تميز فقه أهل
البيت بمميزات جلى تعد في قمة الفقه الإسلامي وما زالت حتى اليوم مرجعاً معتمداً عند كافة العلماء. من هذه الميزات نذكر:
1 ـ اتصال فقه أهل
البيت بالنبي (صلّى الله عليه وآله):
من ميزات فقه أهل
البيت أنه يتصل اتصالاً مباشراً بالنبي (صلّى الله عليه وآله). والطريق الوحيد إليه أئمة أهل
البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. وجعلهم الرسول الأعظم سفن
نجاة الأمة وأمن العباد الدائم، وعدلاء الذكر الحكيم حسبما تواترت الأخبار.
قال الإمام الباقر (عليه السلام): (نحن خزان علم الله، ونحن تراجمة وحي
الله، ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ومن فوق الأرض)(1). وقال أيضاً
(عليه السلام): (نحن أهل بيت الرحمة، وشجرة النبوة، ومعدن الحكمة وموضع
الملائكة، ومهبط الوحي)(2).
ومما لا شك فيه أنهم سلام الله
عليهم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأعلم الناس بشؤون شريعة
الله وأدرى الناس في توضيح أحكام سنة الله من غيرهم. فروايتهم عن جدهم
النبي (صلّى الله عليه وآله) أو عن جدهم أمير المؤمنين (عليه السلام) من
أصح الروايات وأقربها إلى الواقعية والدقة. وهذا ما دعا الفقهاء إلى
الاقتصار على روايات الأئمة في استنباطهم للأحكام الشرعية، باعتبارها قد
حازت على وثاقة الدليل. قال الإمام الباقر (عليه السلام): لو أننا حدثنا
برأينا ضللنا كما ضل من قبلنا، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه
(صلّى الله عليه وآله) فبينها لنا)(3) وقال أيضاً في وثاقة الحديث عندما
سئل كيف يحدث الحديث ولا يسنده فقال (عليه السلام):
(إذا حدثت بالحديث فلم أسنده فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبي الحسين
الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن
جبريل عن الله)(4).
فهل هناك سند أصح وأشرف وأوثق من هذا السند؟ وهل يجد المسلمون الذين يبتغون
وجه الله والدار الآخرة طريقاً يوصلهم إلى الله جل شأنه أسلم وأضمن من هذا
الطريق؟
2 ـ موافقته لكل زمان:
فقه أهل
البيت وافق كل زمان ويواكب التطور، ويساير جميع متطلبات الحياة، فليس فيه ضرر
ولا إضرار ـ والحمد لله ـ ولا ينطلق من مصالح شخصية ضيقة تنتهي بانتهاء
أصحابها، وإنما فيه الصالح العام ومصلحة الأمة الإسلامية. وقد نال إعجاب
جميع رجال القانون واعترفوا بأنه من أفضل ما قنن في عالم التشريع عمقاً
وأصالة وذلك بسبب التوازن في جميع مناحي تشريعاته. إن فقه أهل
البيت استعرض مشاكل الأمة الإسلامية فوضع الحلول الحاسمة لجميع مشاكلها، فكان
آية للعدل المطلق ومنارة للحق والمحض، وقوة دافعة للتقدم العلمي والحضاري.
من هنا كانت مرونته ومواكبته للفطرة الإنسانية.
3 ـ حيويته وأصالته:
يركز الفقه الإمامي بالرجوع إلى حكم العقل معتبراً أنه أحد المدارك
لاستنباط الأحكام الشرعية، وقد أضفى عليه فقهاء الإمامية ألوان التقديس
فاعتبروه رسول الله الباطني، وإنه مما يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان.
ومن الطبيعي أن الرجوع إلى العقل أمر طبيعي إذا لم يكن في المسألة نص، وإن
للعقل مسرحاً كبيراً في علم الأصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد، إذ أكثر
مسائل الفقه يستند فيه الفقهاء إلى ما تقتضيه القواعد الأصولية فيها، وعلى
ضوء حكم العقل فقد حكموا بوجوب مقدمة الواجب، وأن الأمر بالشيء يقتضي النهي
عن ضده، كما حكموا بحجية الظن المطلق بناء على الحكم لا على الكشف،
وأرجعوا الخبرين المتعارضين إلى حكم العقل فإن أيد أحدهما فيؤخذ به حسبما
دلت عليه الأخبار إلى غير ذلك من المسائل التي يرتبط موضوعها بحكم العقل
وهذا مما يدعو إلى الاعتزاز بالفقه الإمامي والفخر بحيويته وأصالته. فقه
أصيل عقلاني يدرس مشاكل الأمة الإسلامية ويضع لها الحلول المناسبة.
