ومضة عن حياة الوائلي رحمه الله

وصل نعي الراحل الجليل الأمين زين الدين طاب ثراه إلينا في غربة و التعرض
للفجائع في الغربة يضاعف من وقعها.

ويهون الأمر لو كانت الفجيعة بأمور يهون فقدها أو تكون قيمتها مما يسهل السخاء
به أما إذا كانت بفكر مبدع وقلم مترف رصين جنّد نفسه لإعلاء كلمة الله والذود عن
حياض العقيدة فذلك مما يوجع القلوب ويوجب الحسرة ولكن لقضاء الله عز وجل وله الحمد
على ما كتب.

ولما كنت بصدد استعراض بعض الملامح للراحل الجليل وليس الإلمام بكل سيرته وقفت
طويلاً أتأمل: ماذا أختار وبما ذا أبتدئ والرجل كله حسنات ومزاياه لا يفضل بعضها
على بعض من حيث النسبة والنوعية. وفي مثل هذه الحالة يقف القلم حائراً: فالراحل
جهبذ في العلم، وحبر في التقوى، وروضة في الأخلاق وشعلة في النشاط الفكري وهكذا.
ولكني بصدد تسجيل بعض الخواطر حول ما يتميز به حملة الرسالات من أهل العلم:

قد يكون هناك عالم ضليع في تخصصه في أي بعد من أبعاد المعرفة ولكنه لا يتعدى
كونه كتاباً مغلقاً على نفسه يحفل بالعمق والأصالة والفائدة بدون أن تصل للآخرين
وكم هو عظيم قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): " ما أخذ الله على الجهال أن
يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا " والراحل ممن علم فعمل وعلّم سواءً عن طريق
الكتاب أو بطريقة مباشرة في تفاعل مع المتعلمين.

وقد يكون هناك من هو على علم وفي خط التعليم نقل أفكاره للآخرين في درجة من
الشعور بالذات تضع بينه وبين القلوب حاجزاً فهو لا يألف ويرى فيما انتهى إليه من
علم ومكانة شيئاً يحمله على الاعتداد بما لم يصل إليه الآخرون، وزينة العلم
التواضع.

وقد قدر لهذا الراحل أن يحظى بخلق رضي وتواضع جم وعفوية تحببه للنفوس وتبني له
مكانة في القلوب ويعرف ذلك من عرف الأمين زين الدين فما رأيت هذا الرجل يوماً إلا
واستحضرت قوله تعالى: " وعباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هوناً ".

وقد يكون هناك من يجمع بين العلم والتعليم والخلق ولكنه يتقوقع إذا صادف وطيساً
حامياً وتفارقه الجرأة على طرح فكرة تقارع الانحراف وتقف بوجه الضلال ولا يعدم
وسيلة من وسائل تبرير ذلك تظهر براقةً ويختفي تحتها الجبن والنكول عن المواجهة
المسؤولية.

ولقد عهدت الراحل يتميز بجرأة غير قليلة في التعبير عن آرائه والجهد بالحق
والوضوح في الرؤيا.كان كل ذلك وإلى جانب ذلك منفتحاً على الناشئة وعلى تماس بهم
يتصدى لإجابة أسئلتهم ويسدد من خطاهم ويناقش ما يدور في أذهانهم ولم يظهر عليه فيما
عالج من وسائل انحياز لاتجاه معين وإنما كان على مائدة آل محمد، بما فيها من سعة
وشمول.

وكان يرفد مضمونه الفكري بما جد من فكر على الساحة الإسلامية والإنسانية وكنت
أدخل إلى – القيصرية – في النجف وهي مكان المكتبات التي تبيع الكتب ومن النادر أن
لا أجده هناك كلما دخلت يجلس عند مكتبة عبد العزيز البغدادي يسأل عن الجديد في عالم
الكتب وعما يعرض من كتب قديمة للبيع فلا يخرج من هناك إلا بصيد جديد.

ولقد انعكست هذه الموسوعية في آرائه التي نشرها فيما ألف من كتب وإن كانت صغيرة
في حجمها ولكنها غنية بمضمونها ومنها: إلى الطليعة المؤمنة، والعفاف بين السلب
والإيجاب، ومن أشعة القرآن، والإسلام بينابيعه ومناهجه، ورسالات السماء وغيرها وهي
مما يخاطب بها شرائح متنوعة وتتسم بطابع تربوي تلقيني ولا ينظر فيها عادةً إلى
العمق بقدر ما ينظر فيها للوصول إلى نوعية الآخرين.

أما الكتب ذات التخصص التي تخاطب الأقران وتحدد المكانة العلمية في العلمين
الأساسيين الأصول والفقه فلم تحرم الساحة من عطائه فيهما كما هو الحال في تعليقته
على العروة الوثقى للسيد كاظم اليزدي (قدس سره ) وعلى الرسالة الصلاتية للمحدث
البحراني (طاب ثراه)، وفي تقريرات بحث أستاذه الضياء العراقي (رفع الله قدره) – ما
يزال مخطوطاً – إلى غير ذلك.

يضاف لذلك مزاج أدبي يهتز للنص الشعري أو البشري وهو رافد جف في ساحتنا العلمية
لا لعدم أهميته أو لعدم تذوق ولكنه صار يعطي انطباعاً عن حامله بأنه من الأدباء
وليس ممن تميزوا بالغوص والعمق في ميادين الفقه والأصول مع أنه لا مانعة جمع هناك
وإنما هو مجرد تصور بأن ذلك صرف للوقت فيما لا جدوى مهمة منه, إن ذلك بخلاف ما كانت
عليه حوزاتنا في صدرها الأول كما هو معروف لمن له أدنى إلمام بتاريخنا العلمي.

لقد كان رحمه الله أدبياً مطبوعاً وإن لم يمارس ذلك تمشياً مع المزاج السائد
ولأنه لا يشكل مفارقة.

وبعد ذلك كله لقد اتسعت مساحة عطائه فشملت كلاً من البحرين والمنطقة الشرقية من
السعودية وجنوب العراق فكان في ذلك كالغيث أينما وقع نفع.

لقد شكل في ذلك جزءاً ليس بالقليل من ظاهرة الوعظ العقائدي والأخلاقي. وكان
واعظاً بسيرته وأخلاقه قبل أن يكون واعظاً بقلمه ولسانه والاستقامة لسان بليغ وفاعل
أكثر من غيره.

وما عساني أذكر في هذه العجالة واللمحات السريعة عن روح تكبر عن الكلمات بما
حملت من تقوى وعلم وخلق عبّرت عنه كلمة التقوى في أجزائها العشرة.

ولأن آمّنا بحكمة القدر والإرادة التي استأثرت به في ظرف يحتاج أمثاله ويفتقر
للأبرار فليس ذلك مما ينسينا عظم الخسارة. رحم الله الراحل الجليل وأمطر ضريحه
بشآبيب رحمته وهنيئاً له جوار أبي تراب في التراب الطهور وأنا لله وأنا إليه
راجعون.

الدكتور الشيخ أحمد الوائلي
دمشق 17/ ربيع الأول/1419 هـ

بارك الله بك أخي الكريم

جزاك الله فيك على الموضوع القيم