مر بنا ان الإمام الباقر (عليه السلام) كان يُعني في مدرسته بتدريس علوم اخرى عدا القرآن والحديث، كالتاريخ والجغرافيا والطب. أما في ما يتعلق بالطب، فهناك روايتان مختلفتان، تذهب الاولى إلى تأكيد تدريسه له، في حين أن الثانية تنسب تدريسه إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام). وأياً كان الأمر، فليس ثمة شك في أن جعفراً الصادق (عليه السلام) كان ملماً بالطب، وكان يلقي دروساً فيه، أفاد منها كثيرمن الأطباء والباحثين والمرضى في القرنين الثالث والرابع. ومن نظرياته التي انتفع بها الأطباء في عصره وبعد وفاته، رأيه في امكان تنشيط الدورة الدموية عند حدوث سكتة مفاجئة أو توقف مؤقت، حتى ولو ظهرت على المريض إمارات الموت أو علامات شبيهة بعلامات الموتى. وقد يُعيد الحياة إلى مريض بقطع وريد بين أصابع يده اليسرى إسالة للدم منه(1). وقد أثبت صحة هذه النظرية واقعة تاريخية حدثت في أيام هارون الرشيد، الخليفة العباسي، فقد ذكر المؤرخون أن ابراهيم بن صالح (ابن عم هارون الرشيد) مرض، فعاده جبرائيل بن يختيشوع الطبيب(2)، ثمَّ دخل على هارون الرشيد وهو جالس إلى المائدة. فسأله هارون الرشيد عن ابراهيم بن صالح، فأجاب بختيشوع أنه لا أمل في حياته، وهو يعيش لحظاته الأخيرة، وقد تركته والطبيب الهندي ابن بهلة يدخل عليه(3). فقال هارون الرشيد: نعم، لقد أرسلت في طلبك مرتين ولم أجدك، فأرسلت في طلب ابن بهلة الطبيب ليعود ابراهيم بن صالح، وكان ابن بهله الهندي طبيباً في بغداد أيضاً وهو ينافس بختيشوع ويحسده على مقامه عند الخليفة. فأفزعه النبأ، وترك الطعام، وأمر برفع المائدة، وبعد ساعة، دخل ابن بهلة على الخليفة، وشاهد الحزن والقلق مرتسمين على وجهه. فابتدره هارون الرشيد بالسؤال على ابن عمه، وهل هو يحتضر. فرد عليه ابن بهلة قائلاً:لا، فقد فحصته، وأنا واثق من أنه سيبرأ من مرضه هذا. فقال هارون الرشيد: أتكذّب ابن بختيشوع، وهو طبيب أباً عن جد؟ فقال ابن بهلة: يا أمير المؤمنين، إن مات ابن عمك الليلة، فلك كل ما أملك ونفسي. فسره هذا، وزال عنه الحزن، وأمر بالطعام من جديد، وطلب الشراب، وأفرغ كأسا بعد أخرى، وفي هذه الثناء، دخل عليه غلاماً ناعياً ابراهيم بن صالح قائلاً إنه مات لتوه، فأحزنه النبأ، وأغضبه أنه كان يتناول الشراب وقت وفاة ابن عمه، ولولا نشوة الخمر، لكان غضبه أشد، وأقبلت عليه الحاشية معزية مسرية. وارتدى الخليفة السواد، وجاء إلى بيت ابن عمه ليشارك في تجهيزه ودفنه، وكان من جملة المجتمعين في البيت ابن بهلة الطبيب الذي كان ينظر إلى الميّت نظرة تفحص وتأمل وهو مسجى على منضدة الغسل. فوقع نظر الخليفة على هذا الطبيب، وناداه غاضباً، فأقبل الطبيب على أمير المؤمنين قائلاً: لا تغضب ولا تتعجل مؤاخذتي لأن ابن عمك سيعيش. فقال الخليفة: إني أمقت الكذب وأبغض الكذابين، وهذه فرية غليظة منك. فقال ابن بهلة: إن ابن عمك لم يمت ميتة كاملة، فما زالت به نسمة الحياة، ولسوف يعيش، ولكني أخشى إن هو نهض ورأى نفسه عارياً على المغتسل أو في الكفن أن يكون وقع الصدمة عليه قاتلاً، فلعلك تأمر بإزالة آثار الكافور عنه، وإعادته إلى ثيابه، ووضعه في سريره لأقوم بعلاجه. فأمر هارون الرشيد بإنفاذ ما طلبه ابن بهلة، الذي تناول سكيناً حادة، وقطع عرقاً بين أصابع اليد اليسرى للمريض، فنزف دمه، وعندئذ رآه الجميع وهو يتحرك ببطء. ولم يلبث أن فتح عينيه، فرأى هارون الرشيد واقفاً عند رأسه، وشكره بصوت خفيض متخيلاً أن الخليفة جاء لعيادته. سبق القول بأننا نفتقر إلى شواهد تؤكد أن الإمام الباقر (عليه السلام) كان يدرس الطب، ولكننا واثقون من أن جعفرا الصادق (عليه السلام) درس علوم الطب في مدرسته، وكانت له فيها آراء ونظريات لم يسبقه غليها أحد في الشرق، ولا يقصد بالشرق هنا شبه الجزيرة العربية، إذ هي لم تعرف مدارس الطب، اللهم إلا الذي عرف عن العرب في هذا الميدان قبل الاسلام، من أن بعضاً منهم درس الطب أو غيره من العلوم في جنديسابور بفارس ومنهم النضر بن الحارث الذي عاصر الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكان له موقف في معارضة الدعوة الاسلامية. فإن قيل أن جعفراً الصادق (عليه السلام) تعلم في مدرسة أبيه محمد الباقر (عليه السلام)، وأخذ الطب وسائر العلوم عن أبيه، فمن أين استقى الإمام الباقر (عليه السلام) هذه العلوم؟. مر بنا أن الهندسة والجغرافيا انتقلا من مصر إلى المدية المنورة، على أيدي أقباط مصر، أما الطب فلم تكن له عند العرب مدرسة قبل الاسلام، في حين أن مصر وفارس عرفتا مدارس شهيرة للطب(4). ولا يستبعد أن يكون هذا العلم قد انتقل بدوره من الفرس أو القبط، يؤكد ذلك أن في طب الصادق آراء ومسائل وردت في تاريخ الطب عند الفرس. فالطب القديم لم يكن حكراً لقوم دون آخرين، وإنما كانت هناك شعوب كثيرة كالاغريق والقبط والفرس تعني بتطور أساليب العلاج والتطبيب بالعقاقير. وكانت مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) في الطب أول مدرسة تؤسّس في الاسلام في شبه الجزيرة العربية، ولم تكن للعرب يومذاك عناية بالعلاج أو الوقاية، فمن اجتاز منهم أمراض الطفولة(5) قلّ أن يمرض طول حياته، نظراً لصلابة أجسامهم وقوة احتمالهم لقساوة البيئة في البادية، فإن مرض في كبره، تركوه عند الآلهة حتى يشفى أو يموت. والقواعد العامة لعلم الطب التي كانت تتداول وتُدرَّس في مختلف المدارس هي قواعد متشابهة، غير أننا نرى في مدرسة جعفر الصادق ما لا نراه في مدرسةٍ قبلها، مما يدل على أنه هو المستنبط لهذه القواعد والواضع لهذه النظريات(6). |