4 ـ فتح باب الاجتهاد:
وما تميز به فقه أهل
البيت (عليهم السلام) عن بقية الفقه الإسلامي هو فتح باب الاجتهاد الذي أقفل في
المذاهب الأخرى. وهذا إن دلل على شيء فإنه يدلل على أصالته وتفاعله مع
الحياة واستمراره في العطاء لجميع شؤون الإنسان. فلا يقف مكتوف الأيدي أمام
الأحداث المستجدة التي يتخبط بها الناس وعلى الأخص في العصر الأموي الذي
ولدت فيه أحداث جديدة لم تكن موجودة في العصور السابقة (5).
لقد أدرك علماء المسلمين من الأزهر مدى الحاجة الملحة إلى فتح باب الاجتهاد
وموافقة الشيعة في هذه الظاهرة حيث لم يجدوا لبعض المشاكل حلاً مناسباً
إلا على مائدة أهل البيت.
يقول أحمد أمين: (وقد أصيب المسلمون بحكمهم على أنفسهم بالعجز، وقولهم
بإقفال باب الاجتهاد لأن معناه لم يبق في الناس من تتوفر فيه شروط المجتهد،
ولا يرجى أن يكون ذلك في المستقبل، وإنما قال هذا القول: بعض المقلدين
لضعف ثقتهم بأنفسهم وسوء ظنهم بالناس)(6).
ويؤكد عالم آخر عرف برجاحة عقله وبعد تفكيره، وهو السيد رشيد رضا بضرورة فتح باب الاجتهاد فيقول:
(ولا نعرف في ترك باب الاجتهاد منفعة ما، وأما مضاره فكثيرة وكلها ترجع إلى
إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استغلال الفكر، وقد أهمل
المسلمون كل علم بترك الاجتهاد فصاروا إلى ما نرى)(7).
فهو يرى أن إهمال المسلمين لفتح باب الاجتهاد أوقعهم بمشاكل كثيرة كانوا بغنى عنها.
فالإسلام دين الحياة والأحياء يكره جمود الفكر ويدعو إلى الانطلاق في
ميادين الفكر ورحاب العلم، ولذلك يرى من الضروري فتح باب الاجتهاد وفرض
التقليد لأن ليس فيه خروج على المنطق والدليل وأما إقفاله فقد كان في زمن
خاص فرضته الأحوال السياسية للحكومات القائمة في تلك العصور حسبما يقول
الباحثون.
والآن سوف نعطي بعض المسائل الفقهية التي أثرت عن فقه الإمام الباقر (عليه السلام).
إن ما أثر عن الإمام الباقر من المسائل الفقهية يستدعي تدوين موسوعة فقهية
ضخمة، ذلك أن معظم أبواب الفقه وبحوثه قد رويت عنه، إلا أننا نذكر بعض
المسائل التي رويت عنه، منها:
حكم القتال في الإسلام:
سأله رجل من الشيعة عن حكم القتال في الإسلام بصورة عامة وحروب جده أمير
المؤمنين (عليه السلام) التي جرت في عهده. فقال له (عليه السلام): (بعث
الله محمداً (صلّى الله عليه وآله) بخمسة أسياف: ثلاثة منها شاهرة لا تغمد
حتى تضع الحرب أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها
فإذا طلعت الشمس من مغربها أمن الناس كلهم في ذلك اليوم فيومئذٍ لا ينفع
نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، وسيف منها
مغمود، سله إلى غيرنا، وحكمه إلينا، وسيف مكفوف.
فأما السيوف الثلاثة الشاهرة: فسيف على مشركي العرب، قال تعالى: (… فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد)(
. ويتابع
قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين
ونفصل الآيات لقوم يعلمون)(9). هؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في
الإسلام، وأموالهم فيء وذراريهم سبي على ما سن رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) فإنه سبى وعفا وقبل الفداء.
والسيف الثاني: على أهل الذمة. قال تعالى: (وقولوا للناس حسناً)(10). نزلت
هذه الآية في أهل الذمة، ونسخها قوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين
أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(11).
فمن كان من أهل الذمة في دار الإسلام فلن يقبل منهم إلا: الجزية أو القتل،
وليس لهم فيء، وذراريهم سبي، فإذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم
وحرمت أموالهم، وحلت لنا مناكحتهم)(12) ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا
سبيهم وأموالهم، ولم تحل لنا مناكحتهم، ولم يقبل منهم إلا دخول دار الإسلام
والجزية أو القتل.
