علي السعدي الرتبــــــة
رقم العضوية : 48 الجنــس : المواليد : 23/05/1970 التسجيل : 04/02/2013 العمـــــــــــــــــر : 54 البـــــــــــــــــرج : الأبـراج الصينية : عدد المساهمات : 254 نقـــــــــاط التقيم : 557 السٌّمعَــــــــــــــة : 0 علم بلدك : 15000
| موضوع: قصة قانون الحياة السبت مايو 04, 2013 5:00 pm | |
| قانون الحياة
تأليف : جاك لندن ـ ترجمة : ر اتب رسلان
كان (كوسكوش )، الرجل الهندي الهرم، والزعيم السابق لقبيلته، جالساً على الثلج. كل مايستطيع فعله الآن هو الجلوس والإصغاء للآخرين. لقد ضعف بصره كثيراً بحكم سنه، لكن سمعه لايزال حاداً. آه! ذلك صوت حفيدته من ابنته -(سيتكوم توها ). إنها تضرب الكلاب جاهدةً لجعلها تقف أمام الزلاجات الثلجية من أجل تسريجها. لقد نسيت جدها مثلما نسيه الآخرون أيضاً. اضطرت القبيلة للبحث عن أراضٍ جديدةٍ للصيد. ثم تأجيلُ هذه الرحلة الثلجية طويلاً، والأيام تمرُّ بطيئةً موحشةً في القطب الشمالي. لم تستطع القبيلة أن تنتظر قدوم الموت، وكوسكوش كان يحتضر.
أوحت طقطقة جلود الحيوانات المتجمدة لكوسكوش أن خيمة الزعيم قيد الإزالة. الزعيم هو ابن (كوسكوش )، وهو صياد جبار، بينما يترك والده ليموت هنا وحيداً! استطاع كوسكوش أن يسمع صوت ابنه يحث النساء على عدم التقاعس في العمل، وأنصت باهتمام لأنها المرة الأخيرة التي يسمع فيها صوت ابنه، وسمع بعدها أنين طفل صغير، ومناغاة إحدى النسوة لتهدئته. لابد أنه (كوتي )، إنه ولد مريض، وسيموت قريباً، وسيحرق رجال القبيلة حفرة في الأرض الجليدية لدفنه فيها. ثم سيغطون جسمه الصغير بالحجارة لمنع الذئاب من الاقتراب منه. حسناً، مافائدة حياتنا؟ تمر بضع سنوات وفي النهاية نموت. الموت يتربص بنا، فاتحاً فاه جوعاً. ولاعجب في ذلك فالموت له بطن أشره من بطون جميع الكائنات الأخرى.
أنصت (كوسكوش ) لأصوات أخرى: صوت الحبال الجلدية المتينة الملتفة على الزلاجات لتثبيت أمتعة الرجال؛ أصوات السياط الجلدية اللاسعة تحث الكلاب على التحرك وجر الزلاجات. آه! أسمع أنين الكلاب من وطأ ذلك! الآن يرحلون! وفي هدأة صمت الليل المهيب تحركت الزلاجات واحدة تلو الأخرى. لقد خرجوا من حياته وتركوه وحيداً يواجه آخر ساعة مريرة له على وجه الأرض. لكن ماهذا الصوت؟ الثلج يرتصّ تحت وطء حذاء أحدهم. وقف رجل إلى جانبه ووضع يده بلطف على رأسه الهرم؛ لقد كان ابنه "البار". في تلك اللحظة ذهب خيال (كوسكوش ) إلى الماضي حيث كان الأبناء يتركون آباءهم الهرمين بدون وداعٍ. لم يوقظه إلا صوت ابنه:
سأله الابن: "هل تسير الأمور على مايرام؟"
أجاب (كوسكوش ) العجوز: "نعم، تسير الأمور على مايرام.."
قال الابن: "الحطب إلى جانبك وهاهي ألسنة اللهب تضطرم، الصباح رمادي، والبرد قادم. ستثلج السماء، لا بل إنها تثلج الآن".
