا والآخرة.
الذي يغرق نفسه في الماديات كالذي يقف في قعر بئر، وفي تصوره وظاهر الامر تراه يسكن القصور ويعتقد بأنه ملك الدنيا بما فيها ولكنه في الحقيقة أعمى بصيرته بما جنته يداه من السعي وراء اشباع رغباته والتمسك بالامور الدنيوية فأصبح أسير هذا البئر المظلم ..
نحن نحتاج أحياناً لمنبه يوقظنا من غفلتنا، حقيقة توقف للحظة وانظر من حولك، اطرح على نفسك هذه التساؤلات .. أين أنا؟؟ ما الهدف من وجودي في هذا العالم؟ تأمل خلقك والموجودات من حولك فإن فعلت ذلك وكنت موفقاً ستجد شيئاً ما يتحرك بداخلك وتجد أنك تتجه بكل كيانك وكل شيء يدلك إلى المعبود والمحبوب الحقيقي سبحانه وحده ..
يُروى: أنَّ عيسى عليه السّلام مر بثَلاثَةِ نفَر قَد نَحَلَت أبدانُهُم وتغيرت ألوانهم ، فَقال لهم : ما الَّذي بَلَغَ بِكُم ما أرى ؟ فَقالوا : الخوفُ من النّار.
فَقال : حقٌّ على الله أن يُؤمِنَ الخائف. ثُمَّ جاوَزَهُم إلى ثَلاثَةٍ اُخرى ، فَإِذا هُم أشد نُحولاً وتغيراً ، فَقال : ما الَّذي بلغ بِكُم ما أرى ؟ قالوا : الشَّوقُ إلى الجنَّة. قال : حقٌّ على الله أن يعطيكم ما ترجون. ثُمَّ جاوزهُم إلى ثَلاثَةٍ اُخرى ، فَإِذا هُم أشَدُّ نُحولاً وتغيراً ، كَأَنَّ عَلى وُجوهِهِمُ المَرايا من النور ، فَقال : ما الَّذي بلغ بكم ما أرى ؟ قالوا : حُبُّ الله عز وجل. فَقال : أنتُم المُقَربون ، أنتُم المُقربون. (1)
ورد عن مولانا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أنه قال «إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار». (2)
وقال في مناجاته لله: "إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك ولا رغبةً في ثوابك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك".
ومن مناجاة له عليه السلام: ( عبدتك حبا فيك لا طمعا في جنتك ولا خوفا من نارك) (3)
فالفئة الأخيرة قد علمت الهدف من وجودها ووصلت إلى الكمال الحقيقي وهو حب الله عز وجل، فنرى أن لشدته قد انعكس من الباطن على ظواهرهم وكانوا لذلك حقاً هم المقربين عند الله ..
لذا لنلتفت لحقيقة ان اتياننا بالعبادات والواجبات من دون وجود شعلة المحبة في قلوبنا ستكون عبادتنا بلا روح ولا تعدوا عن كونها مجرد حركات بدنية نقوم بها ولقلقة لسان لا أكثر، فالمحبة تضفي لأعمالنا طاقة تحلق بها إلى اسمى المراتب فترى الشخص المحب لله تكون أعماله ممزوجة بالدموع والخشوع وقلبه يرق من شدة شوقه لله فلا شيء يعدل لديه كلحظة يتلذذ بها في محضر خالقه .. بل في كل حركاته ومعاملاته الدنيوية والدينية تراه يستحضر وجود الله ويعتبر بكل ما يراه ..
آه لولا الحب يسري في جميع الكائنات
ما على الورد غدا البلبل يزجي النغمات
لو اننا جردنا العالم من حولنا وازحنا الحجب التي على بصائرنا وأصغينا للموجودات والمخلوقات حولنا لوجدنا ان كل شيء يلهج بذكر الله سبحانه وتعالى فما من رمل ولا شجر ولاطير قد صف جناحه يطوف في هذه السماء الا وقد سرت محبة الله وذكره لديه ..
فتقدم واسعى للخروج من هذا الظلام واسمح لشمس الحقيقة ان تشرق أمامك واستشعر دفئها وتأمل نورها .. فإن بقاءك في القعر في هذا الظلام بمثابة اعراضك واصرارك على اغماض عيني البصر والبصيرة عن رؤية النور والحقائق ..
(( وَانْهَجْ لي إلى مَحَبَّتِكَ سَبيلاً سهَلَةً ، أكمِل لي بِها خَيرَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ )) (4)
.. جعلنا الله واياكم من المحبين لله الصادقين ورزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل ..
.....
(1) المحجّة البيضاء : 8 / 6
(2) نهج البلاغة شرح محمد عبده: ج 4، ص 53.
(3) راجع البحار: ج 7، ص 186. وفي: ص 197. وفي: ص 234. وفي: ج 72، ص 278.
(4) من دعاء الإمام زين العابدين عليه السّلام
وفقكم الله لكل خير ببركة وسداد
محمد واله الطاهرين عليهم السلام