والسيف الثالث:
على مشركي العجم كالترك والديلم والخزر. قال تعالى: أول السورة: الذين
كفروا ثم يذكر بعدهم المشركين: (فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا
الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها…)(13).
فقوله: (فإما مناً بعد) يعني بعد السبي منهم. (وإما فداء) يعني المفاداة
بينهم وبين أهل الإسلام. فهؤلاء لن يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في
الإسلام، ولا يحل لنا نكاحهم ما داموا في الحرب.
وأما السيف المكفوف:
فسيف على أهل البغي والتأويل. قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء
إلى أمر الله)(14). فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلّى الله عليه
وآله):
إن منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل النبي
(صلّى الله عليه وآله) من هو؟ فقال: خاصف النعل ـ يعني أمير المؤمنين. وقال
عمار بن ياسر: قاتلت بهذه الراية مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
ثلاثاً (15) وهذه الرابعة والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا السعفات من هجر
لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل (16)، وكانت السيرة فيهم من أمير
المؤمنين (عليه السلام) مثل ما كان من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في
أهل مكة يوم فتحها فإنه لم يسب لهم ذرية، وقال: من أغلق بابه فهو آمن، ومن
ألقى سلاحه فهو آمن، وكذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): يوم البصرة
نادى فيهم لا تسبوا لهم ذرية ولا تدففوا على جريح (17)، ولا تتبعوا مدبراً،
ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن.
والسيف المغمود:
هو السيف الذي يقام به القصاص. قال الله عز وجل: (النفس بالنفس والعين
بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به
فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)(18) فسله إلى
أولياء المقتول وحكمه إلينا.
هذه السيوف قد بعث الله بها محمداً (صلّى الله عليه وآله) فمن جحدها أو جحد
واحداً منها أو شيئاً من سيرها فقد كفر بما أنزل الله تبارك وتعالى على
محمد نبيه)(19).
وفقهاء المسلمين استمدوا هذه الأحكام وطبّقوها على قتال أهل البغي من سيرة
الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في حرب الجمل كما أخذوا عن الإمام
الباقر وغيره من الأئمة المعصومين الكثير من الأحكام فيما يعود إلى حكم
القتال في الإسلام وغيره من الأحكام.
المسح على الخفين:
لقد جوز أئمة أهل
البيت (عليهم السلام) المماسة على الخفين ولم يسوغوا غيرها بينما خالف ذلك
فقهاء المذاهب الإسلامية وجوزوا المسح على الخفين في الوضوء. يقول الربيع:
أدركت الناس يمسحون على الخفين في الوضوء حتى لقيت رجلاً من بني هاشم، محمد
بن علي بن الحسين فسألته عن المسح؟ فنهاني عنه وقال: لم يكن أمير المؤمنين
(عليه السلام) يمسح، وكان يقول سبق الكتاب المسح على الخفين، وهو يعني
الآية: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) والآية ظاهرة فيما حكم به أهل
البيت (عليهم السلام)(20).
هذه بعض المسائل الفقهية التي أدلى بها الإمام الباقر (عليه السلام) ومعظم أبواب الفقه أصولاً وفروعاً قد أخذت عنه.
وبعد علم الفقه الذي أتحفنا به الإمام الباقر ماذا عن علم الأصول؟
ـــــــــ المصادر
(1) أصول الكافي ج1 ص192.
(2) روضة الواعظين ص27.
(3) أعلام الورى ص270.
(4) نفسه ص270.
(5) مثل التلقيح الاصطناعي وزرع الأعضاء وغير ذلك.
(6) يوم الإسلام ص189.
(7) الوحدة الإسلامية ص99.
(
سورة التوبة، الآية 5.
(9) سورة التوبة، الآية 118.
(10) سورة البقرة، الآية 83.
(11) سورة التوبة، الآية 29.
(12) الكافي باب (المناكح).
(13) سورة محمد، الآية 4.
(14) سورة الحجرات، الآية 9.
(15) الثلاث هي: يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين.
(16) هجر: بلدة باليمن.
(17) لا تدففوا على جريح: أي لا تجهزوا عليه.
(18) سورة المائدة، الآية 45.
(19) تحف العقول ص288 وما بعدها ورواه الكليبي في فروع الكافي والشيخ الصدوق في الخصال، والشيخ الطوسي في التهذيب.
(20) روضة الواعين ص243.