أجاب الأب: "نعم، إنها تثلج الآن.."
ردّ الابن: "رجال القبيلة مستعجلون، بأحمالهم الثقيلة، وبطونهم الخاوية، إنهم يرحلون بسرعة لأن الطريق طويل. أنا راحل الآن. هل كل شيء على مايرام؟"
"كل شيء على مايرام... أنا مثل ورقة في آخر سنة لها تلتصق بالشجرة، ومع هبوب أول نسمة سأهوي أرضاً. صوتي مبحوح كصوت المرأة الحيزبون، ولم تعد عيناي تبصران موطئ الخطوة التالية لقدميّ. لقد انتهيت يابني.. نعم، كل شيء على مايرام!؟"
أحنى (كوسكوش ) رأسه على صدره وأنصت لوقع خطا ابنه على الثلج فيما كان يرحل. مدّ يده وتحسس الحطب إلى جانبه عوداً تلو الآخر، وفي قرارة نفسه كان يعلم أن النار ستلتهمهم جمعياً، وخطوة فخطوة سيكتنفه الموت، وعندما تحترق آخر حطبة، سيهاجمه البرد: في البداية ستتجمد قدماه، ومن ثم يداه، وسيسري الخدر بتؤدة من الأطراف إلى الأحشاء، وبعدها سيرتاح. الأمر بسيط، فكل الرجال سيموتون.
شعر (كوسكوش ) بالأسى، لكنه لم يفكر بمصدر هذا الأسى فقد كانت ذلك قانون الحياة ! إنه ابن هذه الأرض، ولم يكن هذا المصير جديداً بالنسبة إليه. إنه مصير كل حيّ، والطبيعة لاتتعاطف مع الأحياء، ولاتكترث بالفرد أبداً، فجلّ اهتمامها منصبّ على التجمعات والسلالات والأجناس. إنها فكرة مبهمة بالنسبة للعجوز (كوسكوش )، لكن عقله البسيط استطاع إدراكها. لقد شاهد أمثلة حيّة على ذلك خلال مسيرة حياته: تكوّن النسغ البسيط في الصباح الباكر، ومن ثم تفتح الأوراق الخضراء، ناعمة الملمس كالبشرة النضرة، فسقوط الأوراق الصفراء اليابسة. في ذلك تتجسد مسيرة الحياة كلها، لقد حددت الطبيعة للفرد مهمة واحدة؛ إذا لم يؤدها، يموت. وإن أدّاها، فالأمر سيان، يموت أيضاً! الطبيعة لاتعبأ بأحد؛ فثمة أناس كثيرون كانوا مطيعين، لكن هذه الطاعة لم تمنع عنهم الموت، فقبيلة كوسكوش قبيلة عريقة، عرف فيها رجالاً هرمين كما عرف آباؤه هرمين آخرين من قبل، وبالتالي فإن عيش القبيلة في الماضي وانصياح كامل أفرادها للطبيعة ضارب في القدم، لكن معالم وجودهم ومواطن استقرارهم ذهبت الآن مع الريح. لم يحسبوا أيام حياتهم لأنها كانت مجرد سلسلة من الحوادث، وكان رحيلهم أشبه برحيل الغيوم من سماء الصيف، وكوسكوش نفسه مجرد حادثة عابرة، وسيرحل أيضاً. لم تكترث الطبيعة بأحد؛ لقد حددت هدفاً واحداً للحياة لكنها قيدتها بقانون: هدف الحياة الخلود. ولكن هيهات! فالموت يحكمها.
وهاك مثالاً آخر عن قسوة الطبيعة: الفتاة العذراء مخلوق جذاب ملفت للنظر؛ بفتوتها وشموخ صدرها، ورشاقة جسدها، وبريق عينيها، لكن مهمتها الأزلية ماثلة أمامها: يشرق النور في عينيها، تتسارع خطواتها، لتصبح أكثر جرأة وأرقّ فؤاداً مع فتيان القبيلة، وتهبهم من هيجان عاطفتها دائماً لتزداد جمالاً في عيون الناظرين، حتى يأتي أقلّ الصيادين قدرةً على ضبط عواطفه ويأخذها إلى خيمته لتطبخ له ولتخدمه ولتصبح أمّاً لأطفاله. ومع مجيء ذريتها، يتلاشى جمالها: تضمر أضلعها وتجرّ بعضها بعضاً، ليخبو السحر في عينيها، ويكون مرح الأطفال قرب النار العزاء الوحيد لخدود المرأة الهندية العجوز الذابلة، لقد أدت وظيفتها، وبعد فترة قصيرة، مع أول وخزة من وخزات المجاعة، أو أول رحيل مفاجئ للقبيلة، ستترك هذه المرأة في وحشة الثلج وحيدة، كما تُركت أنا، مع كومة ضئيلة من الحطب. ذلك هو القانون!
أذكى (كوسكوش )، زعيم القبيلة السابق، النار بعود آخر من الحطب وبدأ يجترّ ذكرياته، تذكر كيف ترك والده في أعالي قمم جبل (الكوندايك ) في أحد فصول الشتاء يواجه حتفه وحيداً.
مرت على (كوسكوش ) أيامٌ وفيرة الطعام والراحة والمرح حيث كانت البطون متخمة، بل إنّ الطعام تُرك ليفسد ويتعفن، في تلك الأيام كانت الحيوانات ترعى في مضاربهم آمنة مطمئنة، وحتى النساء كنّ مخصبات وأنجبن الكثير من الأطفال، كما عاصر لسبع سنوات أوقات ندرة الطعام وخواء البطون؛ حين اختفى السمك وتَعَذَّرَ صيد الطرائد.
تذكر أيضاً، عندما كان غلاماً صغيراً، كيف افترست الذئاب أحد الأيائل القطبية الشمالية. كان معه صديقه (زينجها )، الذي قتل فيما بعد في نهر اليوكون). آه! يالقصة ذاك الأيل
في ذلك اليوم خرج (كوسكوش ) و (زينجها ) للعب عندما شاهدا على حافة النهر آثار خطوات أيل حديثة.
قال (زينجها ): "إنها خطوات أيل عجوزٍ، لايستطيع أن يركض كالآخرين، إنه متخلف عن أخوته بحيث فصلته الذئاب عن الأيائل الأخرى، ولن تتركه أبداً".
وكان الأمر كذلك، لم تتوقف الذئاب ليل نهار عن نهش أنفه وعضّ قدميه، ومكثت معه حتى النهاية.
شعر (زينجها ) و(كوسكوش ) بسرعة جريان الدم في عروقهما فالنهاية ستكون مشهداً يستحق المتابعة!
تقفيا أثر خطوات الأيل والذئاب، وكل خطوة روت لهم قصة مختلفة، رأوا المأساة بكامل تفاصيلها، هذا هو المكان الذي توقف فيه الأيل ليبدأ القتال، كانت سماكة الثلج ثلاثة أقدام، ضرب الأيل أحد الذئاب بحافره الثقيل فصرعه على الفور.
وشاهدا أيضاً كيف حاول الأيل جاهداً الفرار عبر صعود التلة، لكن الذئاب انقضت عليه من الخلف، فتقهقر الأيل وسقط ساحقاً اثنين منهم، كان واضحاً أن النهاية قاب قوسين أو أدنى، فالطريق تخضب بدم الأيل، وسمع كوسكوش وزينجها أصوات هدير المعركة -لم يكن ذلك الصياح عواء هازجاً للذئاب مجتمعة، بل حشرجة وحوشٍ تنهش لحم فريستها.
زحف كل من (كوسكوش ) و(زينجها ) على بطنه خشية الذئاب، وشاهدا النهاية بأم أعينهما. كانت النهاية صورة مؤثرة لازمت كوسكوش طوال حياته، تراءت الآن لعينيه الباهتتين الكليلتين كما رآها مع زينجها في الماضي الغابر.
تأمل (كوسكوش ) ماضيه لفترة طويلة، حتى خمدت النار وتغلغل البرد في عظامه. أذكى النار هذه المرة بعودي حطب، تاركاً عودين ستكون حياته رهينة بهما. آه! لو تتذكر (سيتكوم توها ) جدها الآن، وتعود حاملة ملء ذراعيها حطباً، عند ذلك ستطول ساعاته المتبقية، وسيكون الأمر يسيراً، لكنها كانت دائماً طفلة لا مبالية، ولم تحترم أجدادها منذ أن وقعت عينا (بيفر ) -حفيد (زينجها )- عليها للمرة الأولى. لكن ماجدوى هذا الكلام الآن؟ ألم يفعل (كوسكوش ) الشيء ذاته في شبابه المنصرم؟ أعار (كوسكوش ) سمعه لوهلة للسكون المطبق، ربما يرق قلب ابنه ويعود مع القافلة ليحمله إلى حيث ترعى الأيائل المترهلة بكثرة.
أرهف (كوسكوش ) سمعه، وهدأ عقله المضطرب للحظة، لم يبد أية حركة على الإطلاق، تنفس في غمرة السكون المهيب، إنها عزلة رهيبة. وضع إحدى قطعتي الحطب الأخيرتين فوق النار. أنصت! أي صوت غريب هذا؟ أتراه يصدر عن احتراق الحطب في النار؟ لا، إنه ليس الحطب! سرت القشعريرة في جسده عندما عرف الصوت.. الذئاب قادمة! أعادت صرخة أحد الذئاب إلى ذهن (كوسكوش ) صورة الأيل الهرم الممزق جسده إلى أشلاء يتقاطر منها دم قان على الثلج، خَضَّبَ العظام المجرومة رمادية اللون لكن بعد أن جمد. كما تراءت له أشكال الذئاب الغبراء المندفعة بعيون براقة، وألسنة طويلة سال لعابها، وأنياب حادة وهي تقترب منه بحذر بطيء لتكمل الحلقة من حوله.
داعبت أنفه هبة هواء باردة ورطبة، وعلى إثرها انتفضت روحه واستيقظت. امتدت يده إلى النار وسحبت منها عوداً مشتعلاً. شاهد الذئاب النار لكنه لم يخف، بل استدار وأصدر عواء في الفضاء دعا به أخوته الذئاب. لبَّت الذئاب نداء الجوع وقدمت مسرعة.
أصغى الهندي العجوز للذئاب الجائعة وهي تشكل حلقة حوله وحول ناره الضئيلة. لوَّح (كوسكوش ) بالعود المشتعل. لكن الذئاب اللاهثة لم تتحرك من مكانها. بل إن أحدها أخذ يقترب أكثر كما لو أنه يريد أن يبلوَ قوة هذا الرجل العجوز، تقدم الثاني، وتبعه الثالث؛ كما لو أن فكرة التراجع كانت مستبعدة تماماً.
لماذا علي أن أقاتل؟ وعلام أتشبث بالحياة؟ سأل (كوسكوش ) نفسه، وأفلت العود المشتعل، ليسقط من يده ولتخمد ناره في الثلج. كانت حلقة الذئاب تضيق عليه أكثر فأكثر، حين قفزت إلى مخيلته صورة الأيل أثناء معركته الخاسرة. فطأطأ (كوسكوش ) برأسه على ركبتيه أهـ
| |
|
أبو سجاد الرتبــــــة
رقم العضوية : 9 الجنــس : المواليد : 15/05/1973 التسجيل : 19/12/2012 العمـــــــــــــــــر : 51 البـــــــــــــــــرج : الأبـراج الصينية : عدد المساهمات : 10278 نقـــــــــاط التقيم : 14107 السٌّمعَــــــــــــــة : 6 علم بلدك : الموقع : منتديات اهل البيت عليهم السلام مشرف منتدى الامام علي عليه السلام
| موضوع: رد: قصة قانون الحياة الإثنين مايو 13, 2013 1:58 pm | |
| سلمت يداك أخي الكريم ودمت بحفظ الله | |
|